أحدث الإغلاق الأخير لقناة السويس، بسبب جنوح سفينة الحاويات "إيفر غيفن"، وما أعقبه من اضطراب في الأسواق الاقتصادية، صدمة مفزعة، أدرك معها العالم اعتماده الهائل على التجارة البحرية، ومدى أهمية استقرار النظام البحري حول العالم، والذي رعته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى الآن.
لكن النظام العالمي الذي أنشأته أميركا، ليس هو ذاك الذي ترغب الصين وروسيا، العيش فيه، لإدراكهما أنه لم يعد بإمكان البحرية الأميركية الدفاع عن حرية الملاحة في البحار والمحيطات بعد أن انخفض عدد السفن الحربية الأميركية من 6000 سفينة عام 1945 إلى 296 سفينة في الوقت الراهن، فهل ستغير الولايات المتحدة استراتيجيتها العسكرية وتستعيد هيمنتها؟ أم أنها منهكة ولم تعد تستطيع أن تمارس الدور الذي ظلت تمارسه عدة عقود؟
تحدي الصين وروسيا
تسود مخاوف متزايدة لدى المتخصصين في الاستراتيجية البحرية في الولايات المتحدة، من أن جهود الصين المستمرة منذ سنوات في فرض نفوذها على بحر الصين الجنوبي، وسعي روسيا في القطب الشمالي إلى فرض واقع جديد، قد يؤدي إلى تقويض مفهوم البحر الحر بمعني خنق حرية الملاحة واستدامتها في البحار، الأمر الذي سيجعل النظام العالمي الذي تقوده أميركا مجرد كذبة كبيرة، كما سيؤدي ذلك إلى خلق مناخ من عدم الاستقرار، بما قد يتطور إلى حرب كارثية ومكلفة.
فقد بدأت كل من الصين وروسيا في التحرك بشكل استراتيجي، واختارتا بعناية الأماكن التي يرغبان في منافسة الولايات المتحدة فيها، وهدفهما الأساسي، كما يقول جيري هندريكس الضابط السابق في البحرية الأميركية، الحفاظ على الاستقرار السياسي الداخلي بأي ثمن عبر فرض ضوابط على السوق الحرة وبناء جدران من الحواجز والحماية ضد نقل الأفكار السياسية المزعزعة لاستقرار نظمهم الاستبدادية، ولهذا استثمر كل منهما، في تطوير نظام عسكري يهدف إلى دفع الأعداء المحتملين بعيداً عن حدودهما البرية والبحرية، متجاهلتين قروناً من الصراع بين شعوبهما لتشكيل تحالف زائف، وخلق سلام ضعيف على طول حدودهما البرية الطويلة التي تتيح لهما تركيز طاقاتهما التنافسية ضد الولايات المتحدة والغرب بشكل عام.
المشاعات الأربعة
انصب تركيز الصين وروسيا على المشاعات العالمية الأربعة التي يمكن لجميع الدول الوصول إليها، وتعد خارج الولاية القانونية لأي دولة، وهي: الفضاء، والجو، والفضاء الإلكتروني، والبحار، حيث اختارتا التنافس بقوة عبر نشر أجيال جديدة من حاملات الطائرات والطرادات والمدمرات والغواصات النووية الصامتة سريعة الهجوم.
ويرجع التركيز على هذه المشاعات، إلى أن تلك هي المناطق المشتركة التي يمكن أن تعمل كوسائط ليس فقط لنقل الثروة والتجارة، ولكن أيضاً لنقل المفاهيم والأفكار المزعزعة للاستقرار التي تشكل تهديدات طويلة الأجل للدول الاستبدادية، الأمر الذي يجعل السلوك البحري الصيني والروسي أكثر خطراً على المصالح الوطنية الأميركية الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية، ما يثير هواجس في الولايات المتحدة بالنظر إلى القوة البحرية العسكرية التي كانت عليها البلاد في السابق.
مكانة رائدة
وللاحتفاظ بمكانتها الرائدة داخل النظام العالمي، تدعو مجلة "ناشيونال ريفيو" الأميركية إلى اتخاذ قرار من السلطات بسرعة العودة إلى كونها قوة بحرية مسيطرة في العالم لأنه لم يعد لديها الوسائل، ولا الذكاء الاستراتيجي لمواصلة بذل كل الجهود لجميع شعوب العالم، بينما يتطلب الأمر في هذه المرحلة تقييم موقع الولايات المتحدة الجغرافي والاستراتيجي الفريد، بعيداً عن تقلبات اليابسة في أوروآسيا، وبفاصل عريض من محيطين شاسعين، مع الالتزام بما فعل الآباء المؤسسون للولايات المتحدة، من الاستفادة الكاملة من وضع البلاد الجغرافي وتنفيذ استراتيجية دبلوماسية واقتصادية وعسكرية شاملة تركز بشكل أساسي على تأمين واستقرار المشاعات العالمية الكبرى الأربعة كوسيلة للحفاظ على المكانة البارزة للأمة الأميركية مع تجنب الانخراط في حروب برية خارج البلاد التي تستهلك طاقة البلاد وتشتت الانتباه.
وعلى الرغم من أن استخدام مصطلحات في الولايات المتحدة مثل القوة الفضائية والقوة النووية والقوة الجوية، تشمل العناصر العسكرية والدبلوماسية، فإنها فشلت في تحقيق عنصر اقتصادي كبير يمكن أن يقارن بالقوة البحرية، وأهميتها، حيث يتحرك الآن 80 في المئة من التجارة العالمية من حيث الحجم، و70 في المئة من حيث القيمة عن طريق البحر، كما أن نحو 95 في المئة من بيانات الاقتصاد العالمي بين القارات تجري عبر الكابلات البحرية، فيما تتزايد عمليات التنقيب عن الطاقة والموارد الخام والتعدين من قاع البحار والمحيطات.
عود على بدء
وما يطالب به المتخصصون في الاستراتيجية العسكرية ينسجم تماماً مع البداية التي تأسست عليها الولايات المتحدة نفسها كقوة بحرية، حيث كانت الولايات الثلاث عشرة الأصلية مجموعة من مستعمرات القوى الأوروبية، وتوجهت عبر المحيط الأطلسي لبيع مواردها الخام في أسواق أوروبا وشراء سلع متقدمة كاملة التصنيع، وهو ما رسخ فهم الأميركيين بشكل غريزي للمعادلة الاقتصادية المرتبطة بنظرية البحر الحر، والتي تسمح للمواد الخام والسلع المصنعة بالتحرك بكميات كبيرة على متن السفن من مواقع وفيرة ورخيصة لبيعها في الأسواق التي تندر فيها، وتحديد سعر مربح تحدده سوق تنافسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهكذا، سمح البحر الذي يفتقر إلى الحدود الطبيعية الموجودة على الأرض، مثل الأنهار وسلاسل الجبال، للمستعمرات الأميركية بالازدهار، وعرف المؤسسون قيمة وأهمية الموقع الجغرافي، ولهذا السبب رسخوا أهمية بناء قوة بحرية في الهيكل الدستوري للأمة الأميركية الناشئة، حيث يشترط الدستور أن يوفر الكونغرس ويحافظ على البحرية كوسيلة لحماية وتعزيز التجارة البحرية للأمة، بينما ينص فقط على أن الكونغرس يمكنه تكوين ودعم جيش بري عندما تتطلب الأزمات.
بداية التحول
لكن مع بدء التحالفات الأجنبية وانخراط الولايات المتحدة في حروب عالمية داخل أوروبا وآسيا في القرن العشرين، تحولت الاستراتيجية من منظور القوة البحرية إلى منظور القوة القارية التقليدية، ومع نهاية الحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفياتي وشيوع فكرة "نهاية التاريخ" التي أعقبت لحظة الإحساس بالقوة المفرطة، اعتقد الأميركيون بشكل خاطئ أنهم يجب أن يكونوا قوة برية وبحرية في الوقت ذاته.
ولكن بعد عقدين من الزمن وحملتين عالميتين للحرب على الإرهاب، وجدت الأمة الأميركية نفسها الآن منهكة استراتيجياً واقتصادياً، حتى في الوقت الذي تتصاعد فيه روسيا والصين كمنافسين أساسيين للقوة العظمى الوحيدة في العالم، وأصبح السؤال هو متى يتعين على الولايات المتحدة أن تغيير مسارها الاستراتيجي بعد أن تم بالفعل توضيح المسار؟
صراع في البحر
ظلت الحروب والنزاعات مشتعلة بشكل شائع في البحار والمحيطات منذ أن بدأت البشرية لأول مرة فهم مزايا التجارة المنقولة بحراً منذ آلاف السنين، حيث هيمنت حوادث القرصنة والمعارك البحرية الكبيرة على القرون الخمسة والعشرين الماضية، ووصلت إلى ذروتها خلال الـ500 سنة الماضية بسبب الصراعات بين القوى العالمية الناشئة في أعالي البحار، لكن جميع حروب المحيطات وحوادث القرصنة توقفت فجأة عام 1945 عندما خرجت البحرية الأميركية من الحرب العالمية الثانية بأسطول يضم أكثر من 6000 سفينة، وهي قوة وفرت الأمن للعالم منذ ذلك الوقت.
كانت الولايات المتحدة في وضع فريد لإعادة تشكيل العالم في الصورة التي ترغب بها، فالتزمت بالتجارة الحرة، وأصلحت الاقتصاد العالمي من خلال مؤتمر بريتون وودز، الذي أنشأ البنك الدولي وصندوق النقد، ومن ثم بعد فترة وجيزة، من خلال الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة في تسعينيات القرن الماضي، والتي فتح اقتصادات وطنية واستعمارية كانت مغلقة منذ فترة طويلة أمام التجارة الحرة غير المقيدة.
تغيير العالم
ومع وجود وانتشار البحرية الأميركية الكبيرة في دوريات مستمرة موزعة على 18 منطقة بحرية في العالم، تغطي طرفي كل خط تبادل تجاري بحري وتضمن أمن كل نقطة محورية بحرية عالمية، تحسنت الظروف على هذا الكوكب بشكل كبير، وعلى مدى السنوات السبعين التالية للحرب العالمية الثانية، ارتفعت التجارة العالمية والناتج المحلي العالمي بشكل كبير، ما أدى إلى انتشال ملايين الأشخاص من الفقر المدقع مع خفض معدلات الأمية العالمية بشكل كبير، وتحسنت الحياة من خلال الحركة الجماعية للبضائع بأسعار معقولة، غير أن التغييرات المحسنة التي أحدثتها الولايات المتحدة في العالم على مدى أجيال أصبحت مهددة اليوم، بحسب ما يقول متخصصون في الاستراتيجية البحرية الأميركية، إذ إن العالم الذي أنشأته واشنطن ليس هو العالم الذي ترغب بكين وموسكو العيش فيه، لأن انفتاحه الشديد وحرياته الواسعة يهددان الاستقرار الداخلي لهذه القوى الاستبدادية، التي تدرك أنه لم يعد بإمكان البحرية الأميركية الدفاع عن مفهوم البحر الحر، بعد أن انخفض عدد السفن من 6000 سفينة في عام 1945 إلى 296 سفينة حالياً بسبب افتراضات غير مستنيرة أرستها فكرة الانتصار الأيديولوجي الدائم على الاتحاد السوفياتي وقيمة مكاسب السلام.
فراغ جديد
ولهذا، لم يعد الأسطول الأميركي كبيراً بما يكفي لحماية مصالحه باستمرار حول العالم نتيجة تراجع الاستثمار والإنفاق على القوات البحرية، ما خلق فراغاً سمح بمنافسة أميركا في المشاعات البحرية العالمية الكبيرة بشكل لا يمكن أن تتحمل واشنطن خسارته.
ونظراً لأن الولايات المتحدة، قدمت نفسها كقائدة عالمية، يرى عديد من المتخصصين في الدفاع بمراكز التفكير الأميركية أنه يجب عليها الاستمرار في قيادة العالم حتى يتمكن الهيكل الأمني الذي أنشأته من التماسك، ولكي يحدث ذلك يجب الاعتراف بأن وضع أميركا الاستراتيجي في الوقت الحالي لا يتماشى مع نهج القوة البرية القارية في العالم، ففي أميركا الشمالية تقع الولايات المتحدة بين كندا والمكسيك، وهما دولتان ودودتان غير مهددين وأصغر بكثير من حيث عدد السكان والقوة الاقتصادية، بما لا يجعل الولايات المتحدة في حاجة إلى جيش بري دائم كبير الحجم.
كيفية الإصلاح
في المقابل، يوضح متخصصون أن الاستثمار في التجارة البحرية أمر بالغ الأهمية لإعادة الولايات المتحدة إلى موقعها التاريخي كقوة بحرية عسكرية مهيمنة، حيث كانت حكومة الولايات المتحدة تعتبر قبل عام 1981 أن أسطولها التجاري المدني هو احتياطي استراتيجي للقوة البحرية العسكرية، إذ يمكن للسفن التجارية نقل التجارة التجارية، وأيضاً الإمدادات اللوجستية للجيش في زمن الحرب، كما يمكن لأحواض بناء السفن تشييد سفن جديدة للأساطيل المدنية والعسكرية، وإصلاح السفن التي تضررت في العمليات الحربية، ولذلك أدركت الحكومات الأميركية في ذلك الوقت أن قطاع بناء السفن القوي والمرن هو عنصر حاسم في استراتيجية شاملة للأمن القومي.
ومع ذلك، تلاشى بناء السفن الأميركية في وقت لاحق بسبب إنهاء سياسات الدعم والمساندة الحكومية لهذا القطاع الحيوي حتى مع استمرار الدول الأخرى في أوروبا وآسيا في دعم شركات بناء السفن الخاصة بها.
واستمر هذا الوضع حتى باتت الصين أكبر دولة في العالم لبناء السفن، حيث تمتلك أكثر من 1200 حوض بناء، ينتج أحدها حمولة سنوية أكثر من إجمالي بناء السفن في الولايات المتحدة، كما أن الصين وكوريا الجنوبية واليابان وأوروبا، تستفيد حالياً من مشاركتها في سوق الشحن العالمية المتنامية والمزدهرة، بينما تجلس الولايات المتحدة إلى حد كبير على الهامش.
إعادة البناء
ولهذا، فإن إعادة قدرة الولايات المتحدة على بناء السفن المدنية بشكل واسع، من شأنه تسهيل إعادة بناء البحرية الأميركية، خاصة أن بناء الأساطيل الحديثة معقد للغاية، ويشتمل على تقنيات تتجاوز خيال معظم الأميركيين، بينما لا يوجد اليوم سوى حوضين أميركيين فقط لبناء المدمرات والغواصات.
وتصل تقديرات العسكريين إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى قوة قتالية بحرية قوامها نحو 450 سفينة، بزيادة 154 سفينة حربية عن العدد الحالي، وهو 296 سفينة عبر بناء سفن جديدة، وإطالة عمر السفن الموجودة بالفعل، وهو ما يتطلب مزيداً من أحواض بناء السفن والأحواض الجافة لإجراء إصلاحات معقدة وبرامج تحديث السفن.
وإذا بدأ التحول إلى استراتيجية القوة البحرية فسيسمح ذلك للأمة الأميركية مواصلة سياسة حماية الملاحة البحرية والتجارة الحرة والحرية الفردية مع تحويل عبء توفير الجنود على الأرض إلى حلفاء الولايات المتحدة الذين هم أكثر عرضة للتهديدات الأمنية في آسيا وأوروبا.