ملخص
أثرت تجربة العمل عن بعد بشكل جذري على عادات الاستهلاك وسلوكيات الشراء، حيث أدت إلى تغييرات كبيرة في طريقة استهلاك الأفراد للمنتجات والخدمات، فتحول المستهلكون إلى الاستثمار في الترفيه المنزلي.
استكمالاً لما نُشر بالأمس حول ظاهرة العمل عن بعد وانعكاساتها على أسواق العقار والاقتصاد، إذ وصل الأمر للتوجه نحو مراكز العمل المشترك في المجمعات السكنية. وهو نموذج حضري يضم عدة مراكز اقتصادية وتجارية داخل المدينة بدلاً من وجود مركز رئيس واحد. هذا النموذج أصبح يتماشى بشكل مثالي مع التحولات التي أحدثها العمل عن بعد.
العمل عن بعد يقلل من الاعتماد على وسط المدينة المركزي. هذا التحول يعزز تنمية مناطق اقتصادية متعددة داخل المدن، حيث يمكن للعاملين عن بعد الاستفادة من مراكز العمل المشتركة والخدمات التجارية في المناطق المحيطة بهم.
مدن مثل لندن ونيويورك بدأت تشهد انتقال الشركات لتوزيع نشاطها في مراكز عدة داخل المدينة، مما يساعد في تقليل الضغط على وسط المدينة ويعزز التوازن بين المناطق السكنية والتجارية. كما بدأت مدن مثل برلين وأمستردام بتطوير أحياء متعددة تتوافر فيها كافة الخدمات الضرورية، مما يجعلها وجهات مفضلة للعاملين عن بعد الذين يبحثون عن مرونة أكبر في حياتهم اليومية.
ويسهم الانتقال إلى نموذج المدينة متعددة المراكز في تخفيف الضغط على البنية التحتية للمواصلات العامة والطرق. ومع وجود مراكز متعددة، يمكن للعاملين الوصول إلى مراكز قريبة من منازلهم بدلاً من الاعتماد على المواصلات العامة للوصول إلى مركز المدينة الرئيس، مما يقلل من ازدحام المرور والانبعاثات الكربونية. كما تسهم في تحسين التوازن الإقليمي وتقلل من الفجوة بين المدن الكبرى والمناطق الريفية.
مستقبل المدن والمراكز الاقتصادية
المدن الكبرى قد تصبح أقل مركزية في المستقبل الاقتصادي بسبب التحولات نحو العمل عن بعد. فالعمل عن بعد يقلل من الحاجة إلى المراكز الحضرية والشركات قد تقلص مساحاتها المكتبية أو تنتقل إلى مدن أصغر وأقل تكلفة، مما يخفف الضغط على المراكز الاقتصادية الكبرى.
في المقابل قد تتحول الاستثمارات إلى المدن الصغيرة والمناطق الريفية، فالعمل عن بعد لا يؤثر فقط في مكان إقامة الموظفين، بل يؤثر أيضاً في الأنشطة الاقتصادية التي تعتمد على تدفقهم إلى المدن الكبرى. وقد يزدهر الاقتصاد المحلي في الضواحي والمدن الصغيرة بفضل ازدياد الطلب على الخدمات المحلية. على سبيل المثال، مدن مثل نيويورك وسان فرانسيسكو شهدت انخفاضاً في الطلب على العقارات المكتبية وارتفاعاً في الإيجارات في المناطق الريفية والمناطق المحيطة بالمدن.
ويرى الخبير والمستشار في التخطيط العمراني والتكنولوجيا الدكتور نبهان النبهان أن "التأثير يعتمد على مدى سرعة وانتشار أسلوب العمل عن بعد والعمل الهجين، فالعلاقة طردية بينهما ومتداخلة، وذلك لسبب هيكلي وهو أن العمل نشاط إنساني أساسي يؤثر بشكل عميق وممتد في عملية التخطيط العمراني للمدن".
وحول تغيير التركيبة السكانية في الدول والمدن التي يشكل الوافدون نسبة كبيرة منها يشير النبهان إلى "تأثير استمرار انتشار العمل عن بعد والعمل الهجين على الاقتصادات التي يشكل الوافدون جزءاً كبيراً منها، والذي يمكن أن يكون على أكثر من مستوى، المستوى الأول هو للوافد الذى يعمل من بلده ومن منزله أو من مبانٍ مؤهلة من قبل الشركة الأجنبية التي يعمل بها عن بعد، كما هو معمول به في بنغالور الهندية، وهنا نرى تأثيراً أعمق للعمل عن بعد. فلقد جعل العمل عن بعد من بنغالور مدينة متعددة المراكز في بلد آخر وأصبح الوافد، ليس بوافد ولكنه يعمل لشركة عالمية".
وتابع "المستوى الثاني هو للوافد الذي يعمل في بلد غير بلده، فإضافة إلى المميزات التي تتعلق بالدخل العالي فإن التكلفة الاجتماعية والإنسانية أصبحت أقل بسبب تقنيات التواصل الاجتماعي اللحظي. العمل عن بعد والعمل الهجين يرفعان الكفاءة الاقتصادية للمجتمعات والبيئة إذا تم التخطيط لهما بعناية وعمق، والمدن متعددة المراكز أصبحت حقيقة واقعية تزداد وتنتشر، ومن خلال التخطيط الواعي يمكن الاستفادة من العمل عن بعد والعمل الهجين لتحقيق كفاءة أعلى للاقتصاديات الفردية والوطنية والعالمية".
قطاع النقل واستهلاك الوقود
يقضي الموظف العادي من 8 إلى 12 يوماً سنوياً في التنقل للعمل والعودة منه. وذلك يسهم في إرهاق الموظفين، ويقلل من انتاجيتهم الشخصية، بل ويمتد تأثيره ليشمل استهلاك الوقود والانبعاثات الكربونية. فبحسب تقارير وزارة الطاقة الأميركية، ينفق السائق الأميركي العادي نحو 500 إلى 600 ليتر من الوقود سنوياً على التنقل إلى العمل فقط. ويترجَم ذلك إلى نحو أكثر من 1000 كيلوغرام من ثاني أكسيد الكربون سنوياً فقط من تنقلاته إلى العمل، وهذا من دون احتساب الازدحام المروري والذي يزيد من انبعاثات الكربون بسبب القيادة البطيئة والتوقف المتكرر.
إن التحول إلى العمل عن بعد أدى إلى تقليل الاعتماد على وسائل النقل اليومية، مما قلل الطلب على النقل العام وخدمات النقل التشاركي (مثل أوبر). وشهد معظم شركات النقل انخفاضاً في الإيرادات نتيجة قلة التنقلات اليومية للعاملين. فمثلاً، في عام 2023، حققت أوبر 19.6 مليار دولار من إيرادات خدمات التنقل، والتي تشمل خدمات ركوب السيارات، لكنها كانت أقل من النمو الذي شهدته خلال سنوات ما قبل الجائحة، حيث كان أحد الأسباب الرئيسة لتقليل الحاجة إلى التنقل اليومي هو استمرار العمل عن بعد.
تأثيرات على قطاع المطاعم
المطاعم التي تعتمد بشكل كبير على العملاء من الشركات، مثل المطاعم القريبة من المكاتب، تأثرت بشكل سلبي بسبب انخفاض عدد العاملين في المكاتب. ووفقاً لتقرير صادر عن الجمعية الوطنية للمطاعم في الولايات المتحدة، شهدت العديد من المطاعم انخفاضاً في الإيرادات بنسبة 30 إلى 50 في المئة خلال فترة العمل عن بعد.
على الجانب الآخر، شهدت المطاعم التي تعتمد على خدمات التوصيل نمواً في الإيرادات نتيجة لزيادة الطلب على الطعام المنزلي، مما أدى إلى تحول بعض المطاعم بالكامل إلى نماذج أعمال تعتمد على التوصيل.
لقد تمكنت أوبر عن طريق خدمة "أوبر ايتس" لتوصيل الوجبات، من تعويض الانخفاض في إيرادات خدمات التنقل. وارتفعت إيرادات توصيل الطعام إلى 12.1 مليار دولار في ذات العام، مما يعكس تحولاً في الأولويات بسبب تغييرات نمط العمل عن بعد.
بالمقابل في بعض المناطق الريفية، أدى العمل عن بعد إلى زيادة الطلب على المطاعم والمحلات المحلية، حتى أن بعض المطاعم الريفية واجهت تحديات في إيجاد العمالة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
معاناة قطاع السفر والفنادق
يميل الأشخاص الذين يعملون عن بُعد إلى استغلال ساعات الصباح لزيارة الأماكن الترفيهية، بهدف تجنب الزحام الذي يحدث في المساء أو عطلات نهاية الأسبوع. وبالتالي أدى ذلك إلى زيادة في زيارة السينما والأماكن الترفيهية خلال ساعات الصباح، بخاصة في أيام الأسبوع.
كما لوحظ ارتفاع في الإقبال على السياحة المحلية، مما يتيح لهم الحصول على تجربة أكثر هدوءاً وراحة من دون التأثير على جداول عملهم. إلا أن الإنفاق على السياحة والسفر شهد انخفاضاً كبيراً، حيث تراجع الإنفاق على الرحلات الترفيهية والسفر بشكل ملحوظ، كما انخفض الطلب على الاستراحات التي كانت تعتمد على الزبائن المتنقلين للعمل.
تحولات في قطاع التجزئة والتجارة الإلكترونية وسلوكيات المستهلك
ازداد الاعتماد على التجارة الإلكترونية خصوصاً في المناطق الريفية، مما أثر في المحلات التقليدية في المدن الكبيرة التي لم تكن مجهزة جيداً لخدمات التوصيل أو التجارة الإلكترونية. كما تأثرت بعض المحلات في المدن الكبيرة التي كانت تعتمد على السياح وذلك بسبب تقليل السفر لأغراض العمل وبالتالي انخفاض عدد الزوار. وعلى الجانب الآخر ارتفعت إيرادات المحلات الصغيرة في المناطق الريفية.
وشهدت المتاجر المحلية في بعض المناطق الريفية، زيادة في المبيعات نتيجة لتغير أنماط الاستهلاك الناجمة عن العمل عن بعد، حيث حفزت بعض المستهلكين للتركيز على الشراء من المتاجر المحلية لتجنب التأخيرات الطويلة في الشحن ولتشجيع الأعمال المحلية. ومع بقاء المزيد من الموظفين في منازلهم، زاد الطلب على خدمات التوصيل. الشركات التي تقدم توصيل المنتجات إلى المنازل شهدت ارتفاعاً كبيراً في الطلب، سواء كان ذلك لتوصيل الطعام أو المنتجات الاستهلاكية اليومية.
إن تجربة العمل عن بعد أثرت بشكل جذري على عادات الاستهلاك وسلوكيات الشراء، حيث أدت إلى تغييرات كبيرة في طريقة استهلاك الأفراد للمنتجات والخدمات، فتحول المستهلكون إلى الاستثمار في الترفيه المنزلي مثل الاشتراكات في خدمات البث مثل "نتفليكس"، والألعاب الإلكترونية، والوجبات المنزلية الجاهزة. ومع قضاء المزيد من الوقت في المنزل، زاد الاهتمام بالصحة الشخصية واللياقة البدنية والمنتجات المتعلقة باللياقة البدنية مثل الأجهزة الرياضية المنزلية، وتطبيقات التدريب، والوجبات الصحية، كلها شهدت ارتفاعاً في المبيعات. ومع تراجع الحاجة إلى التواجد في المكاتب، انخفضت مبيعات الملابس الرسمية والملابس المكتبية مثل البدلات. بدلاً من ذلك، شهدت الملابس المنزلية والرياضية زيادة كبيرة في الطلب، حيث يميل الناس إلى ارتداء ملابس مريحة للعمل من المنزل.