يمثل (رئيس الوزراء) بوريس جونسون شخصاً أُنهيت خدماته ذات يوم من صحيفة الـ"تايمز" في تسعينيات القرن الماضي لأنه فبرك اقتباسات من أحد الأكاديميين الذي لم يكن سوى عرَّابه فعلياً. وخلال مسيرته المهنية الصحافية الطويلة، نال نصيبه من الورطات والجدال، ويبقى حتى اليوم مكروهاً في مقاطعة "ميرسي سايد" (بسبب مقال قيل إنه سخر فيه من ضحايا كارثة "هيلزبوره" التي وقعت عام 1989).
إذن، هنالك كثير مما يفتقر إليه جونسون حين يلعب دور سلطة قادرة على الحكم في أخلاقيات العمل الإعلامي. ومع ذلك، فإنه على حق في الحديث عن الفضيحة التي تحيط بمقابلة مارتن بشير مع الراحلة ديانا، أميرة ويلز. ووفق ما أوضح تحقيق اللورد دايسون بشكل مفصل، فقد حدث خداع. ويضاف إلى ذلك أن عمليات التستر اللاحقة من قِبل "بي بي سي"، وقد افتضح أمرها الآن، لم تساعد نهائياً على حماية سمعة تلك المؤسسة. وحتى من دون تدخل ولدي الأميرة مرات عدة على نحو رصين، توجب على الحكومة أن تضمن أن "بي بي سي" ستبادر إلى "اتخاذ كل خطوة ممكنة كي تضمن عدم حصول شيء كهذا، مرة أخرى نهائياً"، بحسب تعهد من جونسون.
لكن، في الحقيقة، اتخذت "بي بي سي" سابقاً مجموعة من الخطوات في ذلك الاتجاه على غرار تكليف اللورد دايسون إعداد تقريره والتعاون الكامل معه، من أجل ضمان عدم تكرار خروقات من هذا النوع الذي يُضعف ثقة المشاهد. وعلى غرار الحال مع فضيحة سافيل من قبل، والتغطية الصحافية للفضيحتين، فقد أثبت صناع برامج "بي بي سي" أنهم الأفضل في التحقيق في المخالفات التي تحصل في إطار عمل "هيئة الإذاعة البريطانية" نفسها، ويبدو ذلك أمراً غريباً إذ يشبه أن يصنع برنامج "بانوراما" فيلماً وثائقياً عن مقابلة بثها ذلك البرنامج نفسه.
وبعد كل شيء، لنتذكر أن مقابلة أجراها جون هامفري في برنامج "توداي" الإخباري الذي يبثه "راديو فور" التابع لـ"بي بي سي"، شكلت السبب وراء استقالة جورج إنتويستل، المدير العام للهيئة آنذاك. وهكذا، فحين يأتي وقت يعتقد الصحافيون العاملون في "بي بي سي" أنها قد فعلت شيئاً غير مناسب، تكون الهيئة قد أصبحت ألد أعداء نفسها.
واستطراداً، ثمة إدارة جديدة لـ"بي بي سي"، وقد عُينت عملياً من قِبل جونسون، ولا تزال الصحافة الإخبارية التي تقدمها الهيئة تحظى باحترام واسع وبقدر كبير من الثقة في بريطانيا وخارجها. وبالمقارنة مع ما بات معروفاً الآن بالنسبة إلى ديانا، فقد شكلت مقابلة برنامج "نيوزنايت" على شاشة "القناة الثانية" التابعة لـ"بي بي سي" مع الأمير أندرو، التي تمثل عملاً حديثاً يشبه المقابلة مع ديانا، (شكلت) نموذجاً للصحافة الجيدة. وفي الصورة نفسها، استطاعت "بي بي سي" أن تحصل على هذا السبق الصحافي من دون تلاعب أو احتيال– لقد تصرفت على نحو مناقض تماماً للسلوك المخادع، وفي الواقع، ربما لم يحكِ الأمير ربما روايته عن صداقته مع جيفري إبستين، عبر أي مؤسسة إعلامية أخرى. لقد شكلت مقابلة الأمير أندرو مثلاً عن الكيفية التي تؤدي بها هيئة إعلامية عامة عملها بأفضل طريقة ممكنة، على نحو يحقق المصلحة العامة. ويقدم ذلك الأمر دليلاً على أن "بي بي سي" يجب أن تكون سباقة إلى نشر القصص الإخبارية قبل الجميع، وألا يقتصر عملها على القصص العامة والأنباء التقليدية.
في المقابل، لا ينبغي لشيء يتصل بسلوك بشير قبل نحو ربع قرن، أو بإخفاقات إدارة "بي بي سي" فعلياً في ذلك الوقت وحديثاً، أن ينتقص من قيمة الأخبار والتعليقات والتحليلات الرائعة التي تقدمها "بي بي سي" بشكل منتظم عبر قنواتها كلها. كذلك يتوجب عدم نسيان المصالح التجارية والسياسية لأولئك الذين يهاجمونها. وفي حين يبقى من الصحيح أن على "بي بي سي" والحكومة العثور على طريقة في تحقيق توازن بين نتاج خدمتها العامة والميزة التجارية المصطنعة المتأتية من رسوم رخصة التلفزيون (يدفعها المشاهدون)، فإن هذا لا يبرر إضعاف خدماتها الإخبارية عبر الإنترنت أو إلغاء رسوم رخصة التلفزيون.
في سياق متصل، من المستطاع دوماً فعل مزيد من الأمور. وإذا كان من شأن اتخاذ إجراءات تحريرية أقوى وإشراف أكبر، أن يعززا ثقة الجمهور في "بي بي سي" فإن ذلك لن يكون أمراً سيئاً على الإطلاق. وثمة تغيير فوري يمكن تطبيقه في العمليات الإعلامية على نطاق أوسع، يتمثل في توفير الحماية القانونية لـ"المخبرين" الذين يجازفون بالكشف عن أخطاء ومخالفات يجري التكتم عليها رسمياً. ولو لم تُنهِ إدارة "بي بي سي" خدمات عضو فريق التصميم الغرافيكي الذي طُلب منه على ما يبدو أن يفربك بيانات مصرفية، لأمكن تجنب كثير من المتاعب التي حصلت فيما بعد (والمصمم مارتن ويسلر يستحق الاعتذار وأيضاً التعويض، اللذين سينالهما).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذاً، سيكون بالكاد من الخطأ توسيع إدارة شؤون "بي بي سي" كي تُعبر بشكل أفضل عن البلاد التي تسعى إلى خدمتها. في المقابل، يجب صون استقلال هيئة التحريري الأساسي وحريتها، لأنها الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تعمل بها الصحافة. وللاستشهاد مرة أخرى بالمقابلة التي أجرتها إيميلي مايتليس مع الأمير أندرو، سيكون شيئاً لا يُطاق لو أن أحد أنصار الملكية شارك في لجنة تدقيق خارجية وارتأى أن تلك المقابلة ليست منسجمة مع المصلحة العامة لأنها قد تقوض دعم الجمهور للنظام الملكي، ثم قرر إلغاءها. وللأسباب نفسها، لا ينبغي مثلاً السماح لأحد ممثلي أنصار بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي أن يمارس حق النقض ضد تغطية متوازنة تتعلق ببروتوكول إيرلندا الشمالية. بمعنى آخر، ليست الغاية من العمل الصحافي إرضاء اللجان.
وفي نفس مشابه، لا يجب أن تتمتع تلك الكيانات بنوع من السلطة قد يكون لها تأثير مرعب على القرارات المهنية التي يتخذها المحررون والمنتجون والمراسلون. لا يمكن لمؤسسة إعلامية أخرى أن تجسد شيئاً كهذا، لكن "بي بي سي" ليست كوسائل الإعلام الأخرى، وذلك بسبب الطريقة الخاصة التي تمول بها عن طريق رسوم الرخصة التلفزيونية، وهذه نقطة قوة كبيرة، لكنها أيضاً نقطة ضعف لجهة تأكيد استقلاليتها. وعلى أي حال، فإن الإشراف يجب أن يقتصر على مرحلة ما بعد البث ويكون مجرداً إلى أقصى درجة ممكنة، من كل بُعد "سياسي". ربما أفرطت "بي بي سي" في تقديم عدد كبير جداً من العروض الكوميدية "اليسارية" الكسولة التي لم تكن مضحكة ولا ساخرة، وسمحت لشخصياتها بالرواج بصورة خطيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. من الممكن معالجة حالات الإخفاق كتلك، من دون "إلغاء تمويل" الهيئة ككل.
ومن جهة أخرى، وعلى نطاق أوسع، بانتظار أن يهدأ الضجيج الذي أثارته فضيحة مارتن بشير، سيصبح أكثر وضوحاً أن المخاطر التجارية التي تتهدد "بي بي سي" أشد فتكاً من المتوقع. وباعتبار أن موعد تجديد الامتياز الملكي الذي يمنح "بي بي سي" رخصة العمل، يصادف أنه سيحل في 2027، سيتعين الآن على القيادة الجديدة للهيئة التي تضم تيم دايفي، المدير العام، وريتشارد شارب رئيس مجلس الإدارة، البدء في العمل بغرض إقناع الوزراء بأنها (القيادة) تتفهم التحديات التجارية والتحريرية التي تواجه "بي بي سي" في عالم يتغير فيه المشهد الإعلامي بسرعة مذهلة. ومثلاً، يتطلب ظهور شبكة "نتفليكس" وشركات أخرى تقدم خدمة البث التدفقي لأشرطة الفيديو عبر الإنترنت، استجابة من قبل أحد مولدات الطاقة الإبداعية في بريطانيا، وذلك قبل أن يختفي الجمهور، لا سيما فئة الشباب منه.
وكخلاصة، تحتاج "بي بي سي" شركاء تجاريين جدداً في بريطانيا وخارجها، ويتوجب عليها أيضاً الاستثمار في التكنولوجيا الأفضل عالمياً، وذلك كي تصبح أقل تمحوراً حول لندن وأكثر عالمية، وحتى تضمن أيضاً وجود حالة فريدة وسليمة يمكن الدفاع عنها، في كل "سوق" توجد أو تدخله، بداية من "راديو 3" (المخصص للموسيقى الكلاسيكية والثقافة) إلى مدونات البث الحي الخاصة بـ"يوروفيجن".
واستطراداً، ستكمل "بي بي سي" سنتها المئة في العام المقبل. ولا يوجد سبب يمنعها من أن تكون أكثر نجاحاً في القرن التالي من عمرها، لكن التنمر لن يساعدها في ذلك.
© The Independent