في روايتها "كتاب نيبو الأزرق" (ترجمتها عن الإنجليزية يمنى خالد شيرازي، دار العربي – القاهرة) تضع الكاتبة الويلزية مانون ستيفان روس، لغتها الأم معادلاً للعالم. ومعروف أن نشر أول ترجمة للكتاب المقدس باللغة الويلزية على يد ويليام مورغان عام 1588 أدى إلى تقدم كبير في وضع الويلزية بصفتها لغة أدبية، علماً أنها كلتية من الفرع البريطاني، التي هي "كمري" بالنسبة إلى الويلزيين، وربما يكون شعب ويلز أقدم جماعة عرقية في المملكة المتحدة.
تفترض الرواية نهاية للعالم الذي نعرفه الآن، ومن ثم تبادر بطلتها إلى جمع أكبر عدد ممكن من الكتب بلغة ويلز لتقرأها على ابنها الذي حرمته "النهاية" من مدرسته، ومن كل سبل التعلم التي بلغتها الحضارة الإنسانية في القرن الحادي والعشرين، وتشجعه على أن يكتب معها قصتهما في دفتر أزرق منحاه اسم القرية التي يطل عليها منزلهما؛ "نيبو".
وهكذا صار محتوى هذا الدفتر الذي يغطي فترة زمنية مقدارها عشر سنوات أعقبت "النهاية" التي أحدثها على الأرجح انفجار نووي، هو نفسه محتوى تلك الرواية التي يمكن اعتبارها من أدب نهاية العالم، الذي تحوَّل الكثير منه إلى أفلام سينمائية منها مثلاً فيلم The book of Eli (إنتاج 2010) الذي يُعلي أيضاً من قيمة التمسك بالهوية (الدينية هنا) فأحداثه تدور بعد ثلاثين عاماً من حرب طاحنة جرت على الأرض أدت إلى ثقب في طبقة الأوزون، لتحرق الشمس معظم مظاهر الحياة، وتصيب البشر بالعمى. ومن الرسائل التي قدمها هذا الفيلم وتلتقي مع نهج رواية "كتاب نيبو الأزرق"، أهمية التعلم والقراءة، إذ يسعى "إيلاي" (دينزل واشنطن) لحماية النسخة الوحيدة من الكتاب الذي يحمله، باعتباره "الأمل الوحيد المتبقي للبشر" بعد هذا الدمار.
الهوية الويلزية
وفي خلفية هذه الرواية، تنبغي الإشارة إلى أن عدد سكان ويلز يبلغ حوالى ثلاثة ملايين نسمة، ومساحتها تزيد قليلاً على 20 ألف كيلومتر مربع. وعلى الرغم من اشتراك ويلز في تاريخ سياسي واجتماعي وثيق مع بقية أجزاء بريطانيا وانتشار اللغة الإنجليزية تقريباً بين معظم السكان، فإن هذا البلد يحتفظ بهوية ثقافية متميزة، مع أنه يعد رسمياً ثنائي اللغة، حيث يجيد أكثر من 560 ألفاً من الشعب اللغة الويلزية، خصوصاً في الأجزاء الشمالية والغربية من البلاد. ابتداءً من أواخر القرن الـ19 اكتسبت ويلز شعبية كـ"أرض الأغاني"، ويعزى ذلك جزئياً إلى احتفالات "الإستيدفود" الفنية. أما على الصعيد الرياضي، فويلز تتمثل عبر العديد من الفرق الوطنية المختلفة في الأحداث الدولية، مثل كأس العالم لكرة القدم، كأس العالم للركبي ودورة ألعاب الكومنولث، أما في دورة الألعاب الأوليمبية فالرياضيون الويلزيون يشاركون كجزء من فريق بريطانيا العظمى. وتعدّ لعبة الركبي الاتحادية رمزاً للهوية الويلزية وتعبيراً عن الوجدان الوطني.
ولذلك تنشغل رواية "كتاب نيبو الأزرق" بالهوية، المهددة دائماً بالذوبان في هوية أخرى، بالتالي فإنها تنتهي بإصرار "ديلان" الذي بلغ السادسة عشرة من عمره، وكذلك أمه على مواصلة العيش في عالم ما بعد "النهاية"، بعدما لاحت في الأفق علامات على انبعاث العالم الذي ظنَّا أنه انتهى بلا رجعة.
السرد بصوتين
"روينا ويليامز"، تتبادل وابنها "ديلان" السرد من مكان ريفي في شمال ويلز، هجره سكانه بعدما "انتهى العالم"، بسبب حرب نووية. تلك "النهاية" سمعت بها "روينا" من الراديو: "إحدى مدن أميركا الكبيرة قُذِفت بالقنابل". كانت "روينا" في تلك اللحظة في السادسة والعشرين من عمرها؛ تمارس عملها في صالون حلاقة للسيدات، تملكه عجوز تدعى "جاينور"، وكان ابنها "ديلان" ذي الستة أعوام في مدرسته.
بعدها سيخلو "العالم" إلا من "روينا" و"ديلان"، الذي لا يعرف له أباً، وبعد "النهاية" بعامين ستنجب طفلة، من دون أن يعرف لها أباً أيضاً. سيعيشون على صيد الأرانب والقطط والسناجب وزراعة ما تيسَّر من الخضروات والأعشاب في حقل يلاصق منزل العائلة. ثم سرعان ما ستظهر على بعض تلك الحيوانات تشوهات خلقية، ومنها أرنب بري سيصطاده "ديلان" ليفاجأ بأن له وجهين، وقدمين أماميتين بلا مخالب، فتعاف نفسه ذبحه ويضعه في علية بيت مهجور ويطلق عليه اسماً متخذاً منه صديقاً إلى أن يقرر الأرنب العودة إلى البرية بمجرد أن سنحت الفرصة لذلك. انقطعت الكهرباء وغمرت السماء سحابة ملبدة بغبار ذري مميت. كانت "النهاية" عبارة عن مراحل؛ "وليست لحظة واحدة". في البداية انشغلت "روينا" مع "ديلان" في بناء صوبة صغيرة وتبادلا بعض الأحاديث مع العجوز "دافيد ثورب" وزوجته "سوزان" في المنزل المجاور. وحينما طلب "ثورب" منها أن تستدعي والديها للإقامة معها قالت له: "أنا لستُ ابنة لأحد"، وربما يدل ذلك على سعيها للاندماج في عالم ما بعد "النهاية"، متمسكة بإحياء لغتها الأم، باعتبارها العالم الجدير بأن تنتمي إليه.
إنقاذ الكتب
سرعان ما سيهجر الزوجان "ثورب" المكان القريب من مدينة كارنارفون وجزيرة أنغلسي وبحيرة كوم دولين. وسرعان ما ستفرغ البلدة من أهلها، فيما تتوالى أخبار ضرب لندن ومانشستر وليفربول بقنابل نووية. أخذت "روينا" من محل بيع الكتب في البلدة ومن بيوتها التي هجرها أصحابها أو ماتوا داخلها، أكبر قدر من الكتب الويلزية، مع أنها لم تكن في السابق من هواة القراءة. منها كُتُب توماس هاردي (كاتب بريطاني عاش بين 1840 و1928) وجودي بيكوليت (روائية أميركية مولودة في عام 1966). قال لها "دافيد ثورب": "أعتقد أن الغريزة هي التي تجعلك تنقذين أولئك؛ لأنك تشعرين تلقائياً بأنك ستكونين في خطر أكبر إذا خسرتِهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومما كتبتها روينا في الدفتر الأزرق: "الكتب، أعتقد أن لديها الكثير لتقوله، والعديد من الأشياء التي تحتاج إلى أن تحكي عنها" (ص44). ومن ثم فارقها تدريجياً الشعور بالخوف من المستقبل الذي كان يلازمها قبل "النهاية"، وباتت حريصة أكثر من ذي قبل على التحدث مع ابنها بلغة ويلز، وليس باللغة الإنجليزية.
بدأت تقرأ الروايات وبجانبها قاموس، محاولة التغلب على صعوبات فهم الجُمل، وما إن وصل "ديلان" إلى سن العاشرة، كان يستطيع أن يقرأ كتب اللغة الويلزية للمرحلة الثانوية. هي الآن نادمة لأنها تخلت تدريجياً – في السابق - عن لغتها الأم؛ "لأن كل الأشياء الرائعة، والفرق الغنائية الأميركية والدراما الإنجليزية كانت بلغة أخرى" (ص76). وهكذا وبحسب ما كتبت في الدفتر الأزرق: "كان هناك العديد من الكلمات لم أكن لأتعلمها لو لم ينته العالم".تكتب "روينا" أنها رغبت في أن تطلق على ابنها الذي حملت به من رجل أحبته ثم تخلى عنها، اسم "ديلان أوليفر ويليامز"... "لأنني أردت أن أسميه أوليفر، ولكنني لم أكن إنجليزية بما يكفي لأسميه هذا الاسم"، في إشارة إلى الطبقية المستقرة في المجتمع البريطاني وتعلي شأن الإنجليزي على غير الإنجليز.
الناجي الوحيد
أما "مونا" التي أنجبتها "روينا" بعد "النهاية" بعامين، كثمرة لعلاقة مع شخص بدا أنه الناجي الوحيد من الموت في محيط قرية "نيبو"، قبل أن يختفي تماماً، فقد منحتها الأم هذا الاسم؛ "لأن مون هو اسم قديم لأنغلسي، الجزيرة التي يمكن رؤيتها من سقف المنزل المائل". لكنها سرعان ما ستموت متأثرة بالغبار الذري، بعدما تجاوز عمرها العامين بقليل.
الكتاب في The book of Eli سيتضح أنه نسخة قديمة من الإنجيل، وفي رواية "كتاب نيبو الأزرق"، ستخبر "روينا" ابنها وهو يقرأ "هاري بوتر" و"للادديو" بأنه "ربما يجب عليك أن تعامل كل كتاب بالتساوي وتقرر أيهما مقدس بالنسبة لك". كان "ديلان" يقرأ الكتب التي جلبتها له أمه عشرات المرات. كان يقرأ الكتاب الواحد أكثر من مرة؛ حتى أحفظه في ذاكرتي"، بحسب ما دوّن في الكتاب الأزرق. وهكذا تمكن من معرفة عالم ما قبل "النهاية" من الكتب، لكنه مع ذلك لم يشعر بالانتماء إليه، وبات يفضل عليه العالم الذي صنعه مع أمه في غياب تام للبشر ومنجزات العصر الحديث.
هذه الرواية فازت بجائزة "ميدالية النثر" عام 2008، أما مانون ستيفان روس (1983)، فهي أيضاً كاتبة مسرحية، وكاتبة سيناريو، ألَّفت أكثر من عشرين كتاباً للأطفال وثلاث روايات للكبار، وهي تكتب بلغة ويلز فقط، وقد فازت مرتين بجائزة "ميدالية الدراما" بمهرجان "إيستيدفود الويلزي الوطني".