مع دخول السباق الرئاسي في إيران أمتاره الأخيرة، مع بدء مرحلة تسجيل أسماء المرشحين في وزارة الداخلية، قبل الانتقال إلى المرحلة الثانية التي تقع ضمن صلاحيات "لجنة دراسة أهلية المرشحين" في مجلس صيانة الدستور لشطب أو تأييد الأشخاص الذين يحق لهم الاستمرار في السباق، يُفترض أن تذهب الساحة الإيرانية والمعركة الرئاسية نحو مزيد من اتضاح صورة الفرقاء السياسيين المتنافسين للوصول إلى رئاسة الجمهورية وقيادة السلطة التنفيذية، التي قد لا تكون خاضعة للتقسيم التقليدي الذي كان متعارفاً عليه في الانتخابات السابقة، أي بين المعسكرَين الإصلاحي والمحافظ. بل قد تشهد الساحة تبلور انقسامات داخل المعسكر الواحد، وتتعدد القوى التي تدعي حصرية تمثيل كل من المعسكرَين، إضافة إلى تكريس معسكر جديد تحت اسم "المعتدلين" كظاهرة جديدة واضحة ومحددة المعالم في الحياة السياسية، التي قد تُعد تطوراً أو تطويراً لتجربة الرئيس الحالي حسن روحاني الذي أسس لهذه الظاهرة التي اعتمدت على دعم القوى الإصلاحية التي كانت مُجبَرة على تبنيه كخيار لها في انتخابات عام 2013، نظراً إلى تأثير ودور الرئيس السابق، الشيخ هاشمي رفسنجاني، الشخصية الإشكالية في النظام والسلطة، الذي وجد في روحاني امتداداً لمدرسته السياسية، وأيضاً لعدم وجود بديل عنه بهوية إصلاحية واضحة في انتخابات عام 2017.
لا اختلاف
المعسكر المحافظ، لا يرى اختلافاً كبيراً في المواقف الداخلية والاقتصادية والسياسات الدولية بين المعسكرين، الإصلاحي التاريخي والمعتدل المستجد، ويتهمهما بأنهما يتبنيان سياسة خفض التوتر مع كل الدول، وأنهما يعتبران أن قسماً من العداء الذي يسيطر على الأجواء الدولية تجاه إيران هو نتيجة سوء تفاهم يمكن حله من خلال الحوار. كما يعتبر المعسكر المحافظ أن الإصلاحيين والمعتدلين يضعان هدفاً أساسياً لهما يقوم على السعي إلى التفاهم والتعاون مع الغرب بأي وسيلة ممكنة، حتى وإن كان الثمن هو التخلي عن بعض الأسس المبدئية والأطر العامة للمصالح الوطنية والقومية.
ولا تقف الاتهامات التي يوجهها المعسكر المحافظ إلى المعسكرين المنافسين له عند حدود هذه النظرة، بل تتعداها لتطال رؤيتهما وتعاطيهما مع المفاوضات النووية الجارية في فيينا. ويقول إنهما يعقدان الأمل على التوصل إلى نتائج في المفاوضات تسمح لهما باستثمارها في تحسين شروطهما للفوز بالانتخابات الرئاسية، مثل الرهان على تحرير جزء من الأموال الإيرانية المجمدة، بحيث يصبح لهما الحق بالادعاء بأن الاتفاق النووي قد آتى ثماره، وأن حل أزمات إيران يكمن في الاستمرار بهذه السياسات وهذا النهج الحواري والانفتاحي.
ويتهم المحافظون الإصلاحيين والمعتدلين على حد سواء بالترويج، لأن رؤيتهم لحل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها إيران تكمن في الاندماج في النظام الدولي، وأنهم حاولوا تكريس هذه الرؤية على مدى السنوات الثماني من رئاسة روحاني، ما أدى إلى تحويل الاقتصاد والإنتاج الوطني إلى رهينة وتابع للسياسة الخارجية بشكل أدى إلى ربطه بحل المشكلات الدبلوماسية، ما انعكس سلباً على الطبقات الفقيرة في المجتمع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خلاف فكري
إضافة إلى تأصيل الاختلافات حول الأبعاد التفاوضية والاقتصادية والأهداف التي يسعى وراءها الإصلاحيون في تناقض مع ما يريده المحافظون ويسعون له، يركز هؤلاء على الخلاف الفكري والثقافي الذي بات واضحاً من وجهة نظرهم مع الإصلاحيين، ويتهمونهم بأنهم لا يؤمنون أو يعتقدون بدور الدولة الموجِّهة والفاعلة، وأن فكرتهم حول دور الدولة تقترب، أو تتطابق مع الفكر الليبرالي وحتى النيو ليبرالي، وضرورة تقليص دورها في المجال الثقافي بما يساعد على الانفتاح، مستفيدين من فتح الفضاء الافتراضي "الإنترنت"، وهي سياسات، برأي المحافظين، تساعد على زيادة الانحرافات الاجتماعية وضرب بنية العائلة والمجتمع.
ويعتقد المحافظون أن "التكليف الشرعي والوطني" الذي يقع على عاتقهم يتمثل أيضاً في محاربة التوجهات الإصلاحية في السياسات الداخلية التي تقوم على التعددية والتنمية السياسية ذات الصبغة العلمانية، من خلال رفع شعارات مثل "جماعة المشروطة" أو الجمهورية، التي تهدف إلى النيل من صلاحيات "ولاية الفقيه المطلقة" والنفوذ الذي يتمتع به المرشد الأعلى، بالتالي العبور عن السلطة الدينية واستبعاد "ولاية الفقيه" وتغيير الدستور والتصدي لدور "مجلس صيانة الدستور" وإطلاق الحريات السياسية من دون ضوابط ومحددات.
من هنا فإن المعسكر المحافظ قد يذهب إلى استخدام كل ما في جعبته من صلاحيات لمواجهة التهديد الذي قد يشكله الإصلاحيون في الانتخابات الرئاسية، والعمل على سحب أوراق القوة التي يتخوف من استخدامها في هذه المعركة، مثل التأكيد على أهمية التفاوض النووي مع الغرب ودوره في حل أزمات البلاد، إلى جانب توظيف شعار "إطلاق الحريات الشبابية" والحد من الرقابة الثقافية والاجتماعية، بما فيها على الفضاء الافتراضي، ثم التأكيد على إجراء انتخابات حرة وإلا اللجوء إلى توجيه الاتهام إلى النظام ومجلس صيانة الدستور بهندسة الانتخابات.
نشر الشعارات القديمة
وفي مقابل تحديد المعسكر المحافظ لمصادر التهديد الآتية من القوى الإصلاحية وحتى المعتدلة، فإنه سيعمل على تكريس رؤيته الأيديولوجية والسياسية المتعلقة بالدولة والسلطة والإدارة ومؤسسات الدولة وعلاقاتها الداخلية والخارجية، من خلال التأكيد في معركة المواجهة مع خصومه، على نشر وتكريس الشعارات الأصلية لـ"الثورة الإسلامية" والحرية وثنائية الإسلامية والجمهورية في ظل تعاليم الإسلام السياسي والثوري. وينظّر هذا الخطاب للتنمية والتقدم في إيران من منظور داخلي بناءً على القدرات الذاتية الإيرانية التي تعتمد على تعزيز البنى الذاتية والقدرات المادية والإنسانية للبلاد.
وسيتمسك هذا المعسكر بموقف غير المتخوف من التفاوض والحوار، لكنه لا يربط التنمية بحل أزماته مع الغرب، فالأسس التي تشكل خطابه في السياسة الخارجية مبنية على ثلاثة مبادئ هي "العزة والحكمة والمصلحة"، مع مراعاة تامة للخطوط الحمراء التي يعتقد بها وعدم الإذعان للأطماع العالمية والصهيونية، ومطلب الاعتراف بـ"الكيان الصهيوني" والتمسك بالدفاع عن المحرومين والمستضعفين أمام المستكبرين، وهنا فإن هذا المبدأ، وإن كان متضمناً في الدستور الإيراني، إلا أنه يشكل المنطلق الذي يعتمد عليه النظام لتوفير الغطاء لسياساته الإقليمية ونفوذه الخارجي.
هذا التأطير الذي يعمد له المحافظون لتسويغ معركتهم الانتخابية ضد القوى الإصلاحية والمعتدلة، يرى ضرورةً في العودة إلى المنطلقات في محاربة "الانحرافات الفكرية والاجتماعية" وتأكيد التمسك بمفهوم التنمية السياسية القائم على النموذج الإسلامي الإيراني في "الديمقراطية الدينية" التي تترجم شعارات ومبادئ الثورة، وتتعارض مع نموذج التنمية السياسية الغربية.
إن سعي القوى المحافظة لتكريس نفسها كمدافعة عن القيم الدينية والثورية التي تمثلها، تضع الطرف الآخر الذي يقدم قراءةً للثورة والدين مختلفة عن قراءتها، في موقع الخصم أو العدو، بالتالي قد تسمح هذه الثنائية الحادة لقوى النظام باستخدام كل الوسائل لتبتعد عن دائرة الخطر والخسارة، وبالتالي قد تستخدم البعد الديني لتسويغ كل الأفعال والممارسات ضد خصومها.