منذ حوالى نصف قرن، يواصل الناقد السوري المقيم في لندن خلدون الشمعة مسيرته النقدية، ويمارس فاعليته الثقافية في حقول معرفية مختلفة مثل النقد والبحث والترجمة والصحافة، ويمظهرها في أنواع أدبية متنوعة مثل المقالة النقدية والدراسة الأدبية والأطروحة الجامعية والنص المترجم والمقالة الصحافية. ولعل "الشمس والعنقاء"، "النقد والحرية"، "المنهج والمصطلح"، و"المختلف والمؤتلف" هي أبرز تمظهرات تلك المسيرة الفاعلة. ناهيك بأطروحة دكتوراه في النقد، ما يمنحه موقعاً متقدماً على خريطة النقد العربي. وآخر ما تمخضت عنه فاعليته كتاب "كعب آخيل- النقد الثقافي والنقض المعرفي" الصادر عن دار "خطوط وظلال" الأردنية.
في العنوان، يجاور الشمعة بين ثلاثة مصطلحات مختلفة المرجع، أولها أسطوري يشغل الحيز الرئيسي من العنوان، والآخران نقديان يشغلان الحيز الفرعي منه، ولكل منها مرجعه المعرفي وتمظهراته في النص النقدي، ولعل تفكيك مكونات العنوان هو المدخل الطبيعي إلى متن الكتاب. المصطلح الأول "كعب آخيل" مستمد من ملحمة الإلياذة اليونانية، ويعني نقطة الضعف، ففي الميثولوجيا الإغريقية أن الأم "ثيتس" تقوم بتغطيس ابنها آخيل في نهر الجحيم عند الإغريق ليكتسب القوة والمنعة، غير أن كعبه لم يمسسه الماء، فيتحول إلى نقطة ضعف فيه، يستغلها عدوه "باريس" ليتمكن من قتله. وفي توطئة الكتاب، "هو قوام نقلة معرفية كامنة في النقد الشامل "التنقيد" (ص 12). وانطلاقاً من هذين التعريفين، الأسطوري والنقدي، نتساءل: هل تقتصر مهمة النقد على اقتفاء "كعب آخيل" النص والقيام بقتله، بالمعنى المجازي؟ وماذا عن القوي المنيع من جسد النص المنقود؟ ألا يجدر بالناقد إضاءته ليتيح له فرصة الحياة؟
المصطلحان الثاني والثالث في العنوان نقديان بامتياز، فالنقد الثقافي منهج نقدي عابر للأنظمة المعرفية يعود في الأصل إلى ثيودور أدرنو. ويُعتبر الناقد السعودي عبدالله الغذامي أول مستثمريه في النقد العربي، في كتابه "النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية". والنقض المعرفي نتيجة طبيعية للنقد الثقافي يُشكل تجاوزاً له بواسطة فاعلية المعرفة، وكأن النقض هو هدف النقد. وبهذا المعنى، تتخذ العملية النقدية منحى سلبياً يبحث عن "كعوب آخيل"، ويغضي عن الأجزاء القوية المنيعة من الآثار النقودة، ولعل هذا ما يحاول أن يفعله خلدون الشمعة في كتابه، مباشرة أو مداورة، فيغنم أحياناً، وحيناً يعود من الغنيمة بالإياب.
التنوع الخارجي والداخلي
في المتن، يصدر الشمعة كتابه بنص من أبي حيان التوحيدي، يقول فيه: "الكلام على الكلام صعب، فإنه يدور على نفسه ويلتبس بعضه ببعضه، ولهذا شُق النحو وما أشبه النحو من المنطق وكذلك النثر، والشعر على ذلك". وقياساً على هذا التصدير، يمكن القول إن النقد شُق من الأدب، والنقض المعرفي شُق من النقد الثقافي. وعلى صعوبة الكلام على الكلام، يقوم الناقد، في كتابه، بقراءة مجموعة من الأنواع الكلامية. تتراوح بين أدب الرحلة والخطاب الإعلامي والبحث الأكاديمي والنظرية النقدية والنص الاستشراقي والتحليل النفسي والمفهوم الفلسفي والقصيدة الشعرية والسيرة الشعبية والرواية وغيرها، ما يعني أننا إزاء مروحة متنوعة من أنواع الكلام، ولعل هذا التنوع هو ما يميز النقد الثقافي عن النقد الأدبي الذي يقتصر مجال اشتغاله على النص الأدبي.
على أن التنوع في الكتاب ليس خارجياً فقط يتناول الأنواع الكلامية المختلفة، بل هو داخلي أيضاً ضمن النص النقدي الواحد، ولذلك يتجاور فيه التعريف بالمفهوم والعرض التاريخي والقراءة المنهجية والرأي الشخصي والأسطورة القديمة والحكاية الشعبية والقصيدة الشعرية والأسئلة المطروحة والأجوبة المستنتجة والمصادر المعرفية والرأي المنقوض والحكم الناقض وغيرها، مما يعني أن الناقد يستشمر ثقافته الواسعة، في نقده الثقافي، ليصل في نهاية المطاف إلى نقضه المعرفي. وهو يستخدم في هذه العملية المركبة أدوات منهجية ملائمة تساعده في تجريد الخلاصات والأحكام، ويزخر نصه بالمصطلحات النقدية الحديثة المرعية الاستخدام، يغدو معها النص مجالاً للتثاقف والتواصل والتفاعل بين المراجع المعرفية المختلفة.
العولمة الأولى
إذا كان المقام لا يتسع لمقالة مفصلة في محتويات متن الكتاب، فإن استعراض بعض النتائج التي يتوصل إليها الناقد من شأنه أن يضيء المقدمات التي انطلقت منها، والمسارات التي آلت إليها. وفي هذا السياق، يستنتج الشمعة، في معرض دراسته مفهوم العولمة، أن العولمة الأولى حصلت في القرن الـ 10 الميلادي، وتمحورت حول طريق الحرير، وليس في القرن الـ 19. وهو يتوصل إلى هذا الاستنتاج من خلال رصده حركة الرحالة والتجار العرب باتجاه الصين، في القرنين الـ 13 و الـ 14، ومن خلال وقوفه على اقدم المصادر التي توثق هذه الحركة، وبذلك ينقض بواسطة النقد الثقافي حكماً تاريخياً شائعاً.
في معرض تفكيكه النظرة الغربية إلى الآخر العربي والمسلم، يصفها بالشعبوية. وهي نتيجة يصل إليها من خلال درس الصورة النمطية الإعلامية الغربية للعرب والإسلام، ومن خلال اطلاعه على الدور الذي قامت به "ر. و. سذرن" في تفكيك هذه الصورة ودراسة أسبابها. ويرى أن هذه الصورة تتشكل في إطار "عملية نمذجة وقولبة مستمرة للرأي العام الغربي"، منذ القرون الوسطى، وفي إطار قولبة إعلامية يقوم بها أفراد ومؤسسات بهدف تشويه صورة العربي المسلم. ويأتي اللوبي الإسرائيلي ليحول القولبة الإعلامية إلى مشروع مبرمج تنخرط فيه كتب كثيرة، ويحمل الناقد المسؤولية عن هذا التشويه المتعمد إلى الاستشراق التقليدي والإعلام الجماهيري الغربي، من دون الإشارة إلى مسؤوليتنا عن الإسهام في تشكيل هذه الصورة، من خلال الممارسات الإرهابية التي يقدم عليها كثيرون منا، باسم القومية والدين. أليس من واجب النقد الثقافي الالتفات إلى الذات وعدم تعليق جميع أقمصتنا الوسخة على شماعة الآخر المختلف؟ وبهذا المعنى، ينقض الشمعة المقولة الأوروبية القائلة بمركزية الحضارة اليونانية ليقول بالتفاعل بين الحضارات ومشاركة الحضارة العربية الإسلامية في هذه المركزية.
غير بعيد من هذا السياق، يرفض الشمعة ما يذهب إليه آرنست رينان من غربية الفلسفة ومركزيتها الأوروبية، ومن اعتباره أن الفلسفة العربية الإسلامية وقفٌ على الفقه، وأنها مجرد واسطة لنقل المعرفة عاجزة عن الابتكار الفلسفي، وهو ما يقول به محمد عابد الجابري وأحمد أمين وعبدالرحمن بدوي. ويتكئ الناقد في رفضه على جورج طرابيشي الذي يأخذ على رينان ازدواجية المعايير في تصنيف الفلسفة اليونانية والفلسفة العربية، معتمداً معيار اللغة في الأولى، ومعيار العرق في الثانية، ما يجعل تصنيفه استشراقياً تقليدياً، وبذلك يكون تصنيف رينان بمثابة "كعب آخيل" الذي يرميه طرابيشي، ومن خلفه الناقد، بسهم لعلهما يصيبان منه مقتلاً. غير أن الشمعة لا يشفع نقضه بأمثلة تؤكد على أن الفلسفة العربية الإسلامية ليست مجرد ناقل معرفي، بل هي قادرة على الابتكار والمساهمة في بناء العمارة الفلسفية العالمية، ما يجعل النقض محصوراً في إطار الهدم السلبي ولا يتعداه إلى البناء الإيجابي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لئن كان النقض في الأمثلة السابقة يتكفل به الناقد مباشرة أو يتكئ فيه على الآخرين، فإن نقض الأسطورة الفرويدية يتم مداورة بواسطة الغير، فينقل عن الفيلسوف كارل بوبر نفيه علمية التحليل النفسي وعلم النفس الفرويدي، ويستند إلى الباحث البريطاني ريتشارد وبستر في تحديد أخطاء فرويد. وبذلك يتم النقض بالواسطة. وبعد، هذا غيض من فيض الكتاب الجديد لخلدون الشمعة، وهو إن دل على شيء إنما يدل على أن "كعب آخيل" ليس نقطة ضعف النتاج النقدي لصاحبه، بل هو نقطة قوته لما يشتمل عليه من مادة معرفية غنية، متنوعة، تطرح الأسئلة، وتعيد النظر في كثير من المسبقات، وهذه مهمة النقد بامتياز.