في دراسة علم الأخلاق يوجد أكثر من اتجاه عام في الجانبين القديم والحديث، فالتصور اليوناني يدور محوره حول "السعادة"، وكان الحكماء والشعراء يرون أنها تنحصر في اللذة الحسية، أما الفلاسفة فيرونها في اللذة العقلية. وفي المفهوم الديني، الأخلاق في الدنيا طريق إلى السعادة في الآخرة. وفي العصر الحديث هناك أكثر من تصور أيضاً، منها ما يدور مركزه حول "التجربة" أو "الواجب" أو "المنفعة" أو "التطور". وهكذا تنوعت وتشعبت التصورات الأخلاقية.
سقراط (469-399 ق. م)
بدأت الفلسفة الخلقية وفق منظورها العقلاني المتناسق فكراً وروحاً على يد سقراط، على الرغم من أن البعض سبقه في هذا المضمار، مثل السوفسطائيين والشعراء وغيرهم، لكن كانت محاولاتهم بسيطة وغالباً ما تقترن بأحكام ونصائح وتجارب فردية، ولم تكن ذات بناء فكري متكامل يرتقي إلى مستوى منهج فلسفي في الأخلاق. ودخل سقراط في صراع جدلي معهم. وبحسب تصوره، فإن الأحكام الأخلاقية هي بنية تتابعية متواصلة وفق نظام عقلي ثابت يرتبط بعضه ببعض ليشكل تسلسلاً في المراتب يكتشفه العقل وحده، وليست مجموعة متوالية كيفما اتفق الأمر.
ولقد اهتم سقراط بدراسة الحد الكلي والماهية المشتركة للإنسان أو الطبائع العامة للأشياء، وبذلك وضع الساف الأول في تشييد علم الأخلاق.
فالعلم الذي يراه سقراط، يبتدئ بتحديد المعاني وإقامة التصورات من خلال عملية الاستقراء والانتقال من الجزئي إلى الكلي، وبذلك وضع للأخلاق نظاماً متماسك الأجزاء وراسخ البنيان. فالموجودات الذهنية هي الموجودات الحقيقية، وبما أن الوجود العقلي أسمى من الوجود الحسي، إذاً فإن الحياة الحقيقية هي الحياة التي تستضيء بنور العقل. وعلى هذا المبدأ، يعد السلوك الأخلاقي هو ذلك السلوك الذي يعتمد على المعرفة والتفكير، وأن الفضيلة تتضمن معنى العلم، والعلم يقوم على الفضيلة.
بعبارة أخرى، يرى سقراط أن الأخلاق من ميدان العقل فحسب، وليس من ميادين الدين أو التقاليد أو الأعراف، ولكي نتصف بالأخلاق الفاضلة علينا بالعلم والمعرفة، إذ بينهما ترابط وتماسك. فالعلم هو الذي يحدد قيمة كل شيء، ويبين أين يكون الخير، وكيف السبيل إلى تحقيقه. ومتى حصل هذا العلم لم يبقَ مجال لتمييز العلم من الفضيلة، لأن الذي يعلم علماً حقيقياً فإن هذا العلم خير، ويعلم في الوقت نفسه أن من صالحه أن يقوم به. وعليه، من غير الممكن ألا يريد القيام به، لأن الإرادة لا تشير بضد ما يشير به العقل، وخطؤها يعني ضلال العقل نفسه.
لذلك، متى ما علمنا إن هذا خير أردناه، ومتى أردناه فعلناه، إذ كل منا إنما يطلب الخير لنفسه، والخير إنما يكون بتوافق الإرادة والعقل. أي إن إنجاز الخير يتحقق بالعمل وفق العلم والمعرفة. ومن هنا، لا يرتكب الإنسان فعل الشر بمحض اختياره، ولا يرغب فيه حين يعلم علماً يقينياً واضحاً ما هو الخير. وعندما يجنح الإنسان لفعل الشر، فهو إنما يجنح له بسبب جهله به، فكل الشرور ناتجة من الجهل، وجميع الخيرات مبعثها العلم. ومع ذلك، بمقدور الإنسان أن يتعلم الصدق والعدل والشجاعة وما إليها، ومن الممكن تعويده على فعل الخير باطلاعه على نتائج الأعمال الحسنة، ولا علاج للشرير أفضل من تعليمه نتائج سوء أفعاله التي ارتكبها.
صفوة القول، يرى سقراط، أن الإنسان يبحث عن السعادة، فإذا عرف بمحض العقل أن الفضيلة هي الطريق الوحيدة للسعادة، فإنه لا يخطئ طريقها. فالإنسان لا يقوم بعمل يؤدي به إلى شقاء وهو مدرك بذلك ومختار له. والأشرار جهلاء بالوسائل التي تقودهم إلى الغايات الطيبة، وعلاجهم من خلال تصحيح معلوماتهم، لا بتقويم نياتهم، لأنهم لا ينوون إلا خير أنفسهم ولكنهم يجهلون حقيقة هذا الخير، ولا يعرفون وسائله. وسقراط هنا، يجعل وجود النية الحسنة مغروسة في الإنسان، ويسميها "الطبيعة الخيرة" التي تنحرف عن مقصدها بسبب الجهل لا أكثر.
أفلاطون (427-347 ق. م)
اهتم أفلاطون بالأخلاق جراء تأثره بأستاذه سقراط، وكتب محاوراته الأخلاقية على غراره، وذلك في تقديم مبدأ العقل والقانون على بقية مبادئ الغريزة والمنفعة واللذة والطبيعة. ففي محاورة "بروتاغوراس" ينص أفلاطون على أن القانون ليس كما يعتقد السوفسطائيون، بأنه اتفاق بين طرفين متساويين، بل رابطة عضوية متينة بين الفرد والدولة، مثل رابطة العضو بالجسد.
وفي محاورة "جورجياس"، يرى أن غاية الحياة الأولى ليست في إرضاء الشهوات وإشباع الملذات، وإنما في عمل الخير والالتزام بالفضيلة. إذ إن حياة اللذة مدعاة للشقاء، لأنها لا تقف عند حد معقول، بل تظل تطلب المزيد على الدوام مثل قربة مثقوبة لا يمكن ملؤها. لكن أفلاطون يفرق بين لذائذ مفيدة ينجم عنها تحقيق الخير والفضيلة، وأخرى ضارة لا تأتي بخير، وعلينا معرفة الأشياء، خصوصاً، كما جاء في محاورة "بارمنيدس"، أن "المعرفة في عالمنا يجب أن تكون عن الواقع في عالمنا، علاوة على ذلك، يجب أن يكون كل فرع من فروع المعرفة في عالمنا معرفة بقسم من الوجود في عالمنا". (طبعة إنجليزية).
وبحسب رأي أفلاطون، فإن الحياة المثالية تعتمد على مدى إحاطة صاحبها من الفلسفة، وعلى قدرته في تثمين الأشياء. إذ كلما تفوق فيه نداء العقل والفلسفة على مبدأ البطش واللذة، ارتفع وسمى حتى يبلغ السعادة القصوى. لذلك، في محاورة "فيدون" يصف الخير، بأنه الخلاص من الجسد واستئصال الشهوات والقضاء على الحياة الحسية. إذ "بالتأكيد يمكن للروح أن تنعكس عندما تكون خالية من كل المشتتات مثل السمع أو البصر أو الألم أو المتعة من أي نوع. بمعنى عندما تتجاهل الجسد وتصبح مستقلة قدر الإمكان، وتتجنب جميع الاتصالات الجسدية والارتباطات بقدر الإمكان وبقدر ما تستطيع في بحثها عن الواقع". (طبعة إنجليزية).
ولكن هذا المفهوم في محاورة "فيدون" أو غيرها من المحاورات المبكرة، قد تم تعديله في المحاورات المتأخرة، إذ كان أفلاطون لا يقصد تجاوز الحياة الحسية بالمعنى العام، بل إخضاعها إلى العقل فحسب، لذلك في محاورة "الجمهورية" يرى أن الخير لا يمكن تحقيقه إلا بتنظيم العلاقة بين قوى النفس المختلفة في حياة متوازنة تنتقي من اللذات أفضلها. لذا "من الضروري، إذاً، أن النفس الشريرة يجب أن تحكم وتعتني بالأمور بشكل سيء، والنفس الطيبة تؤدي كل هذه الأشياء بشكل جيد". (طبعة إنجليزية). إن "النفس هي سبب الأشياء جميعاً، ستكون سبب الخير والشر، الجمال والقبح، العدل والظلم وكل الأضداد". (النواميس. طبعة إنجليزية).
وإذا كان السوفسطائيون ينكرون قانون الأخلاق لأن الضعفاء أوجدوه لحمايتهم، وأن الفضيلة تعني اللذة، ويحق للإنسان أن يعمل ما يراه لذيذاً، فإن أفلاطون يرد عليهم، بأن هذا القول يجعل الحق نسبياً والفضيلة شخصية والأخلاق بلا قانون، وهذا منتهى الجهل، إضافة إلى أنه لا يفرق بين الخير والشر، ما ينفي عنهما حقيقة ذاتية ثابتة، فيؤدي إلى هدم الأخلاق والمجتمع، ويقضي على الإنسان والإنسانية.
ولذلك، سار أفلاطون على منوال سقراط، إذ عمد إلى تحديد الفضيلة، ونص على وجود ماهية خاصة لها، يكتشفها العقل فحسب، وأن العقل مشترك عام بين الناس كافة. فالفضيلة هي العمل الحق على أن يكون صادراً عن معرفة صحيحة بقيمة الحق. إنها الفضيلة العقلية التي تقوم على التأمل والتفكير وفهم المبدأ الذي ينبثق منه السلوك. وأن عمل الحق من دون فهم صحيح لقيمته، سواء بدافع من التقليد أو بحكم العرف والعادة أو تزلفاً، فليس من الفضيلة بغير الاسم فقط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى ضوء أنواع الأنفس الثلاثة، يقسم أفلاطون الفضائل إلى ثلاثة أنواع هي:
النفس الناطقة وتكون فضيلتها الحكمة، والنفس الغضبية التي فضيلتها الشجاعة، والنفس الغاذية إنما فضيلتها العفة. وجراء تناسق هذه الفضائل في قوى النفس، والتوازن في خيرها الطبيعي تتحقق سعادتها، التي هي داخلية وليست خارجية، إذ تنبع من ذاتية النفس. لذلك تجد العادل سعيد مهما اشتدت عليه ظروف الحياة، فالغنى هو غنى النفس البريئة من الشر، المتطلعة إلى الخير، المتنورة بالعلم والمعرفة، المتشوقة إلى مشاهدة الجمال خالصاً من كل زيف ومن رواسب الحس والزمان.
ويرى أفلاطون في الجمال مراحل أو أنواعاً، "من الجمال الجسدي إلى الجمال الأخلاقي، ومن الجمال الأخلاقي إلى جمال المعرفة، حتى من المعرفة بمختلف أنواعها يصل المرء إلى المعرفة العليا التي يكون هدفها الوحيد هو ذلك الجمال المطلق، ويعرف الجمال المطلق أخيراً". (محاورة الندوة. طبعة إنجليزية).
وكذلك يقسم أفلاطون الحب إلى أنواع، فالحب هو طلب الجمال، وله ثلاث درجات: أولها، حب الجمال الجسمي، الذي لا يليق بالفيلسوف. ثانيها، حب الجمال الروحي، وهو حب شريف. ثالثها، حب الجمال المطلق، الجمال الخالد الذي هو مصدر كل جمال وبهاء، ما يجعل النفس تتوق إلى عالمها المثالي العلوي، وتشعر بالراحة والطمأنينة أبداً.
هكذا هي الأخلاق عند أفلاطون، ومهما منحها سلطة عقلية تتحكم بالحياة الحسية، وتقوم على أساس العلم والمعرفة، فإن مجمل أفكاره وتصوراته تمتاز بطابع مثالي تجعل مفاهيم الأخلاق في الفضيلة والخير والجمال ذات اتجاه سماوي أكثر منه أرضي.