تعتبر بحيرة القرعون أكبر البحيرات الصناعية في لبنان بمساحة 12 كيلومتراً، وهي من المصادر الأساسية للري وتوليد الكهرباء. لكن مع مرور السنوات تحوّلت إلى مستنقع للصرف الصحي ولنفايات 69 بلدة، بما فيها مصانع أنشئت على طول ضفاف نهر الليطاني، حيث بلغ التلوث مستويات خطيرة. وتتالت الأزمات ومعها الوعود والمشاريع النائمة في الأدراج كحلول للتلوث المتراكم خلال عقود.
أما المشاريع، فإما أنها بقيت حبراً على ورق أو أنها طبّقت بشكل جزئي وعشوائي لأسباب متفاوتة، يأتي الفساد والإهمال على رأسها. إلى أن برز مشهد كارثي غير مسبوق أعاد فتح الملفات، ولفت الأنظار إلى أزمة حقيقية لا يمكن التهاون فيها، خصوصاً مع وجود خطر اتساع المشكلة ورقعة التلوث البيئي نحو أنهار أخرى وبحار ومياه جوفية.
عشرات الأطنان من الأسماك النافقة تجمّعت خلال أيام على سطح البحيرة وعلى مساحة خمسة كيلومترات على ضفافها، ما أثار حالة من الهلع، وأطلق أيضاً موجة من الاتهامات وتقاذف المسؤوليات، بينما لا يزال السبب الحقيقي لهذه الكارثة البيئية غير مؤكد، بانتظار صدور نتائج الدراسات والأبحاث على عينات من البحيرة.
تتعدد الاحتمالات، فيما يبقى مرجحاً أن يكون التلوث المتزايد عبر عقود، الذي بلغ مستويات خطيرة، السبب الرئيس. وتعمل فرق على إزالة الأسماك النافقة وطمرها في حفر معدة خصيصاً لهذه الغاية وفق معايير محددة، علماً أن المستويات المرتفعة من التلوث أدت إلى فرض حظر على الصيد من عام 2018 في البحيرة التي أنشئت في 1959.
تعددت الاحتمالات والكارثة واحدة
وفق خبراء ربما يكون السبب وراء هذ الكارثة الحاصلة فيروساً وبائياً، ما يهدد الصحة العامة. كما يمكن أن ينتج من نقص حاد في معدلات الأوكسجين في البحيرة، بسبب الارتفاع الكبير في معدلات التلوث. لكن ثمة أقاويل حول احتمال أن يكون ما حدث مفتعلاً نتيجة رمي مواد سامة فيها.
واللافت أن الأسماك النافقة هي حصراً من نوع "الكارب" النهري، على الرغم من وجود أنواع أخرى من الأسماك النهرية لم تتعرّض لأذى، ما يثير التساؤلات حول السبب الحقيقي وراء ما جرى لهذا النوع من الأسماك حصراً.
تقول الاختصاصية في سلامة البيئة والغذاء راغدة حصري، في حديثها إلى "اندبندنت عربية"، "الليطاني ملوّث منذ أعوام عدة، لكن ما حدث اليوم متغيّر عما اعتدنا عليه سابقاً. فمن أكثر من 20 عاماً، ترتفع معدلات الملوثات فيه من نيترات وفوسفات وجرثومة الـE. Coli بسبب الصرف الصحي الذي يصب في النهر. لكن، ما حصل في هذه المرحلة أن نسبة الملوثات في الأسطح المائية والمياه الجوفية تعدّت المعدلات الطبيعية، بحيث أصبح الليطاني من أكثر الأسطح المائية تلوثاً. وهذا ما يفسّر ميل المياه إلى الاخضرار من أشهر عدة مع النقص الحاد في معدلات الأوكسجين فيها".
وتضيف، "صحيح أن الاحتمالات متعددة إلا أن التلوث ربما يكون أهمها، لأن البيئة التي تواجه التلوث تنظف ذاتها تلقائياً، لكنها تصل إلى مرحلة تستنفد فيها قدرتها على تنظيف ذاتها والتخلص من الملوثات، تماماً كما بالنسبة إلى الجسم. فنهر الليطاني، وبحيرة القرعون تحديداً في مواجهة طويلة مع الصرف الصحي والمبيدات الزراعية من الأراضي الزراعية المحيطة والمؤسسات الصناعية التي تصب مخلفاتها فيه مع ما لها من غطاء سياسي يمنع المحاسبة في المنطقة. لذلك بلغت البيئة حداً أصبحت فيه منهكة، وأتى عامل إضافي أدى إلى هذه الكارثة".
وتوضح حصري، "من جهة أخرى، على سطح جلد السمك مستقبلات تمتص السموم بنسبة عالية، فهي بمثابة الإسفنجة التي تمتص الملوثات. والخطر بشكل خاص في استهلاك هذه الأسماك، كما حصل، إذ تبيّن أنه بيعت أطنان من الأسماك النافقة في منطقة البقاع وخارجها، ما يشكّل ضرراً كبيراً على المستهلك، على رأسه خطر الإصابة بالسرطان في المدى البعيد. فالأرقام تظهر ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات السرطان في المنطقة، نتيجة استهلاك السمك الملوث، لأن أثر غالبية الملوثات يظهر بعد سنوات من الاستهلاك".
وحذّرت المتخصصة في سلامة البيئة والغذاء أنه "إذا لم يجرِ العمل على إزالة الأوساخ وربما التغيير في مياه النهر حتى ترتاح، وتستعيد الأوكسجين، سيستمر تكاثر الجراثيم فيها وتزيد معدلات الملوثات وتركيز المواد الكيماوية بشكل تفقد فيه السيطرة على الأمور، وتكون المياه الجوفية والبحار والأنهار المحيطة مهددة بالخطر. لكن يبقى الأهم التأكد من المسببات ومعرفة أنواع المواد السامة التي أدت إلى الكارثة لتدارك الوضع، في مقابل العمل على تنفيذ المشاريع التي لا تزال متوقفة منذ أعوام طويلة للحد من مخاطر مماثلة مستقبلاً، وحتى لا يستمر الأذى والتلوث بهذا التزايد المتواصل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تمويل ومشاريع لم ترَ النور
مشكلة تلوث الليطاني تعود إلى تسعينيات القرن الماضي، ولها سببان أساسيان، وفق مدير عام مصلحة الليطاني الدكتور سامي علوية أوّلهما، "تحويل الدولة تصنيف الأراضي الزراعية المحيطة بالنهر إلى تصنيف صناعي آنذاك"، ما أدى إلى نشوء مؤسسات صناعية عند مجرى النهر من دون مراعاة لأدنى المعايير البيئية، مع ما نتج من ذلك من صرف صناعي وتلوث. أما العامل الثاني الذي تسبب بتلوث الليطاني بهذه المعدلات، فكان "اتجاه الدولة إلى إعادة الإعمار بهدف التنمية في المنطقة المحيطة". هذا فيما أنشئت شبكات صرف صحي سرعان ما تبيّن أنها بمثابة جريمة بيئية كونها تصب في النهر.
وشهدت أزمة التلوث المتراكم في النهر مع مرور الأعوام محطات عدة، ووضعت مشاريع موّلتها جهات مانحة خارجية عربية وأجنبية لإقامة محطات تكرير وشبكات صرف صحي. إلا أن التنفيذ "جرى بشكل عشوائي وجزئي"، وفق علوية، فبقيت غير مكتملة في القسم الأكبر منها على الرغم من توافر التمويل. هذا في ظل تبادل اتهامات ما بين مجلس الإنماء والإعمار من جهة والوزارات المعنية من دون أن تتحمّل أي جهة مسؤولياتها. تضاف إلى ذلك التدخلات السياسية لصالح المؤسسات الصناعية المخالفة التي أسهمت إلى حد كبير بالتلوث الحاصل، وغيرها من المؤسسات التي لعبت دوراً أيضاً في تأزم الوضع، وشكّلت عائقاً أمام الحلول المطروحة.
"بين سوء الإدارة والفساد والهدر وتفضيل مصالح المقاولين على مصالح الناس، تأزّم الوضع أكثر فأكثر مع مرور الأعوام، ولم تصِل الحلول مطروحة إلى نتيجة مرضية"، بحسب علويّة الذي يشير إلى محاولات عدة من جانب مصلحة الليطاني كإقامة حملة لمواجهة التعديات على الأملاك، إذ استطاعت تحرير 200 متر من الأراضي، إضافةً إلى إلزام مؤسسات ومطاعم بموجب دعاوى قضائية والوصول إلى نتيجة بنسبة 70 في المئة منها. كما جرى العمل على إقامة محطات تكرير وتشغيلها ومعالجة النفايات الصلبة مع إلزامها الخضوع للرقابة الصحية.
ويختتم علوية، "لكن ثمة مؤسسات لم تلتزم وهي في معظمها من المسالخ على الرغم من المتابعة القضائية، إلى جانب إقامة مخيمات النازحية في ظروف غير إنسانية وتحويل الصرف الصحي نحو النهر. هذه العوامل كلها تهدد بأن ينفجر الصرف الصحي في وجه اللبنانيين في أي وقت كان، نتيجة تزايد الأزمة لتطال المياه الجوفية والأنهار والبحار. خطورة الوضع تدعو حكماً إلى الإسراع في تنفيذ القوانين والمشاريع من دون تأخير أو مماطلة كما حدث إلى الآن، خصوصاً أن التمويل متوافر ولا يشكّل عائقاً"ً.
تلوث الليطاني أزمة قائمة بذاتها منذ عقود، ولعل مشهد الأسماك النافقة لفت الأنظار إليها مجدداً، على الرغم من أنها كانت موجودة دوماً. بانتظار أن تؤكد دراسة العينات حقيقة ما حصل بالنسبة إلى الأسماك في النهر، وأيّاً كانت نتيجتها تبقى الأزمة الأساسية موجودة وتستدعي توفير الحلول سريعاً من قبل الجهات المعنية، لأن المسألة لا تحتمل مزيداً من التأجيل. فهل تحفّز هذه الكارثة المعنيين على الإسراع في تأمين الحلول والتنفيذ؟