مُني حزب العمال البريطاني بخسارة انتخابية جديدة تنذر بما هو أسوأ في الأيام المقبلة، وتُعد بمثابة دليل إضافي على عمق الأزمة التي تعاني منها أحزاب اليسار الأوروبية.
ففي أنحاء القارة، يؤكد محللون كما شخصيات من داخل تلك الحركات أن الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية تكافح من أجل المحافظة على مواقعها، في وقت تشهد انقسامات داخلية وتفتقد رسالتها إلى التماسك وتعاني قياداتها من الضعف.
وفاقم وباء كوفيد-19 اتجاهاً بدأ يظهر منذ سنوات، منذ أزمة عام 2008 المالية العالمية على أقل تقدير، بينما برزت إلى السطح علامات التصدع الثقافي متجسدة في ملفات مثيرة للجدل على غرار "بريكست" في بريطانيا أو قيم جمهورية ضد "المتشددين الإسلاميين" في فرنسا.
وكتب رئيس الوزراء البريطاني العمالي الأسبق توني بلير في مجلة "نيو ستيتسمان" أن "الأحزاب السياسية تعتبر حقاً وجودياً مقدساً، وتواجه الأحزاب التقدمية من الوسط ويسار الوسط، حالة من التهميش وحتى الانقراض في أنحاء الغرب". وتابع "باختصار، وفضلاً عن جو بايدن، لا يوجد في أنحاء العالم الغربي اليوم إلا وميض هنا وهناك لأجندة تقدمية تحظى بدعم عميق من الأغلبية"، داعياً إلى اعتماد سياسات يسارية وسطية جديدة في حقبة تشهد تغيراً تكنولوجياً متسارعاً.
الطبقة العاملة
وأشارت صوفي بورنشليغل من مركز السياسة الأوروبية في بروكسل إلى أنه "من حق الشخصيات البارزة على غرار بلير أن تشعر بالقلق، بعد ما حقق المحافظون بزعامة رئيس الوزراء بوريس جونسون مكاسب مهمة في معاقل العماليين في انتخابات الأسبوع الماضي. وقالت لوكالة الصحافة الفرنسية إنه "في أنحاء بريطانيا وفرنسا وألمانيا، لم يعد هناك وجود للطبقة القديمة العاملة في مجال الصناعات، بينما طرأ تحول على ما كان في الماضي يُعرف على أنه الوسط". وأفادت "هناك ارتباط أقوى بالأحزاب التي تعكس خطوطاً ثقافية". وتابعت "أعتقد أنه تطور سلبي، لكن لا يمكن التراجع عنه، ولذلك لدى الاشتراكية الديمقراطية مشكلة حالياً، لأن عليهم تحديد أنفسهم على أساس خط النزاع هذا وهم لا يرغبون في ذلك".
ضعف في ألمانيا
وأقرت بورنشليغل بوجود معاناة من "غياب للقيادة وغياب للأفكار بكل تأكيد"، معلقة على وجه الخصوص على الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا الذي بدأ، أخيراً، يضع مقترحات جديدة لسياساته قبيل انتخابات سبتمبر (أيلول) المقبل لكن بعد "فوات الأوان"، بحسب تعبيرها.
ودخل "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" في ائتلاف قسري مع المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل التي يتقدم حزبها "الاتحاد المسيحي الديمقراطي" كما "حزب الخضر" بأشواط عليه، في وقت تستعد هي لمغادرة السلطة بعد 16 سنة على رأس المستشارية.
اشتراكيو فرنسا
في الأثناء، تظهر استطلاعات الرأي أن الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي كان في السلطة في عهد الرئيس السابق فرنسوا هولاند حتى عام 2017، حصل على أقل من عشر نقاط في الاستطلاعات قبل الانتخابات الرئاسية العام المقبل.
ويتوقَع الآن أن تقتصر المواجهة الرئاسية في فرنسا على الرئيس الوسطي إيمانويل ماكرون واليمين المتشدد، كما كانت الحال في المرة الأخيرة، بعد ما انسحب هولاند الذي لا يحظى بشعبية.
وأكد الرئيس الفرنسي السابق على إذاعة "فرانس إنتر"، الإثنين الماضي، أن "اليسار لا يقدم شيئاً، هذه هي المشكلة". وجاءت تصريحاته في ذكرى مرور 40 سنة على فوز فرنسوا ميتران في الانتخابات كأول رئيس اشتراكي للجمهورية الخامسة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إيطاليا وإسبانيا
وعلى غرار الحال في فرنسا، يعاني اليسار الإيطالي من التشرذم مع ظهور قوى أكثر راديكالية. أما في إسبانيا فلا يزال اليسار في السلطة، لكنه اتجه يساراً بشكل أكبر على أيدي حزب "بوديموس" منذ الأزمة الاقتصادية. وقضت إجراءات التقشف التي أعقبت الأزمة على حزب "باسوك" الاشتراكي اليوناني، ليظهر على إثر ذلك مصطلح جديد يصف التدهور الأوسع نطاقاً لليسار الوسطي في أوروبا بعبارة: "الباسوكية".
معاقبة التقشف
وعاقب الناخبون أحزاب اليسار الوسط التي مضت قدماً بفرض تدابير تقشف أو، كما في بريطانيا وألمانيا، اعتبرت مساهمة في الأزمة عبر فرض إصلاحات مسبقة داعمة للسوق.
وقال أستاذ العلوم السياسية في جامعة مانشستر ديميتريس بابادميتريو إن "على يسار الوسط أن يسعى إلى نيل الثقة".
وأشار إلى أن بإمكانه تحقيق ذلك "عبر برنامج اقتصادي ذي مصداقية لا يدمر الاقتصاد لكنه يقدم في الوقت ذاته أجندة اجتماعية تضمن عدم استمرار الغياب البشع للمساواة".
ولا يزال بإمكان حزب العمال الاعتماد على نظام بريطانيا الانتخابي القائم على فوز المرشح الذي يحظى بأكبر عدد من الأصوات في كل دائرة انتخابية (بخلاف التمثيل النسبي)، والذي يضمن عملياً هيمنة الحزبَين ويقطع الطريق على الحركات الناشئة التي أعادت رسم الخارطة السياسية في معظم أنحاء أوروبا.
لكن بابادميتريو حذر من أنه "قد لا يختفي لكن أن يتحول إلى حزب غير ذي قيمة على نحو دائم ممكن تماماً".
ويبدو أن المحافظين البريطانيين وجدوا في جونسون المتقلب، بلير الخاص بهم، على اعتبار أنه زعيم أكثر اهتماماً بتكتيكات الفوز في الانتخابات وإيصال الرسائل من اهتمامه بالأيديولوجيا، ويمكنه أن يتباهى بحملته الناجحة للتطعيم ضد فيروس كورونا.
وقال مدير مركز "المملكة المتحدة في أوروبا متغيرة" للأبحاث أناند مينون لوكالة الصحافة الفرنسية إنه "على غرار الحال مع العديد من الشعبويين في أوروبا، يلقى جونسون الذي يتبع سياسة سخية دعماً في أوساط الناخبين الذين يحسبون على اليسار في ما يتعلق بالسياسة الاقتصادية، لكنهم محافظون عندما يتعلق الأمر بالقيم والهوية"، لكنه حذر من أنه "بات على جونسون حالياً تحقيق إنجازات وهو ما سيكون مهمة صعبة على مدى العامين أو الأعوام الثلاثة المقبلة".