يبدو أننا قد نضطر إلى إضافة وصول المتحور الهندي من فيروس كورونا إلى المملكة المتحدة، إلى اللائحة الطويلة للآثار الضارة التي تسبب بها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست).
وعلى الرغم من أن الصلة التي تربط بين الاثنين قد تبدو بادئ الأمر متخيلة لا علاقة لها بالواقع، فإن هناك طريقة غير مباشرة يمكن من خلالها القول إن انسحاب البلاد من الاتحاد الأوروبي قد ساعد على فتح الباب أمام المتحور "بي1. 617.2" كي يدخل إلى بريطانيا.
تكمن جذور المسألة في التجارة، وفي حاجة بوريس جونسون الماسة للعثور على سوق للصادرات البريطانية بدلاً من سوق الاتحاد الأوروبي التي تمت التضحية بها على مذبح الـ"بريكست".
وعلى الرغم من إبرام رئيس الوزراء "اتفاقية التجارة والتعاون" مع بروكسل، التي تعفي البضائع البريطانية من الرسوم الجمركية إعفاء تاماً، فإن الـ"بريكست" قد خلق مجموعة من الحواجز التي لا يتطلب عبورها تسديد أي رسوم، أمام حركة التجارة بين ضفتي القناة الإنجليزية، وهي حواجز على شكل إجراءات بيروقراطية، ومعاملات ورقية ورسوم إضافية.
وأظهرت الأرقام التي أصدرها "مكتب الإحصاء الوطني" الأسبوع الماضي أن صادرات المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي قد انخفضت معدلاتها بنسبة 29 في المئة (13 مليار جنيه إسترليني) بالمقارنة مع الفترة نفسها من عام 2019. أما الصادرات التي ذهبت إلى بقية أنحاء العالم، فقد هبطت هي الأخرى بنسبة 7 في المئة خلال الفترة الآنفة الذكر نفسها، ما يدل على أن التراجع في التجارة مع أوروبا كان ناجماً بشكل شبه أكيد عن الـ"بريكست".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد قبلت الحكومة على الدوام أنه سيكون هناك عثرات وخلل في التجارة مع الاتحاد الأوروبي في أعقاب مغادرة السوق الأوربية الموحدة والاتحاد الجمركي، بيد أن رئيس الوزراء قد أصر على نحو يفيض بالحيوية والثقة بالنفس، على أن هذه الخسارة سيجري تعويضها، وحتى بقدر أكبر مما فقدناه، من خلال مشروع "بريطانيا العالمية" التي ستعقد صفقات تجارية جديدة مع الدول الموزعة في أنحاء العالم كلها.
وكان رئيس الوزراء قد أعلن قبل عام من الآن، وفي الوقت الذي كانت فيه جائحة فيروس كورونا قد بدأت تتفشى، أنه جاهز لخوض "لعبة شطرنج كبيرة متعددة الأبعاد"، تشتمل على التفاوض في الوقت نفسه مع دول شتى، من الولايات المتحدة إلى أستراليا، ومن نيوزيلاندا إلى الهند.
وفي تلك الحالة، فيما أنهت ليز تروس وزيرة التجارة الدولية 67 اتفاق "تجديد" للحفاظ على الترتيبات التي كانت تتمتع بها المملكة المتحدة سابقاً كدولة عضو في الاتحاد الأوروبي مع بلدان أخرى، كانت اليابان هي الدولة الوحيدة التي أبرمت اتفاقاً اشتمل على بعض الميزات الإضافية للشركات البريطانية – ومن المتوقع أن يؤدي ذلك إلى إضافة مجرد 0.07 في المئة إلى الناتج المحلي الإجمالي.
وبينما يُعتقد أن التوصل إلى اتفاق مع أستراليا بات وشيكاً، وتأمل المملكة المتحدة في الانخراط في "الاتفاقية الشاملة والمتدرجة للشراكة عبر المحيط الهادي" (CPTPP) التي تضم 11 بلداً، فإن الآمال المتعلقة بالتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة قد تلاشت مع انتخاب جو بايدن، كما أن عقد تحالف تجاري مع الصين يبدو حالياً احتمالاً بعيد المنال، وذلك لنظراً للتوتر المتنامي بإيقاع سريع مع بكين.
وهذا ما يجعل الهند أكبر شريك محتمل قد تبرم معه بريطانيا اتفاقية تجارية يمكنها أن تقطع شوطاً لا بأس به على طريق التعويض عن فرص التجارة التي ضاعت مع أوروبا.
وكان جونسون حريصاً على انتهاز الفرصة في أقرب وقت ممكن.
وبعد ما ألغى كوفيد-19 أي خطط محتملة للقيام برحلات خارجية في عام 2020، وضع رئيس الوزراء جونسون الهند في صدارة أولويات قائمة الزيارات التي يريد إجراءها في العام الحالي من أجل حشد الدعم للشركات البريطانية وتمهيد الطريق لوضع اتفاقية بالخطوط الأولى مع دلهي لتعزيز التجارة بين البلدين.
ولطالما تعثرت في الماضي الجهود الرامية إلى عقد اتفاقية مع الدولة العملاقة الواقعة في جنوب آسيا بسبب مطالبة دلهي منح المزيد من تأشيرات الدخول للعدد الهائل من كوادرها من الطلاب والمهنين الشباب.
إلا أن جونسون قد أعرب عن استعداده للمساومة بشأن هذه المسألة، وذلك من خلال إطلاق تصريحات متكررة بأن الخروج من الاتحاد الأوروبي سيسمح لبريطانيا بقبول دخول "الأفضل والأذكى" إليها من أنحاء العالم كافة، بدلاً من إعطاء الأسبقية لهؤلاء الذين ينتمون إلى دول الاتحاد الأوروبي الـ27 .
وكان من المقرر أن يتوجه رئيس الوزراء إلى الهند في الأسبوع الأخير من يناير (كانون الثاني) الماضي، ليحل ضيفاً رئيساً على نظيره ناريندرا مودي في احتفالات يوم الجمهورية، وكي يقوم بجولة رفيعة المستوى. وكانت الروابط التجارية مع الهند على رأس جدول أعمال أول زيارة ثنائية خارجية يقوم بها بصفته رئيساً للوزراء.
لكن كان لا بد من إلغاء تلك الزيارة فيما دخلت المملكة المتحدة مرحلة الإغلاق الثالث جراء ارتفاع حالات الإصابة بكوفيد.
بيد أن موعد الزيارة قد أُرجئ إلى 26 أبريل (نيسان) الماضي، وسط إعراب الطرفين عن أملهما بأن يكونا قد خرجا من تحت وطأة الجائحة بحلول ذلك الوقت.
إلا أن ظهور نسخ متحورة جديدة من فيروس كورونا قد وضعت حداً لذلك، وأدى إلى تقليص مدة الزيارة الأولى التي كان من المقرر أن تستغرق ثلاثة أيام بادئ الأمر ثم إلغاؤها بالكامل في 19 أبريل، وذلك فيما كانت الهند تتحول بشكل سريع إلى البؤرة الأكثر سخونة في العالم من حيث تفشي الفيروس.
وبدلاً من الاجتماع وجهاً لوجه، أجرى جونسون ومودي مكالمة عبر الفيديو في 4 مايو (أيار)، وافقت خلالها المملكة المتحدة على إصدار المزيد من تأشيرات السفر مقابل تعهد الطرف الآخر بالمساعدة على إعادة أولئك الهنود الذين يتجاوزون مدة إقامتهم القانونية في بريطانيا، ووقع الجانبان اتفاق "خريطة طريق 2030" بهدف بناء روابط تجارية ودفاعية وعلمية بينهما على امتداد السنوات العشر المقبلة.
ومع ذلك، فقبل إلغاء منح تأشيرات الدخول للهنود، ومنعهم من دخول بريطانيا بأسبوعين، جرى فرض قيود أكثر صرامة على السفر من الدولتين المجاورتين باكستان وبنغلاديش إلى بريطانيا، بينما غض النظر عن الهند على الرغم من ارتفاع معدلات الإصابة فيها بشكل كبير.
وجرى الإعلان عن فرض الحجر الصحي الإلزامي في فنادق محددة للوافدين من الهند بموجب قاعدة الدول المدرجة على "القائمة الحمراء"، بُعيد ساعات فقط من إلغاء جونسون رحلته المقررة، ولم يُطبق هذا الإجراء فعلياً قبل 23 أبريل. وبحلول هذا التاريخ كان المتحور بي1. 617.2 قد وصل إلى المملكة المتحدة، علماً أنه لم يكن قد جرى تمييزه بعد كمتحور مثير للقلق.
ويتساءل الآن منتقدو جونسون عما إذا كان قد أبقى الهند خارج قائمة الدول الحمراء كل تلك الفترة الطويلة من أجل تجنب الاضطرار إلى إلغاء زيارته إليها؛ وما إذا كان سبب تصميمه على التوجه إلى دلهي يعود إلى يأسه من تخفيف وطأة الضرر الناجم عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وبالطبع، يقول مقر رئاسة الحكومة في داونينغ ستريت، إن ذلك ليس وصفاً أميناً لما هي عليه الأمور في واقع الحال. لكن إذا كان المتحور الهندي سيثير موجة جديدة من الإصابات في المملكة المتحدة، فسيبقى هذان السؤلان مطروحان على جونسون.
© The Independent