أثارت اتفاقية الـ25 عاماً التي وقعتها إيران والصين في مارس (آذار) الماضي، تساؤلات عدة، طالت التحالفات القائمة بين دول الغرب والشرق على حد سواء، إلا أن الأوساط الإيرانية لم تكن بمنأى عن الجدل هي الأخرى، فقد وصف منتقدو الرئيس الإيراني المنتهية ولايته، حسن روحاني، الاتفاقية بأنها "معاهدة تركمانجاي" التي أنهت الحرب الروسية- الفارسية ومنحت روسيا عدداً من الامتيازات والحقوق الاقتصادية والجمركية فضلاً عن تنازل بلاد فارس عن معظم جنوب القوقاز وتعويضات مليونية أرغمت عليها.
وبينما خشي متابعون من أن يكون التعاون بين بكين وطهران وسيلة النظام الإيراني لتخفيف آثار العقوبات الاقتصادية، أشعلت انتقادات بعض الإيرانيين للاتفاق بأنه يذكر بفترة الاستعمار، وما صاحب مراسم التوقيع من تحفظ على تفاصيل المعاهدة التي تشمل جوانب عسكرية واقتصادية، تساؤلاً حول ما إذا كان بمقدور الأدوات الاقتصادية الصينية فرض سيطرتها أو توجيه سلوك النظام الإيراني نحو تحسين علاقاته مع دول المنطقة، في ظل تفاقم مشكلاته الاقتصادية نتيجة للعقوبات الخانقة التي فرضها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب.
عقائد ثابتة
محمد الصياد، الباحث بالمعهد الدولي للدراسات الإيرانية، يستبعد أن يؤثر الاتفاق الصيني الإيراني في سلوك الإيرانيين في المنطقة لأن سلوك النظام مبني على أسس استراتيجية، بخلاف الاتفاق الذي هو "طارئ مصلحي"، مبرراً الحكم على الاتفاق الصيني الإيراني، باعتباره اتفاقاً براغماتياً وليس استراتيجياً، بتزايد الضغوط الأميركية على الصين منذ بداية فترة ترمب وحتى اليوم، وآثار العزلة والعقوبات التي تعيشها إيران.
لكن ضغوط الحاضر ليست العامل الوحيد في استبعاد تأثير اتفاق طويل الأمد طرفه قوة عظمى على سياسات نظام مختنق اقتصادياً، إذ يرى الصياد، أن العقل الجمعي الإيراني عموماً، والولائي على وجه الخصوص يستحضر دوماً التجربة الإيرانية المريرة مع الاستعمار الأجنبي، الروسي والبريطاني. وهنا يشير الباحث إلى النفوذ البريطاني الذي نشبت بسببه ثورة التنباك نهايات القرن التاسع عشر 1891، وإلى النفوذ الروسي الذي أدى إلى اندلاع الثورة الدستورية أوائل القرن العشرين 1905.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويخلص الباحث بالمعهد الدولي للدراسات الإيرانية، إلى استبعاد حدوث تغير على مستوى العقائد والأفكار لدى طرفي الاتفاق، قائلاً إن متانة العلاقات الروسية الإيرانية لم تحد من التنافس بين موسكو وطهران في سوريا وبعض الملفات الإقليمية في كثير من الأحيان. ويذكر بكتب الخميني التي تحذر من الاستعمار الغربي والنفوذ الأجنبي، إضافة إلى أدبيات الولائيين التي دائماً ما تحذر من التبعية للغرب والشرق على السواء.
احتمالات ومناورات
لكن النهج الجديد الذي تتبعه إدارة بايدن مع إيران فتح الباب أمام مزيد من الاحتمالات والأحداث، التي ربما كان أولها حسم الصين لملف التعاون مع إيران في مارس الماضي، أي بعد سنوات من نشر تسريبات لما وصف بأنه من بنود الاتفاقية الشاملة، التي زاد الحديث بشأنها، في أعقاب زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ طهران عام 2016، ولقائه المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، الذي وصف حينها شراكة الـ25 سنة، بأنها إضافة "للتعاون بين الدولتين المستقلتين".
وبينما يتسق تأجيل توقيع الاتفاق مع سياسة الصين في النأي بنفسها عن الملفات السياسية والأيديولوجية، والتركيز على الجوانب الاقتصادية والقوة الناعمة، فإن خطوتها تلك قد ترى أيضاً بأنها محاولة لاتقاء النيران الأميركية، في عهد الرئيس ترمب الذي سلك نهجاً أكثر صرامة من سلفه تجاه إيران، قبل أن يدخل جو بايدن البيت الأبيض بنهج منفتح على طهران، ملوحاً بسياسة الجزرة والعصا، وواضعاً نصب عينيه إحياء الاتفاق النووي.
وبعد ما انتقدت دول خليجية في مقدمتها السعودية، خطة العمل الشاملة المشتركة التي وقعت في عهد الرئيس باراك أوباما، بهدف منع إيران من حيازة سلاح نووي، جددت إدارة بايدن رغبتها في إحياء الاتفاق النووي، مطالب خليجية تنادي بإشراكها في المفاوضات الجديدة، للتأكد من أن تشمل أي معاهدة مقبلة مع إيران ضمانات فيما يتعلق بـ"قدراتها الصاروخية" ودعم "الميليشيات في المنطقة".
وفيما يعتبر وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف دعم بلاده للجماعات الموالية لإيران بالمنطقة "مساعدات إنمائية"، فإن رغبة الرياض إشراك دول المنطقة في المفاوضات تندرج في سياق المخاوف الخليجية من النفوذ الإيراني، التي عبر عنها وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان في مقابلة أجرتها شبكة "سي أن أن"، في أبريل (نيسان) الماضي، حين قال إن "أعضاء مجلس التعاون الخليجي هم الدول الأكثر عرضة للخطر في حال حصول طهران على ترسانة نووية، ولذلك لديهم الحق في أداء دور في هذه المشاورات".
وبعد استئناف المحادثات غير المباشرة بين واشنطن وطهران في فيينا، لم تقف التحركات السعودية على إبداء الرغبة في المشاركة في تلك المفاوضات فقط، بل انخرطت الرياض في جولة محادثات مع طهران لتسوية الخلافات الإقليمية، وفقاً لتصريحات نقلتها "رويترز" على لسان الدبلوماسي السعودي، رائد قرملي، الذي قال إن "المحادثات مع إيران تهدف إلى استكشاف طرق للحد من التوتر في المنطقة"، مشيراً إلى أن بلاده "تأمل في نجاح المحادثات، لكن من السابق لأوانه الوصول إلى أي استنتاجات محددة".
إيران من جانبها أكدت انعقاد محادثات مع السعودية، إذ نقلت الوكالة الإيرانية الرسمية، عن السفير الإيراني في بغداد، إيرج مسجدي، قوله "ندعم وساطة بغداد لتقريب طهران من دول واجهنا معها تحديات أو تشهد علاقاتنا فتوراً، وتم إبلاغ مسؤولين عراقيين بذلك". وأضاف، مسجدي رداً على سؤال حول تحقيق أي تقدم في المحادثات "لم نتوصل بعد لنتائج واضحة وتقدم مهم، دعونا ننتظر حتى يمضي العمل قدماً، ويمكننا بعدها أن نرى نتائج عملية".
إلا أن السعودية التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إيران منذ عام 2016، لم ترفع سقف التوقعات حيال المناقشات الجارية، وقال وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، إن المحادثات بين السعودية وإيران، ما زالت في مرحلة "استكشافية"، معرباً عن أمله في أن يرى الإيرانيون أن من مصلحتهم العمل مع جيرانهم بطريقة إيجابية تؤدي إلى الأمن والاستقرار والازدهار.
أميركا تتابع التطورات
ومنذ تأكيد المحادثات بين الرياض وطهران، كانت الأنظار متجهة إلى موقف الولايات المتحدة حيال المحادثات التي جرت بين القوتين الإقليميتين المتنافستين من دون أي حضور أميركي، رغم أن السعودية حليف عسكري وثيق لواشنطن، يكمن دورها المحوري بالنسبة للولايات المتحدة في الحفاظ على توازن القوى في الشرق الأوسط. لكن الموقف الأميركي من المحادثات جاء متسقاً مع الخطاب المتصاعد في واشنطن على الصعيدين الجمهوري والديمقراطي، الداعي إلى الحد من التدخل في صراعات الشرق الأوسط، ربما على نحو مماثل إلى حد كبير، لرفض واشنطن التنديد علناً باتفاق إيران والصين.
إذ إن وزير الخارجية أنتوني بلينكن، في حديثه مع "فايننشال تايمز" البريطانية، لم يعتبر المناقشات السعودية الإيرانية خطوة إيجابية فقط، بل قال إن "المحادثات المباشرة بين الدول من دون وجودنا في المنتصف" قد تكون نهجاً أفضل. وهو ما قد يوصف بأنه "انقلاب" على نهج الماضي المتمثل في قيادة الولايات المتحدة في كثير من الأحيان محادثات السلام بين الأطراف المتنازعة في المنطقة، إلا أنه في حالة الرياض وطهران، تقول واشنطن إنها لا تلعب أي دور، باستثناء التأكيد على أن هدفها هو تهدئة التوترات.
وعن المحادثات الجارية وعما إذا كانت الانتخابات الرئاسية الإيرانية المرتقبة في 18 يونيو (حزيران) ستؤثر في السياسة الإقليمية لطهران، قال وزير الخارجية السعودي، في مقابلة مع "وكالة الأنباء الفرنسية"، أمس الثلاثاء، إن هذا التأثير سيكون ضئيلاً ذلك أن السياسة الخارجية يقررها المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي. مضيفاً أن، "دور المرشد الأعلى أساسي، لذلك لا نعتقد أنه سيكون هناك أي تغيير جوهري في سياسة إيران الخارجية".
وكان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، قال خلال لقاء تلفزيوني إن "إيران دولة جارة، وكل ما نطمح له أن يكون لدينا علاقة مميزة معها، لا نريد لها أن تكون في وضع صعب، بل في وضع مزدهر، لكن مشكلتنا في تصرفاتها السلبية في برنامجها النووي أو برنامجها الصاروخي أو الجماعات المسلحة التي تنشرها في المنطقة، نعمل مع شركائنا في المنطقة والعالم لإيجاد حل لهذه المشكلات".
وفيما يبدو الاتفاق الإيراني – الصيني ضيقاً بحدود ما تقتضيه مصلحة البلدين، وبعيداً عن ملفات المنطقة المتشابكة والمعقدة التي تنأى الصين بنفسها عنها حفاظاً على مصالحها الاستراتيجية، تحاول الولايات المتحدة من خلال مفاوضات فيينا منع إيران من الحصول على سلاح نووي، أما السعودية، فتشترط للتقارب والشراكة، تغييراً في سلوك طهران يضمن "وقف الأنشطة المزعزعة للاستقرار في المنطقة والسلوك العدواني" في حين قال وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف في وقت سابق من الشهر الحالي، إن إيران مستعدة لإقامة علاقات وثيقة مع السعودية للتعاون معها من أجل أن يسود السلام والاستقرار منطقة الشرق الأوسط، لا سيما في اليمن.