بعد عام 2011، بدأ المتقاعدون في تونس، الذين يبلغ عددهم أكثر من مليون موزعين بين القطاعين العام (320 ألفاً) والخاص (700 ألف)، يطالبون بتحسين أوضاعهم التي تدهورت بفعل غلاء المعيشة في البلاد. فهل أنصفت الدولة والمجتمع هذه الفئة؟
عرفت تونس تحولات ديموغرافية اتسمت ببروز ظاهرة الشيخوخة السكانية، التي تعود إلى عوامل عدة من بينها ارتفاع مؤمل الحياة عند الولادة (74.5 سنة للرجال و78.1 سنة للنساء)، وانخفاض الخصوبة، وهو ما تسبب في ضغط مالي على نظام التقاعد.
وأدى ارتفاع مؤمل الحياة عند الولادة إلى طول مدة الانتفاع بالراتب، من 13 سنة في التسعينيات إلى 20 سنة حالياً، فتقلصت موارد الصناديق الاجتماعية، ما جعلها تعيش صعوبات مالية كبرى أصبحت تهدد مصير آلاف المتقاعدين.
غلاء الأسعار وتدني القدرة الشرائية
وتعيش تونس خلال سنوات ما بعد 2011 عدم استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي، أثر بشكل مباشر على هذه الفئة بسبب غلاء الأسعار وتنامي ظاهرة الاحتكار، مقابل تدني قدرتهم الشرائية.
كمال بن طالب، متقاعد من قطاع الصحة، تبدو عليه سمات الحيوية والنشاط، وهو المواظب على الأنشطة الرياضية بشكل يومي، تحدث لـ"اندبندنت عربية"، عن أن اختلاف المحيط المهني عن المحيط الجديد للمتقاعد، قد يشكل صدمة، من خلال صعوبة الاندماج في المحيط الجديد، والتخلي الفجائي عن التزامات المحيط المهني.
وعن تجربته، يقول، "لقد انتظرت تلك اللحظة، وكنت مستعداً لها من خلال برنامج مضبوط، إذ أوزع وقتي اليومي بين ممارسة الرياضة وعدد من الأنشطة الأخرى، بحيث لا أجد إشكالاً في أوقات الفراغ".
وحول توازناته المالية، أكد أن راتبه "يفي بالحاجة (مستورة والحمد لله)"، لافتاً إلى ضرورة مراجعة سن التقاعد، لأن المتقاعد في تونس في تقديره "يغادر المحيط المهني وهو قادر على المزيد من العطاء".
معاناة متقاعدي القطاع الخاص
رضا العيفي، متقاعد من القطاع الخاص، كان يعمل في شركة لبيع المواد الغذائية بالجملة، بدا شاحب الوجه، ضعيف البنية، علامات البؤس ظاهرة على ملامحه، عبّأ نفساً عميقاً من سيجارة تكاد تحرق إصبعيه، وتحدث بأسف عن معاناة فئات كبيرة من المتقاعدين من القطاع الخاص، إذ لا يكفي الراتب التقاعدي لتأمين لقمة العيش.
وقال، "أضطر إلى النهوض يومياً في ساعات الفجر الأولى، لأعمل لساعات في سوق الجملة لبيع الخضر، ثم في المساء أجمع القوارير البلاستيكية من الشارع، لبيعها إلى وحدات تجميع البلاستيك مقابل دنانير قليلة".
الاستعداد لحياة جديدة
صالح بيزيد، متقاعد من قطاع الثقافة والإعلام، تحدث عن شغفه بعمله، وقال، "أقضي ثلاثة أرباع اليوم في العمل، ولم تتغير الحياة بشكل كبير في فترة التقاعد لأنني أواكب كل الأنشطة الثقافية ومنخرط في العمل الجمعياتي"، وأضاف، "مادياً، راتبي يكفيني على الرغم من أن المسؤول الإداري في تونس يتمتع بامتيازات كثيرة، فإنها تنقطع في مرحلة التقاعد"، داعياً إلى ضرورة الاستعداد الجيد نفسياً ومادياً لهذه المرحلة الجديدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فتحية (طلبت الاكتفاء بالاسم الأول)، أستاذة تعليم ثانوي متقاعدة، قالت، "دخلتُ حياة جديدة انشغلتُ فيها بترتيب شؤون بيتي وممارسة الرياضة ولقاء بعض الصديقات القليلات في هذه المرحلة، بعد أن كان عددهم أكثر"، وأضافت، "انقطعت نهائياً عن التدريس، أبنائي تخرجوا في الجامعة، وفيهم من يشتغل، وربما أعود إلى التدريس مع أحفادي"، وعن راتبها، تقول، "الحمد لله يفي بالحاجة وأوزعه بين أبنائي وبعض أغراضي".
وينشط عدد كبير من المتقاعدين، في جمعيات ثقافية وبيئية واجتماعية، من أجل لم شمل زملاء الأمس، وإيجاد فضاء مغاير للمقهى والبيت للقاء.
جمعيات للم شمل المتقاعدين
جمعية قدماء الإذاعة والتلفزة التونسية واحدة من الجمعيات الناشطة في مجال الترفيه وتقديم المساعدات إلى المتقاعدين من المؤسسة، وأكد خالد بن فقير، نائب رئيسها، أن الجمعية لا تتلقى دعماً من الدولة، بل تعول على إمكانيات منخرطيها، وتنظم أنشطة ترفيهية للمتقاعدين وتساعد البعض منهم عند الحاجة.
ودعا بن فقير إلى تمتين العلاقات بين الجمعيات الناشطة مع المتقاعدين، من أجل الاستفادة من الخبرات، لافتاً إلى أن القطاع العام في تونس لا يستثمر في إمكانيات متقاعديه، معتبراً إياهم ثروة مهدورة.
طاقات مهدورة
وتؤكد أستاذة علم الاجتماع فتحية السعيدي، في تصريح خاص، أنه لا توجد سياسات عامة في تونس تمكن من الاستثمار في هذه الطاقات، باستثناء الأطباء وأساتذة التعليم العالي الذين يواصلون التدريس إلى ما بعد الـ65 سنة، ولفتت إلى أن بعض النقابات في التعليم الابتدائي تطالب بأن تكون سن التقاعد في حدود 55 سنة، وهي مفارقة في تقديرها، حيث إن المربي في هذه السن قادر على العطاء.
وتختلف ظروف المتقاعد المادية بين القطاعين العام والخاص، نظراً لاختلاف الراتب التعاقدي.
تحركات لتحسين ظروف المتقاعدين
ولتحسين ظروف متقاعدي القطاع الخاص، دعت الجامعة العامة للمتقاعدين التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل إلى عدد من التحركات الاحتجاجية، وقال عبد القادر الناصر، الكاتب العام للجامعة العامة للمتقاعدين، لـ"اندبندنت عربية"، "وضعية المتقاعدين في تونس مزرية، بسبب ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة"، ولفت إلى أن معدل الرواتب في القطاع الخاص لا يتجاوز 450 ديناراً (150 دولاراً)، بينما هو في 1200 دينار (400 دولار) في القطاع العام، وشدد على أن الدولة التونسية تعتبر المتقاعد عبئاً عليها وتحمله مسؤولية انهيار الصناديق الاجتماعية، مشيراً إلى أنه يتلقى يومياً عشرات المطالب من المتقاعدين من أجل تشغيل أبنائهم أو تحسين أحوالهم المادية.
الحكومة تواجه صعوبات
في المقابل، أكد وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي، خلال جلسة استماع في مجلس نواب الشعب، أن "الحكومة تواجه صعوبات في صرف رواتب المتقاعدين، وكل شهر تقوم بجهود مضنية لتوفير السيولة الضرورية لذلك"، وتابع الطرابلسي أن الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية (القطاع العام)، يجب أن يوفر شهرياً 500 مليون دينار (166 مليون دولار)، والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (القطاع الخاص) يجب أن يوفر 340 مليون دينار (113 مليون دولار)، معتبراً أن هذين الصندوقين يشكلان أكثر من 10 في المئة من الناتج الداخلي الخام.