أنهت الحكومة السعودية واحدة من القضايا الدينية والاجتماعية التي لطالما أثير حولها الجدل، بمنع "إذاعة وقائع الصلاة في المساجد عبر مكبرات الصوت الخارجية"، بعد سجالات قديمة ومتجددة حول الإجراء الذي زاد وقعه في السابق تقارب دور العبادة في المدن السعودية واختلاط أصوات الأئمة والقراء.
وأعلنت وزارة الشؤون الإسلامية في البلاد أنها أصدرت تعميماً إلى كل فروعها في المملكة مترامية الأطراف تقضي بتوجيه منسوبي المساجد "بقصر استعمال مكبرات الصوت الخارجية على رفع الأذان والإقامة فقط، وألا يتجاوز مستوى ارتفاع الصوت في الأجهزة عن ثلث درجة جهاز مكبر الصوت، واتخاذ الإجراء النظامي بحق من يخالف".
واستندت الوزارة في التعميم الذي حمل توقيع وزيرها الشيخ عبداللطيف آل الشيخ، ما قالت إنها أدلة شرعية، تبيح الإجراء الذي اتخذته، في سياق معركتها في ضبط المنابر والمساجد، البالغ عددها نحو 98 ألف مسجد وجامع، وفقاً لأرقام هيئة الإحصاء في السعودية عام 2017، وذلك فضلاً عن المصليات الخاصة، التي جرت العادة على إقامتها في الأسواق ومحطات الوقود، وبعض القصور، إلا أنها غير مسجلة لدى الوزارة المعنية بالمساجد.
وذكر آل الشيخ في البيان الذي غردت به وزارته على حسابها في "تويتر" الأدلة، التي قال أن "منها قول النبي صلى الله عليه وسلم "إن كلكم مناجٍ ربه فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة، أو قال: في الصلاة"، رواه أحمد بإسناد صحيح، وعملاً بالقاعدة الفقهية "لا ضرر ولا ضرار"، ولأن تبليغ صوت الإمام في الصلاة خاص بمن هو داخل المسجد وليس ثمة حاجة شرعية تدعو لتبليغه لمن في البيوت، إضافة لما في قراءة القرآن في المكبرات الخارجية من الامتهان للقرآن العظيم عندما يقرأ ولا يستمع إليه".
وكان دعاة سعوديون قد عارضوا في سنوات سابقة دعوات من بعض الكتاب والباحثين الداعين إلى الحد من ظاهرة التباهي بالمكبرات الصوتية، واعتبروا سماع السكان من خارج المسجد لتلاوات الأئمة القرآن في الصلوات الجهرية مظهراً إسلامياً ينبغي أن يبقى.
فتوى قديمة وقرار جديد
لكن وزير الشؤون الإسلامية وآخرين ردوا على تلك الذريعة التي استغلها بعض المريدين في التهجم على قرارات من هذا النوع، بأن الفتوى في البلاد قد سبقت بعدم استخدام المكبرات الخارجية في غير الأذان والإقامة، من جانب "العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - والعلامة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للفتوى، وغيرهم من أهل العلم".
وفي معظم الدول العربية والإسلامية، يقتصر استخدام المكبرات الصوتية على الأذان فقط دون غيره، بما في ذلك التي يشكل المسلمون غالبية أو كل سكانها مثل المغرب.
ودخل القرار حيز التنفيذ هذه الليلة، إذ ساد الصمت أحياء مدن مثل الرياض في صلاتي المغرب والعشاء، التي كانت أصوات الأئمة فيها تضج بالقراءة، لدرجة أن فقيهاً مثل الشيخ سليمان الماجد بين المؤيدين لخطوة السلطات الدينية في البلاد، قال إنه حضر مجلساً لأحد الأئمة أبلغه فيه أحدهم بأنه كان يسمع صوته عن بعد عدد من الكيلومترات، فأحدث ذلك شيئاً من الزهو عند ذلك الإمام، وهو ما قال الماجد إنه خلافاً للمقصد الشرعي من إقامة الصلاة والتعبد ومحاربة حظوظ النفس.
وتوعدت الشؤون الإسلامية على لسان وزيرها آل الشيخ المخالفين باتخاذ الإجراء النظامي في حق من يخالف، من دون أن يفصل كثيراً ما يعنيه بذلك الإجراء، إلا أنه ذكر في تصريحات تلفزيونية سابقة أنه "يذهب إلى بيته"، أي إن الإمام الذي لا يلتزم بالقيود الجديدة يتم طي قيده من سلك الوزارة.
وقال، "اتخذت الوزارة هذا القرار المدروس، وستطبقه بحذافيره، ولن تتسامح بأي حال من الأحوال مع تجاوزه... وسيكون هناك بإذن الله تكاتف الجهود بين منسوبي الوزارة والمراقبين والأئمة والمؤذنين لإنهاء هذا الضجيج ولوضع الأمور في نصابها الشرعي، ولا بد من أن المحافظة على هيبة المسجد، وأيضاً رصانة المؤذن والأذان بأن يكون هذا الأذان يدعو إلى الخشوع والاطمئنان وليس إلى النفور وإغلاق الأذان".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واكتسبت الوزارة في سنواتها المتعاقبة خبرة واسعة في ضبط المنابر والمساجد، بعد عقود من هيمنة ما يطلق عليه محلياً تيار "الصحوة"، الذي كان يفرض شروطه وخطابه الديني على المصلين، وعندما يجري اتخاذ قرار تنظيمي كالذي أعلنته الوزارة أخيراً، فإنه يحتج ضده ويجيش المريدين لشيطنة داعميه، لكن بعد التحول الذي شهدته البلاد في السنوات الأخيرة، أصبحت الأصوات المتشددة غير مرحب بظهورها البتة، خصوصاً تلك التي كانت تعتبر هذا النوع من القرارات نوعاً من إملاءات التيار الليبرالي الذي يريد كسر هيبة التدين في نفوس المجتمع المحافظ، بحسب ما كانوا يرددون.
مطالبات قديمة
وكانت في المقابل أصوات الكتاب السعوديين قد علت في وقت مضى بالدعوة إلى التشديد في كبح جماح المآذن الصاخبة، وأثار تعليق على فضائية "أم بي سي" للكاتب محمد السحيمي جدلاً كبيراً حين اعتبر "تيار الصحوة بالسعودية استفرد بالناس ليمرر أجندته الخاصة المتمثلة بالتشدد والتخويف"، مؤكداً أن "صوت الأذان يزعج المصلين والأطفال بشكل مرعب يثير الفزع في هذا البلد"، ليجري إيقافه بعد ذلك عن الكتابة، إلا أن الكثيرين حتى في ذلك الوقت في 2018، وقبله يناصرون فكرة ضبط المآذن، وإن اختلف بعضهم مع الكاتب في حدة تعبيره، وخصوصاً أنها أصبحت مفتوحة أكثر من ذي قبل لكل الجنسيات والأديان.
وبدأت السعودية قبل جائحة كورونا بفتح حدودها للسياحة، في سلسلة إجراءات عدة اتخذتها للانفتاح على العالم، بعد إطلاق رؤيتها 2030 الطموحة، الرامية إلى خلق مناخ اجتماعي أكثر حيوية، ضمن سماته جودة الحياة.
كما أعلن ولي عهد البلاد الأمير محمد بن سلمان في مقابلته الأخيرة، أن النهج الجديد في نظرة السلطة السياسية لعلاقة الدين بالدولة أصبحت أكثر مرونة، فهي لم تعد تلتزم بمدرسة معينة بما في ذلك اجتهادات الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الذي كان بعض المتشددين يحاولون إنزال أقواله على واقع الرياض المختلف اليوم عن العهد الذي ذكرت فيه تلك الاختيارات قبل نحو 300 عام.
وقال، "نحن متى ما ألزمنا نفسنا بمدرسة معينة أو بعالم معين، فإن ذلك يعني أننا قمنا بتأليه البشر، والله سبحانه وتعالى لم يضع بينه وبين الناس حجاباً، أنزل قرآنه على رسوله، وهو طبقه على الأرض، والاجتهاد مفتوح إلى الأبد، والشيخ محمد بن عبدالوهاب لو خرج من قبره ووجدنا نلتزم بنصوصه ونغلق عقولنا عن الاجتهاد ونؤلهه أو نضخمه لكان أول من عارض هذا الشيء، فلا توجد مدرسة ثابتة، ولا يوجد شخص ثابت. القرآن موجود، والاجتهاد مستمر فيه، وكذلك سنة الرسول، صلى الله عليه وسلم، أما الفتاوى فهي بحسب كل زمان ومكان، وبحسب كل فهم".
بيد أنه لفت إلى أن ذلك لا يعني التفريط في الهوية الإسلامية التي طبعت البلاد بوصفها قبلة المسلمين، حيث مكة والمدينة، بل اعتبرت الرؤية تلك الصفة أحد مكامن قوة الدولة المحورية، فأكدت أن السعودية "أرض الحرمين الشريفين، أطهر بقاع الأرض وقبلة أكثر من مليار مسلم، ما يجعلها قلب العالمين العربي والإسلامي"، ومن بين خططها قبل أزمة كورونا رفع أعداد المعتمرين ابتداءً من هذا العام إلى 10 ملايين سنوياً، ورفع مستوى جودة الخدمات المقدمة إليهم "لتكون نسبة رضاهم عالية".
لا يشمل القرار الجديد الحرمين الشريفين في مكة والمدينة، فإن ظروفهما مختلفة ولا يتبعان لوزارة الشؤون الإسلامية التي تشرف على بقية المساجد في السعودية.