يبدو أن السودانيين مقبلون على وداع امتياز غذائي لطالما تمتعوا به، بل وأسرفوا فيه، طوال تاريخهم، فبعدما كانوا من أكثر شعوب الأرض تناولاً للحوم في بلد يتمتع بثروة حيوانية هائلة بمختلف أنواعها، تصدر بها قائمة دول العالم من جهة عدد القطيع، أصبح الحصول على كيلو من اللحم أمراً غير متيسر لمعظم الأسر السودانية، بعدما وصلت أسعار اللحوم إلى أرقام فلكية غير مسبوقة.
وأثار الارتفاع الجنوني في أسعار اللحوم الحمراء والبيضاء على حد السواء موجة كبيرة من الغضب والاستياء في مختلف أوساط المواطنين، مما أدى إلى إحجام ومقاطعة قطاعات شعبية واسعة، بخاصة الشرائح الفقيرة والمتوسطة الدخل، بسبب عدم قدرتهم على الشراء واستنكاراً لأسعارها.
قفزات خرافية في الأسعار
وارتفع سعر كيلو العجل البقري من 1600 جنيه (3.4 دولار) إلى 2000 جنيه (4.6 دولار)، بينما قفز سعر الكيلو للحوم الضأن من 2000 جنيه، إلى 2800 (6.5 دولار)، ثم مرة أخرى إلى 3400 جنيه ما يقارب (8 دولارات)، وزاد سعر كيلو اللحمة المفرومة من 1400 جنيه (3.2 دولار) إلى 2500 جنيه (5.8 دولار).
أمّا بالنسبة للحوم البيضاء فقد ارتفع سعر كيلو السمك من 2400 جنيه (5.5 دولار) إلى 3000 جنيه (7 دولارات)، وقفز كيلو الفراخ المنتج بواسطة الشركات من 1400 جنيه (3.2 دولار) إلى 1700 جنيه، (4 دولارات)، أما فراخ المزارع فقد ارتفع سعر الكيلو من 1300 جنيه (39 دولارا) إلى 1600 جنيه (3.7) دولار، وزاد سعر طبق بيض المائدة من 850 جنيهاً (2 دولار)، إلى 1200 جنيه (2.7 دولار).
ودفع واقع الأسعار الجديد وتوقف وإحجام المواطنين عن الشراء، معظم التجار إلى تقليل حجم المعروض من اللحوم، بسبب الكساد والركود الذي شهدته حركة البيع، وفي الوقت نفسه زاد الإقبال وانتعشت حركة الشراء في أسواق بدائل تعويض البروتين الحيواني، مما أدى إلى زيادة الإقبال على البقوليات مثل الفاصوليا والعدس المصري، كما نشطت حركة بيع الجراد المقلي، وارتفعت أسعاره بصورة لافتة، إذ قفزت "ملوة" الجراد (نحو كيلو) إلى 500 جنيه، أي ما يعادل نحو (دولار) بالسعر الموازي، شمال منطقة الحاج يوسف شرق العاصمة الخرطوم.
استنكار ومبادرات شعبية
واستنكر المواطن عبدالرحيم يوسف الجابر، ارتفاع أسعار اللحوم بهذه الطريقة المبالغ فيها، بصورة جعلت المواطنين يشعرون بالحسرة والأسى، كونها ستؤدي إلى حرمان قطاع عريض من المواطنين من تناول اللحوم الحمراء والبيضاء أيضاً.
أوضح الجابر أنه وكثير من الأسر بدؤوا بالفعل في االلجوء إلى بدائل اللحوم، مثل العدس والفاصوليا البيضاء والخضراء، وأردف غاضباً، "سنصبح نباتيين غصباً عنا، وهناك آخرون أفضل حالاً، ربما يتمكنون من تناول وجبة اللحم مرة كل شهر على أفضل تقدير".
أما المواطنة علوية يوسف حسين، (ربة منزل)، فتحسرت على ما وصفته بوداع "أيام كانت فيها شية اللحم، تمثل الوجبة الرئيسة المعتادة للسواد الأعظم من الشعب السوداني، بمن فيهم الفقراء"، مشيرة إلى أن بعض الأسر أصبحت الآن لا تستطيع تناول اللحوم إلا في بيوت ومناسبات أفراح أو أتراح الآخرين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأسفرت الضائقة عن ظهور مبادرات شعبية لمكافحة غلاء اللحوم في بعض المناطق والأحياء بتبني فكرة المشاركة والعمل التعاوني، لمواجهة ظاهرة جشع السوق وارتفاع الأسعار بما يفوق طاقتهم واستطاعتهم، وتقوم المبادرة على تشارك مجموعة من المواطنين في القرية أو الحي في شراء عجل حي وذبحه، وتقاسم لحمه بالتساوي بين المساهمين.
وتعليقاً على المبادرة، يقول المواطن على موسى النعيم، من منطقة أبي سعد بمدينة أم درمان، التي نفذت المبادرة، "تشارك 20 شخصاً، أسهم كل واحد منهم بـ 5 آلاف جنيه (11.6) دولار، لشراء عجل بـ 100 آلاف جنيه، إضافة إلى المصروفات الجانبية الأخرى، وحصل منها كل مساهم على 4 كيلو من اللحم".
يضيف النعيم، "كانت المفأجأة في أن كلفة الكيلو الواحد لم تتجاوز 1250 جنيهاً فقط، (3 دولارات)، وهو ثمن أقل بكثير من الأسعار السائدة الآن في السوق"، متمنياً أن تنتشر المبادرة وتعم الفكرة كل الأحياء والمناطق، لكسر احتكار بيع اللحوم ومكافحة الجشع غير المبرر في تجارتها.
وبرر عدد من تجار المواشي في تجمع أسواق المواشي منطقة المويلح غرب مدينة امدرمان، الزيادات الكبيرة في أسعار اللحوم بشح وارد المواشي من مناطق الإنتاج بالولايات المختلفة إلى أسواق المدن، والزيادة الكبيرة في كُلف الترحيل والأعلاف، فضلاً عن دخول فصل الصيف، وأثره على حركة الحيوانات، وما يسببه من مشكلات في شح المراعى الطبيعية ومصادر المياه، مما يرفع بدوره الكلفة النهائية لسعر الحيوان.
"المستهلك" تنتقد وتشجع المقاطعة
من جانبه، أعرب الأمين العام لجمعية حماية المستهلك السودانية، ياسر ميرغني، عن أسفه للزيادة الكبيرة في أسعار اللحوم قائلاً، "من غير المعقول أن ترتفع أسعار اللحوم الحمراء والبيضاء وبيض المائدة بهذا الشكل الجنوني غير المبرر، أمر غير منطقي وينطوي على كثير من الجشع وشبهة الاحتكار وإهدار موارد البلاد الكبيرة".
وانتقد ميرغني، غياب الدور الرسمي في مراقبة وضبط الأسعار بالأسواق، موضحاً أنهم في الجمعية، "لم يشعروا بأى هيبة حكومية في الأسواق أو مجهودات لضبطها والرقابة عليها، فأصبحت الفوضى هى سيدة الموقف، مما جعل السماسرة والمضاربين يتلاعبون بالأسعار، ويتسببون في كل الأزمات وفي كل الأوقات"، مناشداً المواطنين التمسك بشعار "الغالى متروك" لمواجهة جشع التجار، لإجبارهم على خفض الأسعار إلى مستواها الحقيقي، عبر المقاطعة والتوقف عن شراء اللحوم، وكل السلع الاستهلاكية التي يغالي التجار في رفع أسعارها بدافع الطمع والجشع.
وتساءل أمين جمعية المستهلك عن سبب توقف العرض الذي كانت قد بادرت به أكبر شركات اللحوم المصادرة بواسطة لجنة استرداد الأموال المنهوبة وإزالة التمكين، فى شهر رمضان الماضى، ببيع كيلو اللحم بسعر 500 جنيه فقط، نحو (1.2 دولار)، بينما كان سعره فى الأسواق لدى الشركات المنافسة وقتها نحو 1100 جنيه (2.6 دولار)، بفارق مبلغ 600 جنيه (1.4) دولار، في سعر الكيلو الواحد، معرباً عن أسفه لعدم استمرار هذا العرض لأكثر من أسبوعين فقط، ثم توقفه، ليتم احتكار كل الإنتاج من قبل المضاربين وسماسرة الأزمات.
جموح التضخم وتداخلات أخرى
في السياق، أرجع الأمين العام للمجلس البيطري السوداني، سمير عبدالرسول، ارتفاع أسعار اللحوم الحمراء والبيضاء إلى تأثيرات وتداخلات عدة، بين عوامل التضخم الاقتصادي وضعف البنيات التحتية، إلى جانب ارتفاع كُلف مدخلات إنتاج اللحوم بأنواعها المختلفة، مما انعكس بدوره على ارتفاع الأسعار، ليس بالنسبة للحوم فقط، ولكن على كل منظومة السلع الاستراتيجية المرتبطة بحياة الناس اليومية.
وحول كيفية تحقيق الوفرة واستقرار الأسعار، طالب عبدالرسول، بضرورة خفض ومراجعة الرسوم الإدارية المتعددة المفروضة على مدخلات الإنتاج، وإصلاح منظومة الخدمات البيطرية لتواكب المعايير الدولية، إضافة إلى وضع خريطة رعوية قومية للحفاظ على المراعي الطبيعية، وتخصيص مساحات للأعلاف ضمن المشاريع المروية، مع إدخال الحيوان ضمن دورتها الزراعية، منادياً بزيادة الاهتمام بالاستثمار والمستثمر المحلي ورفع الإنتاج المحلي من الأعلاف، فضلاً عن العمل على توطين صناعات الأدوية واللقاحات البيطرية، وتقوية بنيات الطاقة الكهربائية والتخزين والنقل المبرد، لضمان استقرار الإنتاج والحفظ والنقل.
ويعتبر السودان من أغنى الدول العربية والأفريقية بالثروة الحيوانية، ويحتل المرتبة الثانية في الاقتصاد السوداني من جهة الأهمية، وتقدر أعداد حيوانات الغذاء فيه من أبقار وأغنام وماعز وإبل، بنحو 103 ملايين رأس، منها 30 مليون رأس من الأبقار، و37 مليون رأس من الأغنام، و33 مليون رأس من الماعز و3 ملايين رأس من الإبل، إضافة إلى 4 ملايين رأس من فصيلة الخيول، و45 مليوناً من الدواجن، بينما تقدر الثروة السمكية بنحو 100 ألف طن للمصائد الدخلية، و10 آلاف طن للمصائد البحرية، إلى جانب أعداد كبيرة مقدرة من الحيوانات البرية، كما يعتبر السودان الدولة السابعة في العالم من حيث عدد رؤوس الأغنام.
وكان معدل التضخم في السودان قفز بحسب الجهاز المركزي للإحصاء في نهاية أبريل الماضي إلى 363.14 في المئة، مقارنة 341.78 في المئة، في مارس 2021 الماضي.