في سعيها نحو جذب جنسيات مُختلفة من المُشاهدين، لم تكتفِ شبكة "نتفليكس" بعرض أفلام وأعمال فنية ناطقة بلغات عدة، لكنها بدأت أيضاً تُتيح على قائمتها، أنواعاً سينمائية، لم يكن الجمهور من غير المُتخصصين، معتاداً على مشاهدتها، كالأفلام القصيرة. على سبيل المثال، تزامناً مع عيد الأم في 21 مارس (آذار) الماضي، بدأتْ الشبكة عرض الفيلم الفلسطيني- البريطاني القصير "الهدية"، وهو العمل الحائز على جائزة أفضل فيلم قصير من البافتا البريطانية هذا العام، وقد ترشح أيضاً في فئة "أفضل فيلم قصير حي" في جوائز الأوسكار، ويحكي عن رحلة أب وابنته بين قضبان الجدار العازل. كما بدأ الشهر الماضي عرض الفيلم المصري "واحدة كدة" الذي يروي يوماً من حياة فتاة مصرية عادية تواجه تحيزات الآخرين وأفكارهم المُسبقة عن حياتها. ومنذ أيام قليلة طُرح الفيلم الأميركي "غريبان مُتباعدان" Two Distant Strangers الذي يحكي عن العنف الذي تمارسه الشرطة الأميركية بحق المواطنين السود، من خلال إعادة سرد قصة موت جورج فلويد الشهيرة والمؤلمة.
فيلم "الهدية"
من إخراج فرح النابلسي، وتأليفها بالاشتراك مع هند شوفاني، يأتي هذا الفيلم الفلسطيني من إنتاج بريطاني، ليروي قصة تحكيها بأشكال مُختلفة أفلام فلسطينية أخرى، منها مثلاً فيلم "200 متر" للمخرج أمير نايفة. هنا أيضاً الجدار العازل الذي يقسم بلداً واحداً إلى نصفين، يسمح بالمرور من خلاله أو لا يسمح، جنود الاحتلال الإسرائيلي، وهم يتمتعون بتعذيب المارّين. بأسلوب يُحاكي التسجيلي، نشهد على سجن المواطنين بين قضبان هذا الحاجز، بينما الحياة واسعة خارجه على الجانبين. لاحقاً تغمرنا فرح النابلسي بتفاصيل الحياة اليومية، في عالم هذه الأسرة الفلسطينية البسيطة، التي لا تشتكي كثيراً من صعوبات الحياة تحت قهر الاحتلال، بقدر ما تحاول دائماً الانتصار بصناعة أفراحها الصغيرة. يصطحب الأب- يقوم بدوره صالح بكري- ابنته ياسمين، في رحلة ينبغي أن تمر بذلك الجدار، في سبيل التسوق، والعودة بهدية للأم- تقوم بدورها مريم الباشا- التي لا تظهر تقريباً سوى في هذا المشهد من الفيلم القصير. لكن كأنها تبعث روحها القَلِقة، مع الأب الذي يُعاني من آلام حادة في الظهر، ويتمتع بصبر لا بديل عنه، وكذلك عزّة نفس في تعامله مع الجنود، الذين سيتركونه ساعات مُنتظراً داخل ما يشبه القفص، حتى تبول ياسمين الصغيرة- تقوم بدورها مريم كنج- من الخوف في ثيابها.
يستأنف الأب رحلته، إلى المتجر، باحثاً عن مُسكّن لآلامه فلا يجد، بينما تلتفت الصغيرة للعب مع عصفور جميل في قفص آخر. يُضطر الأب إلى جرّ الثلاجة، عبر ما يشبه عربة حمل الحقائب في المطارات، لأن الجنود لم يسمحوا بدخولها في سيارة. ذروة القلق في هذا الفيلم، تتمثل في مشهد المُشادّة بين الأب والجنود، في حضور الطفلة ياسمين، بتقطيعات الصياح المتبادل، ورفع الأسلحة في وجه الأب، بينما تشهد الصغيرة غصباً عن طفولتها هذه المحاولات المُضنية لإذلال أبيها. وعلى رغم الترقب الذي يضعنا فيه الفيلم، خوفاً من تطور الوضع، بين الأب المريض، والجنود المسعورين، يجنح هذا العمل القصير، إلى المُتعة والسلام، ويُعطي ياسمين الصغيرة بطولة تُناسبها، فهي من بعد أي شيء، المستقبل الذي يستحق العناء.
فيلم "واحدة كدة"
عُرض هذا الفيلم في الدورة الماضية من مهرجان القاهرة السينمائي. القصة والإخراج لمروان نبيل، وأداء ريهام عبد الغفور. يروى الفيلم حكاية تبدو عادية خلال حوالى ربع الساعة، عن شابة مصرية تستيقظ صباحاً في بيت أسرتها من الطبقة المتوسطة، لتبدأ يوماً لا يختلف كثيراً عن غيره من الأيام. هنا أيضاً تفاصيل الحياة البسيطة، الإزعاج من بناء البيت المجاور، جرس "الواتسآب" من خطيبها، وجه ريهام عبد الغفور المُتخفف إلى حد كبير من المكياج. كل شيء يسير على نحو متوقع، إلى أن يبدأ المخرج في استعراض كيف يراها الآخرون. الأم مثلاً، تُعلِّق على شعرها، وهي في عينيها مجرد طفلة صغيرة بضفيرتين، هكذا نراها على الشاشة. ثمة أيضاً الجار السلفي، الذي لا يرد على تحية "صباح الخير" سوى "وعليكم السلام..."، كي تشعر البطلة بالذنب، هو الذي يراها في خياله نجمة إغراء، بشعر أحمر، وسيجارة، ونظرة فاتنة.
يجذبنا مروان نبيل لحيلته، فنتابع أكثر كيف يراها خطيبها، في توصيلة الصباح، مثل عسكري، امرأة بثياب الرجال، لأنها لا تستحسن إحدى أفكاره عن مستقبلهما معاً. وهكذا تستمر في الفيلم، لعبة الإسقاطات، وتتبدل صورة البطلة ألف مرة، أحياناً حتى ممن لا نتوقع، فيُسبغ عليها أي صور كزميلتها في العمل. يقدم هذا الفيلم رؤية ناضجة، وبسيطة عن مشكلة المجتمعات العربية مع النساء، المُحاصرات بين التوقعات والأحكام المُسبقة من الجميع. هذا هو السجن الحقيقي، لكن الحياة أيضاً تستمر. في مشهد النهاية، يذهب هذا الفيلم، بطريقة فنية، تستفيد من فكرة المولد الشعبي المصري، إلى الصور المُتعددة التي يمكن أن تكون عليها الحياة، خارج هذا التنميط. فيلم نسوي، بكل تأكيد، إنساني أيضاً ويُبشّر بمخرج واعٍ، قادر على أن يطرح أسئلته بمهارة ومن دون أن يخلط بينها وبين شيء آخر.
فيلم "غريبان مُتباعدان"
حصل هذا الفيلم على جائزة الأوسكار لفئة "أفضل فيلم قصير"، هذا العام، وقد تنافس مع فيلم "الهدية" الفلسطيني. من إخراج تريفون فري ومارتن ديزموند رو، ومن تأليف تريفون في، وإنتاج "نتفليكس" هذه المرة. هو أعنف أفلام هذه القائمة، وأشدها وطأة، والوحيد الذي لا يميل ناحية الأمل في النهاية. يروي هذا الفيلم، يوماً لطيفاً من حياة بطله "كارتر جيمس" وهو شاب ناجح في عمله يستيقظ في الصباح بجوار حبيبته "بيري"، بعد أن قضيا معاً ليلة مُمتعة. يتواعدان على لقاءات أخرى، بينما يودّعها لأجل العودة إلى كلبه الوحيد في المنزل، ويعترف البطل أن مشاعره، قد بدأت تتحرك تجاه هذه السيدة، التي لا نعرف حتى الآن كيف سيكون مُستقبله معها. لكن هذا المستقبل، للأسف لا يكتمل، وفجأة يتحول هذا السرد الرقيق، في حضور أيقونات نجوم الأفرو أمريكان، كالكاتب جيمس بالدوين صاحب العمل الشهير "لست الزنجي الذي تملكه"، إلى كابوس تام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يظهر ذلك الضابط "ميرك"، صاحب الوجه غير المُطمئن ويتحرش بالبطل الشاب، بلا سبب، أو على نحو أصح بتحريض من لون بشرته الأسود. لا يتواجه الأبيض مع الأسود، لكن السلطة لا ترى أمامها سوى سجون الأفكار، والتوقعات المُسبقة كالتي شاهدناها في "واحدة كدة"، وبرغبة في البطش مُشابهة لما حدث مع بطل "الهدية". ينزلق الفيلم إلى الصدمة، حين يتطور عنف الشرطي إلى عملية قتل كاملة، نعود فيها لرؤية حادثة قتل "جورج فلويد" التي أشعلت انتفاضة مُلهمة في أميركا الصيف الماضي. يقول البطل أيضاً: "لا أستطيع أن أتنفس" فيذكرنا بصدمتنا القديمة، بأسماء عدة في التاريخ الأميركي، انتهت إلى المصير نفسه، من دون ذنب اقترفته.
إذا كان البطل يستيقظ في الصباح، ليوهمنا أنه نجا، فإن ذلك ليس سوى كي يصير سيزيف العصر الحديث. هو ذاك الذي يستيقظ ليموت من جديد، ولتفشل كل محاولاته في مد يد لمُصافحة الضابط القاتل. هذا الفيلم المؤلم، يحفظ أسماء الضحايا الحقيقيين، ويطلب منّا نحن المُشاهدين، أن نحاول اختراع تتمة مُختلفة، على أرض الواقع، قبل السينما هذه المرة.