لا يفتأ إسلام أبو شكير يؤكد إخلاصه للرواية القصيرة (النوفيللا). فبعد "القنفذ"(2013) و"زجاج مطحون"(2016) يقدم الكاتب السوري روايته القصيرة الثالثة "خفة يد" (دار المتوسط 2020) مطوراً ما جاء في الرواية الثانية من خصوصية وتميز في التجربة الروحية للشخصية الروائية، ومن هيكلة البناء الروائي وإكسائه إن صح التعبير.
الراوي في "خفة يد" كاتبٌ بضمير المتكلم، وبلا اسم، فتنادي الرواية بذلك السيرية التي تتلامح أيضاً في انتساب الراوي إلى مدينة البوكمال على الحدود العراقية، أو في عقد لطباعة أحد كتبه... لكن الراوي لا يلبث أن يقوض السيرية مثلما يفعل في كل ما يبينه في الرواية، ابتداءً بانتحار صديق الراوي وهو في عمر الرسام والنحات الإيطالي موديلياني عندما انتحر في الخامسة والثلاثين من عمره وصديقته جيني الحامل منه في 24/1/1920، وبحضور بيكاسو. ولكن من قال إن هذا الفنان الذي امتلأت لوحاته بالأعناق الطويلة والعيون المطفأة الفارغة، قد انتحر؟
يكتب الراوي مقالة عنوانها "جرائم موديلياني". لكن المجلة ترفضها، فيفتح اللابتوب ليعدل المقالة، فإذا بموديلياني قد اختفى منها. وبدلاً منها ها هي سوسن ملّاك وها هو طبيب الأسنان عروة المدني، يملآن مقالة، كما لو أن الراوي كتبها. وكان قبل ذلك قد تحدث عن عروة الذي اعتزل مهنته كطبيب أسنان، وبدّد ثروة أبيه على جمع اللوحات والتحف، وهرب إلى السويد إثر أحداث 2011، وهو المطلوب اعتقاله.
لقاءات متعددة
يسرد الراوي أنه التقى في دبي بعروة المفجوع بشقيقه الذي قضى تحت التعذيب. وضمّ هذا اللقاء الممثلة المسرحية والسينمائية سوسن ملّاك وقد ابيضت عينها في المعتقل جرّاء لكمة أثناء التحقيق. وسوسن التي أودى بها سرطان الرئة تذكّر الراوي بعلاقتهما قبل ثلاثين سنة. لكن الراوي الملول، والذي لا يحب الاستغراق في البحث والتأمل، لا يذكر عاشقته، وإن يكن يتحدث عن اشتغالها بالسياسة واعتقالها، وكلمتها المؤثرة في الأمم المتحدة، والاهتمام العام بموتها، كما يتوقع أن في حياة هذه الشخصية المهيمنة التي تفيض أنوثة وأناقة، فجوات. ولأنه ينوي أن يكتب عنها، يراسل عروة كي يزوده بمعلومات عنها، وإذا بعروة لم يسمع بسوسن ملاك، فيتساءل الراوي: "هل التبس عليّ الأمر"؟
تبدأ الرواية القصيرة "خفة يد" بالحقيبة العامرة بفوضى تراكمت مع الزمن، وسرعان ما تخرج الحقيبة من جلدها، لتكون – ربما – بلداً أو حياةً، فيفرغها الراوي من أغلب محتوياتها، إذ لا شيء يستحق أن يحتفظ به "قمامة تقريباً" من أشخاص لا يعرفهم، أو أماكن لم يرها، أو أحداث لم تقع، أو أوراق لا تخصه. لقد كانت الحقيبة سر الصداع المزمن والكوابيس والدوار والعلل الجسدية التي عانى منها. وها هو الآن ممتلئ بـ "إحساس رائع بالخفة". غير أن هذه الحقيبة ستلتبس بحقيبة عروة المدني. ومن هذا الالتباس يتابع الراوي التعريف بصديقه الذي كان لا يبالي بالأسماء الكبيرة، بل يدعم الفنانين الشباب، ويسمي لوحاته أولاده. ولأنه كان عليه أن ينقذ "أولاده" بعد زلزلة 2011، دفن اللوحات في غوطة دمشق، وتحوّل، بعدما أفلس، إلى الكتابة عن الفن التشكيلي، ليعيش.
يقطّع الراوي تقديمه لأية شخصية، وسرده لأي حدث أو ذكرى. وعبر التقطيع يُحكِم الالتباس ويطوره أحياناً ليغدو إلغازاً. ففي الحقيبة، ومنذ البداية، هي ذي صورة سمر/ سيمو عام 1986، قبل كتابة الراوي للرواية باثنتين وثلاثين سنة، أي عام 2018، كما يحدد. لكن صورة الحقيبة ستصير صورة سوسن ملّاك، بينما تفجر مشاهدة الراوي لأحد مجلدات تشيخوف، سيلاً من صور زمن مخيّم اليرموك: "الشعراء والصحافيون والمناضلون والعشاق والسكارى والعاطلون من العمل. الحوارات الصاخبة. الكتب الممنوعة مغلفة بورق الجرائد. اللحى والفيلدات الخاكي وبناطيل الجينز المتسخة. السجائر المهربة الرخيصة. سينما النجوم. الأعلام. الشعارات. الجنائز. الهتافات." ويمضي هذا السيل إلى ذكريات الراوي عن شبابه وصورة سمر/ سيمو، والصورة إذن ليست لسوسن ملّاك، أم إن سوسن ملّاك هي سمر/ سيمو؟ وماذا إذن عن السيناريو الذي يتخيله الراوي، حول علاقته بعاملة المقسم التي كان يراها كلما اتصل بأهله في البوكمال؟
إنقطاع عن الخارج
لنعدْ إلى البداية والهاتف المقطوع في إيماءة إلى قطع صلة الراوي بالخارج. والهاتف ليس له، بل لسلامة الذي يختفي اسمه ليظهر اسم يوسف. لكن الهاتف الذي سيعمل وسينقطع يجود برسائل العزاء الرسمية غالباً بزوجة سلامة (فاتن). وسيتحول الهاتف المعطل إلى إيقاع، وسيرى الراوي أنه يمكن الإفادة من خطأ وصول رسائل التعزية في ابتكار حكاية، وفي تنشيط الخيال.
يتحول الالتباس إلى إلغاز بما يرى الراوي من شبه بين فاتن الميتة وجارته التي لا يلتقي بها إلا في المصعد، حيث ستشير إلى ما تراه دماً على جبينه، وإذ يتلمسه يتحول الإلغاز إلى العجائبي. فالسائل اللزج الدافئ/ الدم الغزير يتدفق من جبهة الراوي. لكن الجبين سليم كما يظهر في المرآة، ولا أثر للدم على الأصابع، ونقرأ: "هل تحدثتْ عن ندبة على جبيني؟ أية ندبة؟ لم تكن لي واحدة في يوم من الأيام. يبدو أني متعب حقاً. جارتي اللعينة. ما الذي تعنيه بكل هذا"؟
ثم تحضر الجارة إلى غرفة الراوي بعد الثانية ليلاً. ولكن لا أثر لها في الصباح. وكما وصف سوسن ملّاك (مجنونة) يصف الجارة، فأين نحن منهما ومن فاتن ومن عاملة المقسم ومن سمر/ سيمو؟ أين نحن من مقام الراوي في المدينة التي تغرق في الضباب، وتنعدم فيها الظلال، ويطبق عليها الصمت؟ إنها دبي: الخليط الغرائبي، الحالة الشبحية حيث يذوب كل شيء في كل شي، والرهافة الغامضة "لعلها رهافة الزجاج المكسر في الطرقات السريعة".
يمضي الراوي بملاعبة قراءة الراوية كما يحلو له، وإذا بالجارة امرأة خطيرة، كلما رآها يجدها قد تبدلت وصارت نساءً كثيرات يعرف بعضهن، بل صارت طفلاً، وصارت رجلاً. وبعد أن ينقشع الضباب الذي غلّل المدينة، يتساءل عما فعلت الجارة بها، فلم تعد المدينة التي عرفها منذ خمسة عشر عاماً، ويتعجب من تغيير الجارة لمعالم المدينة بسهولة. ولكي لا تستقر القراءة على أن المدينة هي دبي، يتابع الراوي متمنياً أن تسعفه الذاكرة، فقد تكون المدينة واحدة من المدن التي عرفها، أو قد تكون مدينة أخرى لا وجود لها!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا كانت تلك دبي أو سواها، فالعالم يرسمه مذيعو نشرات الأخبار الذين يسيل الدم من أفواههم. و"الأموات وحدهم لا يشعرون بفداحة ما يجري". ولا يحتاج المرء إلى كبير جهد ليتبين كيف يبئر الراوي العالم في بلاده. فالناس في العالم/ البلاد يموتون جوعا وقنصاً وحرقاً واختناقاً بالسارين وبالحزين، في الخنادق وعلى المشانق والمعابر، فرادى وجماعات. وفي ختام الرواية، من شق صغير أسفل الباب (باب البيت أم باب الزنزانة) يخرج الدم "قطرة قطرة، خيطاً خيطاً، سوطاً سوطاً، حلماً حلماً، صورة صورة، جثة جثة ومدينة مدينة".
ينثر الراوي نتفاً من حياته، متباعدة وحارقة، مما شكّله: الاعتقال ستة شهور، اليد المعطوبة التي ورثها من المعتقل حيث أُمر الطبيب بالمعالجة الخاطئة، الحرب اليومية مع النسيان، سنوات الغربة الطويلة، وما أورثته من العزلة. وباندغام ذلك مع ما تقدم، تقوم الرواية القصيرة، أي الوجيزة، ولكن البالغة الرهافة، وهذا ما توجزه هذه السطور: "أفكر في جارتي والدم على جبيني/ أفكر في سوسن ملّاك وسجائرها وعينها البيضاء/ أفكر في عروة المدني وموديلياني وجيني/ أفكر في سيمو، شراب السعال الشهير...". وإلى ذلك يفكر الراوي في تجارة أبيه التي تعرضت إلى ضربة أطاحت به، وفي خاله الذي مات مفلساً بعد أن استولى "داعش" على ما استولى عليه من شراكته مع الأب. ويفكر الراوي في يده المعطوبة والزنزانة واسمه الذي تردده نشرات الأخبار كإرهابي متطرف يكره النساء. وأخيراً: تلك هي الحقيبة التي تحولت إلى ما يشبه حاوية القمامة أو المقبرة التي ضاقت بالجثث فلفظت معظمها.
حاول الراوي إزاء ما واجهه أن يعيش دور المحقق العبقري في الروايات البوليسية الكلاسيكية، عندما يتمكن من حل اللغز في النهاية بواسطة شيء تافه خارج كل التوقعات. وبذا أضاف الراوي البوليسية – وإنْ لمَمَاً – إلى ملاعبة الالتباس والإلغاز والرمزية، من سمات رواية "خفة يد"، وقبل كل ذلك وبعده: التكثيف. ولعل "خفة يد" إذن تؤكد حق إسلام أبو شكير بحمل راية الرواية القصيرة – إلى متى؟ – التي كان محمد البساطي (1937-2021) أكبرنا إخلاصاً لها وتميزاً بها.