لكثرة ما يقرأ الواحد منا عن الكاتب الأميركي آرثر ميللر (1915 – 2005)، لا سيما خارج إطار مسرحياته، ولكثرة ما يذكره كزوج أخير لمارلين مونرو، ثم كوالد لزوجة الممثل الكبير دانيال داي – لويس، ثم كأب ثارت فضيحة كبرى من حول تخليه يوماً عن ابن معوق له، ينتهي الأمر بنا إلى التآلف معه بصورة مطلقة فنعامله كأنه واحد من العائلة، بل نميل إلى مسامحته على كل "الموبقات" التي ارتبطت بحياته، لمجرد أن نطلع على تفاصيل مواقفه المضادة للجنة السناتور ماكارثي القامعة لكل الديمقراطيين في أميركا بداية الخمسينيات، ومن ثم نستعرض موقفه السلبي جداً من "الواشي" إيليا كازان الذي كان قبل ذلك واحداً من أقرب أصدقائه.
حالة خاصة
في اختصار، كان آرثر ميللر حالة خاصة. وربما ينسينا هذا الوضع أحياناً أن آرثر ميللر هو "أيضاً" واحد من كبار كتاب المسرح خلال القرن العشرين. ومن ثم حسبنا أن نشاهد عرضاً لواحدة من مسرحياته أو نقرأ ما هو مطبوع منها، حتى نجدنا أمام ذلك الكاتب الذي لا شك أنه كان واحداً من أعظم الذين سبروا في مسرحياتهم ثنايا الحلم الأميركي بكل ما حمله هذا الحلم، وبخاصة من سلبيات.
بشكل عام ينظر كثر إلى مسرحية "كلهم أبنائي" لآرثر ميللر باعتبارها أولى مسرحياته الكبرى، هي التي كانت في عام 1946 الثانية بين محاولاته الكتابية للمسرح بعد الأولى، "الرجل الذي تحقق له الحظ كله" التي فشلت في تحقيق أي نجاح في عرضها في برودواي وفضل ميللر دائماً نسيانها، وطبعاً لصالح النجاح الكبير الذي سيكون لـ"كلهم أبنائي" إذ قدمت في 328 عرضاً متتالياً في نيويورك بين 1947 و1949 من إخراج إيليا كازان نفسه، في واحدة من تجاربه المسرحية الأكثر نجاحاً. وهي سرعان من اقتبست فيلماً سينمائياً أولاً عام 1948، لتعود وتقتبس مرات ومرات بعد ذلك. ومن هنا تعد "كلهم أبنائي" الخطوة الكبرى التي خطاها آرثر ميلر نحو ترسيخ مكانته في الحياة الأدبية والفنية، وهي مكانة لن تخيب طوال العقود التالية من السنين، إذ بات ميللر يصنف إلى جانب إدوارد آلبي وتنيسي ويليامز بوصفهم الورثة الكبار للحداثة المسرحية الأميركية ليوجين أونيل وكليفورد أوديتس وحتى ليليان هيلمان، ممن ساروا على خطى النرويجي هنريك إبسن والروسي أنطون تشيخوف في ابتداع مسرع واقعي يفضح الرياء الاجتماعي، ويكشف عن زيف الأحلام الوردية معطياً موقعاً للحياة نفسها على خشبة المسرح. ولكن أي حياة!
أسلحة فاسدة!
للوهلة الأولى سيفاجئنا نحن القراء العرب، ذلك التزامن بين هذه المسرحية وبين الحملة الصحافية التي خاضها الصحافي المصري الشاب إحسان عبد القدوس في ذلك الحين ضد فضيحة الأسلحة الفاسدة، التي ارتبطت بهزيمة القوات المصرية في حرب فلسطين وأدت الحملة يومها إلى ثورة الضباط الأحرار. فمسرحية "كلهم أبنائي" التي كتبها ميللر قبل أشهر من خوض عبد القدوس حملته، حتى وإن كانت قد كتبت بتأثير من مسرحية "البطة البرية" لإبسن الذي دائماً ما اعترف ميللر أنه أستاذه، تدور بدورها من حول فضيحة منتجات عسكرية فاسدة تورط فيها ضباط وصناعيون وأعضاء كبار في مجلس الشيوخ الأميركي. ولسوف يحلو لميلر دائماً أن يروي كيف أن المسرحية ولدت لديه من خلال خبر صحافي لفتت نظره إليه حماته في ذلك الحين، ليجد المسألة دسمة إلى درجة تمكنه من كتابة مسرحية عنها غير عابئ باستشراء اليمين المتطرف ولجنة ماكارثي في ذلك الحين. وهكذا انصرف إلى إنجاز الكتابة خلال أسابيع قليلة، لتقدم المسرحية على الفور رابطة بين تطلعات الفنان وأحداث الواقع من حول إخفاق الحلم الأميركي وتحوله إلى حطام في وقت كانت أميركا تحتفل فيه بدخولها زمن العالم ووراثتها النفوذ الأوروبي في جزء كبير من ذلك العالم. لقد أتت "كلهم أبنائي" يومها لتفرمل الشعور بالرضا عن الذات وتكشف أوهام حلم سرعان ما سيتحول إلى كابوس...
من الوسط العائلي إلى الأمة
مثلما الحال في معظم نتاجات المسرح الواقعي الأميركي الكبير، تنطلق "كلهم أبنائي" من البيئة العائلية لتحط فيها في نهاية الأمر، لكنها كذلك مثلما الحال في الأدب الأميركي المسرحي الأكثر ذكاء ومشاكسة، تحلق في طريقها في القضايا الكبرى المتعلقة بأوضاع الأمة الكبيرة مروراً بالحلم الأميركي الذي لطالما أقضت غيبته مضاجع الأميركيين الأكثر ذكاءً. وبهذا التحليق عرف آرثر ميللر كيف يخوض اللعبة المسرحية الأميركية من بابها العريض، حتى وإن كان سيقول دائماً، إن نقطة المركز بالنسبة إليه كانت السير على خطى إبسن. ففي "كلهم أبنائي" التي تبدو أرسطية للغاية من كون وحدة الحدث والمكان والموضوع تتجلى فيها بقوة، لدينا ثلاثة فصول لا تتغير فيها الأمكنة وتبدو متلاحقة زمنياً لتحدثنا عن ماض لا يريد أن يمضي بعد. وهو ماض يدور من حول العلاقة بين عائلتين جارتين فرق الزمن بينهما، ولكن ليس الزمن وحده: عائلة كيللر وعائلة ديفر. ومحور الحدث هو رب العائلة الأولى جو الستيني الذي طلع بحكم براءة في قضية توريد قطع فاسدة لطائرات حربية أميركية خلال الحرب العالمية الثانية، وكان قد تسبب عن ذلك سقوط 21 طائرة ومقتل طياريها بمن فيهم ضابط الطيران لاري كيلر ابن العائلة. صحيح أن الأم كيت لا تصدق أن ابنها قد قتل، مؤمنة بأنه سوف يعود حتماً، لكن الجميع يعرفون أن أمنيتها لن تتحقق، لا سيما كريس الابن الثاني للعائلة، الذي يتحضر الآن بعد ثلاث سنوات من "الحادثة" والمحاكمة لاستقبال وخطبة آن ديفر الخطيبة السابقة لأخيه الراحل وابنة شريك الأب في "القضية" جورج ديفر الذي حوكم وحده ويقبع الآن في السجن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من يدفع الثمن؟
من الواضح الآن أن جورج يدفع الثمن عنه وعن شريكه السابق في نوع من المسكوت عنه بين العائلتين، وقد انفرطت الشراكة بين الرجلين وباتت الذكرى تؤرق من يعرفون بأن "براءة" جو لم تكن صادقة. وهكذا خلال الأيام القليلة التي تدور فيها الحكاية أمام أعيننا، وفيما آن وكريس يريدان من الأم كيت أن تقتنع أن لاري لن يعود، فيما يهدد عناد هذه الأخيرة التناغم العائلي الذي انبنى على تضحية الطيار الراحل والصناعي السجين، بالانفجار، نجدنا بالطبع أمام أشياء كثيرة تكمن عادة تحت سطح الانسجام الذي يؤمنه الحلم الأميركي والتواطؤ العام. ويمكننا أن نقول هنا أن هذا الموقف لآرثر ميللر من الحلم الأميركي وإصراره على فضحه سيكون في خلفية استدعاء لجنة السناتور ماكارثي للنشاطات المعادية لأميركا للكاتب ومحاكمته. غير أن هذا موضوع آخر. المهم هنا هو تلك الولادة القوية لمتن مسرحي بالغ القسوة عرف منذ مسرحيته الكبيرة الأولى كيف يشتغل على جوانية الشخصيات وما تسكت عنه، وازدواجية الصورة المرسومة لتلك الشخصيات، انطلاقاً من فكرة تبدو بسيطة للوهلة الأولى وعنوانها "ذنب الذين نجوا بجلدهم" كما سيقول آرثر ميللر نفسه. من دون أن ننسى هنا الدلالة العميقة لما يتكشف لنا في نهاية الأمر مدمراً في طريقه كل شيء، رسالة متأخرة من لاري يؤكد فيها أن اكتشافه لفساد قطع الطائرات وضلوع أبيه في تلك الفضيحة هو الذي دفعه لأن ينتحر وهو على متن طائرته... وربما تكفيراً عن ذنب أبيه بعدما تأكد من مقتل رفاق سابقين له في طائرات زودت بتلك القطع!
الكاتب ضمير بلده
كان من الواضح أن آرثر ميللر لم يكن يخوض مغامرة كبير على صعيد إمكانية أن تحقق هذه المسرحية نجاحاً استثنائياً. فالنجاح كان مضموناً، وكذلك كان من المؤكد أن "كلهم أبنائي" سوف تفتح أبواب النجاح واسعة أمام كاتب يعرف كيف يدنو من موضوعاته ويحملها أفكاراً تعتمل في أذهان الأميركيين وغير الأميركيين أيضاً، في أزمان جديدة كانت قد بدأت تفقد البراءة فيها جزءاً كبيراً من فعاليتها. وبالفعل تحقق هذا خلال العقود التالية التي شهدت مسرحيات وكتابات أخرى، بل حتى مواقف سياسية وفكرية لميللر جعلته ضميراً أميركياً من نوع جديد.