بعد نجاح الجهود الدبلوماسية والضغوط الدولية في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل والفلسطينيين، تباينت الرؤى في واشنطن بين المسؤولين السابقين والمحللين السياسيين حول الأثر الذي ستخلفه هذه الحرب ومدى انعكاسها على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وعلى السياسات الإقليمية وتشابكاتها مع هذه القضية، فما أبرز هذه الرؤى، وما أوجه الاتفاق والاختلاف في ما بينها؟
أزمة دائمة
مع توقف دائرة العنف بين حركة "حماس" وإسرائيل بعد أقل من أسبوعين من الحرب، خرج الجانبان من المعركة، بحسب كثيرين من المراقبين الأميركيين، من دون حل أي من الأمور التي بدت سبباً لاشتعال القتال بينهما، ومن دون تحقيق انتصار حاسم، بينما يخشى البعض أن يعود الصراع الذي أصبح شبه روتيني منذ أن سيطرت "حماس" على غزة عام 2007 في أي وقت بعد أشهر، أو أعوام عدة بسبب الاستفزازات التي تحركها المصالح السياسية الداخلية والخارجية، ولأن إسرائيل و"حماس" عالقتان في أزمة دائمة، ومحاصرتان بمنطق الحرب، الذي يفرض عليهما الاستمرار في التحركات نفسها، في حين يزعم المسؤولون الإسرائيليون أن أهدافهم العسكرية تحققت، وأعلنت حركة "حماس" النصر وأنها خرجت من القتال من دون انحناء.
وبصرف النظر عن نتائج الحرب المباشرة، إلا أن الاعتقاد السائد لدى كثيرين أن التدمير الذي لحق بـ"حماس"، يجعلها تخرج من الصراع على الرغم من كل شيء، أقوى من السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس الذي يبدو الآن في وضع أضعف، كما أن تصورات العرب داخل إسرائيل عن التمييز المنهجي ضدهم سوف تنمو، كما سيتوسع دور القدس الرمزي، ما سوف يعمق الأبعاد الدينية للصراع بين العديد من الإسرائيليين والفلسطينيين، ما يمهد إلى عودة مرحلة قديمة من الصراع بين الطرفين.
وعلى الرغم من الاعتياد على تكرار سيناريو الحرب بين الفلسطينيين والإسرائيليين بين حين وآخر وسقوط مئات الضحايا الأبرياء وتدمير المنازل السكنية والمباني الخدمية والإدارية، فإن مشهد النهاية هذه المرة بدا مختلفاً في بعض الجوانب، إذ إن حجم الدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية لحركة "حماس" ومقتل عدد من قياداتها المدنية، لم يكن كافياً لكي تبدو كطرف مستضعف في القتال بعد ما نجحت خلال الأيام الستة الأولى من الحرب في تعطيل الحياة اليومية في إسرائيل ووقف حركة الطيران المدني في تل أبيب وإثارة الذعر بين سكان الجنوب.
جروح عميقة
وبينما تمكنت "حماس" من نقل ساحة المعركة من المناطق الواقعة في نطاق صواريخها إلى إسرائيل بأكملها، اندلعت أعمال شغب هزت كل أنحاء إسرائيل وأعادت إلى الذاكرة مشاهد الصراع بين العرب واليهود في ثلاثينيات القرن الماضي تحت حكم الانتداب البريطاني، الأمر الذي أصاب المجتمع الإسرائيلي بجروح عميقة لن تندمل بسهولة، وجعل البعض يتساءل في الداخل الإسرائيلي عن جدوى انتصار الجيش في المعارك الحربية إذا كانت "حماس" قد كسبت الحرب.
رهان دبلوماسي
وبسبب النتيجة الدموية التي خلفتها الحرب والضغط الذي شكله الإعلام الأميركي والديمقراطيون في الكونغرس واليسار تحديداً على إدارة الرئيس جو بايدن، أدركت الإدارة الأميركية ضرورة التحرك بعد وقف إطلاق النار لتحريك المياه الراكدة في الملف السياسي، فجاء إعلان وزير الخارجية أنتوني بلينكن عزمه السفر في الأيام المقبلة إلى الشرق الأوسط ليلتقي نظراءه الإسرائيليين والفلسطينيين وعدداً من القادة الإقليميين لمناقشة العمل لبناء مستقبل أفضل للإسرائيليين والفلسطينيين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن يبدو أن إدارة بايدن تراهن على تقديم دعم مالي سخي لإعادة بناء قطاع غزة المحاصر وبالتالي ممارسة الضغط على "حماس" كي لا تستأنف القتال، ولضمان عدم قدرتها على استيراد الإمدادات التي يمكن استخدامها كأسلحة، وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، تخطط الولايات المتحدة لتكون في صدارة المساهمين الدوليين من أجل إعادة الخدمات الصحية والتعليمية وعمليات الإعمار الأخرى في القطاع، بعد أن أجبر العنف أكثر من 72 ألف فلسطيني على هجر منازلهم التي أصبحت مجرد أكوام من الأنقاض.
وبحسب مسؤولين أميركيين، تجرى مناقشات داخلية، من أجل إلقاء نظرة جديدة على قضية المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وتعزيز العلاقات والتنسيق بين الفصائل السياسية الفلسطينية المتنافسة في غزة والضفة الغربية، كما ستعيد إدارة بايدن بناء تحالفات جديدة بين إسرائيل والدول العربية التي أطلقها العام الماضي، الرئيس السابق دونالد ترمب.
إعمار غزة
غير أن التصورات الأميركية قد تبدو مفرطة في التفاؤل بالنظر إلى تجربة إعادة إعمار غزة عقب حرب 2014، فقد خلص تحليل أجراه "معهد بروكينغز" عام 2017 إلى أن جهود إعادة الإعمار فشلت إلى حد كبير بسبب المعارضة السياسية المستعصية لـ"حماس"، ليس فقط من قبل إسرائيل، بل أيضاً من قبل عدد من الدول العربية نتيجة لعلاقاتها الوطيدة بجماعة "الإخوان المسلمين"، وأدى ذلك إلى تقييد إمدادات البناء والمساعدات الإنسانية وغيرها من المعدات إلى غزة، فضلاً عن تأجيج التوترات بين "حماس" وخصومها السياسيين في السلطة الفلسطينية.
في الوقت نفسه، وجد التحليل أن المانحين الدوليين كانوا بطيئين في إرسال الأموال التي التزموا بها لجهود إعادة الإعمار في غزة، لأن الغالبية العظمى من التبرعات لم يتم الوفاء بها بعد ثلاث سنوات من وقف إطلاق النار.
لا عودة إلى الماضي
لكن بالنسبة للعديد من المحللين والمراقبين الأميركيين للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، قد لا تكون هناك عودة إلى ما كانت عليه الأمور من قبل، فقد كشف انفجار التوترات عن الخلل الداخلي بين المعسكرين السياسيين الإسرائيلي والفلسطيني، فقد أدت الدعاية الانتخابية المتواصلة في إسرائيل على مدى عامين، والفشل في تشكيل ائتلاف حاكم مستقر سواء مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أو من دونه، إلى إضعاف الحكم وإقحام الجماعات اليمينية المتطرفة داخل التيار السياسي السائد.
وعلى الجانب الفلسطيني، تفاقمت أزمة الشرعية التي تواجه السلطة الفلسطينية المحاصرة ورئيسها محمود عباس في أعقاب قرار الرئيس إلغاء أول انتخابات فلسطينية مجدولة بعد أكثر من عقد ونصف العقد.
وبينما يروج المسؤولون الإسرائيليون والأميركيون لعودة الحوار السياسي بعد وقف إطلاق النار، يخشى خبراء ومراقبون أميركيون عكس ذلك تماماً، إذ لا يوجد حوار هادف بين سلطة فلسطينية يرونها غير شعبية وضعيفة، وحكومة إسرائيلية يمينية يرفض معظم أعضائها الآن علانية فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، في حين قد يثير ضم إسرائيل الأراضي الفلسطينية من دون رادع أميركي ودولي على مدى سنوات، المزيد من المقاومة الغاضبة.
الحل المستحيل
ويبدو أن هذا الوضع كان قائماً منذ فترة طويلة، إذ كشف استطلاع للرأي لعدد من المتخصصين الأميركيين في الشرق الأوسط، أن معظمهم اعتبر أن حل الدولتين مستحيل، لاعتبارات عدة منها، تضاعف عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية والقدس الشرقية حيث من المفترض أن تنشأ دولة فلسطينية، سبعة أضعاف منذ التسعينيات، وبعد ما كان المستوطنون على هامش السياسة الإسرائيلية، تشكل حركة المستوطنين الآن طليعة اليمين الإسرائيلي، ولهذا لا تتوافر مصلحة لليمين الإسرائيلي في تحقيق أهداف الدولتين المنصوص عليها في اتفاقيات أوسلو عام 1993.
وترى تامارا كوفمان ويتس من "معهد بروكينغز"، أن التخلي الرسمي الإسرائيلي عن التسوية التفاوضية، إلى جانب استمرار التوسع الاستيطاني والترحيل القسري للعائلات الفلسطينية في القدس الشرقية والضفة الغربية، جعل نشوء أزمة جديدة مع الفلسطينيين، مسألة حتمية لا مفر منها بعد ما استنفد إطار أوسلو، وأصبح الأساس المنطقي للنظام السائد في الضفة الغربية، بما في ذلك وجود السلطة الفلسطينية، قد انتهى.
ويدرك عدد متزايد من الشخصيات البارزة والدبلوماسيين الذين راهنوا خلال حياتهم المهنية على حل الدولتين، أن الحقائق على الأرض تجعلها مجرد خيال، غير أن شخصيات دبلوماسية أخرى مثل دانييل كيرتزر، السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل، يرى أن حل الدولتين يظل هو الهدف السياسي الوحيد الذي يستحق السعي لتحقيقه، وأنه أفضل من دولة واحدة ثنائية القومية، أو كونفيدرالية إسرائيلية فلسطينية يتم تقاسم القدس فيها.
ويتفق جوناثان تيبرمان رئيس تحرير مجلة "فورين بوليسي" السابق مع رؤية كيرتزر مع بعض الاختلاف الذي يتمثل في أن ضرورة عدم الانخراط الأميركي بقوة إلا عندما تكون الأطراف مستعدة تماماً للحل، فهو يرى أن القادة الفلسطينيين تخلوا فعلياً عن حل الدولتين، على الرغم من أن محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، لا يزال يدعمها اسمياً، لكنه مهتم حتى الآن بالحفاظ على سلطته أكثر من اهتمامه بصنع السلام، بينما تبدو "حماس" غير مهتمة أبداً بحل النزاع، ولا تهتم سوى باستخدام الكفاح المسلح الأبدي لتبرير حكمها القمعي والفاسد.