بعد أشهر من التقليل من هذا الاحتمال كنظرية هامشية، انضمت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الضغط الدولي على الصين، لتكون أكثر انفتاحاً بشأن تفشي فيروس كورونا المستجد، إذ وُجه أمر لمسؤولي وكالات الاستخبارات الأميركية بـ"مضاعفة" جهودهم للتحقيق في أصول جائحة كورونا، بما في ذلك أي احتمال بشأن تسرب الفيروس المميت من مختبر ووهان لعلم الفيروسات، المدينة الصينية التي ظهر فيها المرض أولاً.
جاء قرار بايدن مدفوعاً بالضغوط السياسية بعد أن كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال"، الأميركية، أن العديد من علماء الفيروسات الصينيين سعوا للعلاج في المستشفى في أواخر عام 2019، نتيجة لمرض مجهول. في حين، أفادت وسائل إعلام أميركية، أخيراً، بأن إدارة بايدن قد أغلقت تحقيقاً أطلق في الأيام الأخيرة من إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، لإثبات أن الفيروس المميت خرج من مختبر صيني.
عواقب سياسية
خطوة الرئيس الأميركي التي من شأنها أن تعمق الشكوك بشأن منشأ الفيروس، الذي أصبح لغزاً وبائياً معقداً خلف أكثر من ثلاثة ملايين وفاة حول العالم حتى الآن، ستكون لها تداعيات سياسية واسعة داخل الولايات المتحدة وخارجها، بحسب وسائل إعلام أميركية أشارت إلى أن القرار سوف يزيد من الخطاب المتوتر بين القوى العظمى، وسيثير الشكوك بشأن قدرة منظمة الصحة العالمية على استنباط الدروس من الأزمة الحالية في منع الأوبئة في المستقبل.
فداخل الولايات المتحدة، تقول شبكة "سي أن أن"، إن القرار سوف يجعل كلاً من الإدارة السابقة برئاسة ترمب والحالية لبايدن، في مواجهة دعوات بالشفافية بشأن جهودهما لتحديد أصل الفيروس، وما إذا كان للسياسة تأثير في هذا الصدد. وإذا اتضح أن الفيروس تسرب بالفعل من المختبر الصيني، فقد يتمكن الرئيس السابق من تقديم مبررات لإخفاقه في مواجهة الوباء، في حين ستواجه إدارة بايدن دعوات لإظهار أنها أخذت احتمال خطأ الصين، على محمل الجد بما فيه الكفاية، لا سيما أن المسؤولين البارزين في فريق ترمب وداخل الحزب الجمهوري، بدأوا في الحديث عن انتصار لهم.
وأشار السيناتور الجمهوري توم كوتون، منذ البداية إلى مختبر ووهان، داعياً للضغط على الصين للحصول على إجابات، لذلك ستكافئه كتب التاريخ إذا تبين أنه على حق، بحسب "واشنطن بوست". وبشكل عام سعت إدارة ترمب لتسليط الضوء على سيناريو المختبر، لكن لأنه غالباً ما كانت رسائل الإدارة السابقة مصحوبة بخطاب مناهض للصين، سهل ذلك على المتشككين تجاهل مزاعمها.
ويقع الآن على عاتق إدارة بايدن إثبات أن لديها النفوذ والاستعداد لتعقب أصل الفيروس. ووفقاً لـ"سي أن أن"، فستكون هناك تساؤلات حول ما إذا كانت وكالات الاستخبارات الأميركية، بالنظر إلى صعوبة اختراق الدولة الأمنية الصينية، لديها أفضل السبل للتوصل إلى الحقيقة، في حين لم يتضح بعد ما إذا كانت الصين تتفهم تماماً أصل الفيروس، كما أنه من الصعب عادة تحديد نقاط انطلاق الأوبئة.
منظمة الصحة العالمية
وإضافة إلى ذلك، فإن الديمقراطيين شنوا هجوماً على ترمب عندما أعلن انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، العام الماضي، بدعوى أن الصين تهيمن عليها. وعادت الولايات المتحدة للانضمام إلى المنظمة بعد فترة وجيزة من تولي الرئيس الديمقراطي مهام منصبه العام الحالي، ومن ثم إذا اتضح أن بكين خدعت منظمة الصحة العالمية، التي استبعدت نظرية المختبر، سيوفر ذلك مكسباً سياسياً إضافياً لمسؤولي الإدارة السابقة.
لكن في الأيام الأخيرة، كان هناك تشدد ملحوظ في موقف الولايات المتحدة تجاه منظمة الصحة العالمية وبكين، والثلاثاء الماضي، 25 مايو (أيار)، قال آندي سلافيت، منسق البيت الأبيض للتعامل مع الوباء، إن الولايات المتحدة بحاجة إلى "عملية شفافة تماماً من الصين. نحن بحاجة إلى منظمة الصحة العالمية للمساعدة في هذا الأمر. لا نشعر بأننا نملك ذلك الآن". وقد أثارت تعليقاته الشكوك عما إذا كانت المنظمة الأممية، بتشكيلتها الحالية، تتمتع بالثقل الدبلوماسي والقدرة على إجراء تحقيق لا تعرقله الصين.
وفي لقاء مع قناة "فوكس نيوز"، الأربعاء، جادل السيناتور الجمهوري ماركو روبيو بأن "منظمة الصحة العالمية ليست قادرة على إجراء هذا التحقيق لأن الصينيين بصراحة لن يسمحوا بذلك". وروبيو هو واحد من عدد من القادة الجمهوريين الذين قد يترشحون للرئاسة في عام 2024.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حملة تشهير
واتهمت السفارة الصينية في واشنطن، من دون الإشارة إلى بايدن، قوى سياسية لم تذكر اسمها بالتركيز على لعبة إلقاء اللوم وتجاهل الحاجة الملحة لمكافحة الوباء. وقالت السفارة في بيان نُشر، الأربعاء، على موقعها على الإنترنت، "حملة التشهير وتحويل اللوم عادت إلى الظهور، ونظرية المؤامرة بشأن" التسريب المخبري "تعاود الظهور".
ولطالما رفضت السلطات الصينية الاتهامات الخاصة بتطوير فيروس كورونا داخل مختبر في مدينة ووهان، التي ظهر فيها الفيروس أولاً. وفي فبراير (شباط) الماضي، أصدرت منظمة الصحة العالمية تقريراً يستبعد تسرب الفيروس من مختبر، ويقول، على الأرجح فإنه انتقل من الخفافيش إلى البشر عبر حيوان وسيط. ومع ذلك فإن مدير منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس، عاد وأشار إلى أن الأمر يحتاج إلى مزيد من التحقيقات الواسعة للتعرف إلى أصل نشأة الوباء.
وتعهدت الصين بالشفافية في تحقيق منظمة الصحة العالمية، ورداً على انتقادات البيت الأبيض الذي طالب بكين بإتاحة بيانات عن الأيام الأولى لتفشي الفيروس، قال متحدث باسم السفارة الصينية في واشنطن، في بيان شديد اللهجة، في فبراير الماضي، إن الولايات المتحدة أضرت بالتعاون متعدد الأطراف وبالمنظمة خلال السنوات الأخيرة، ولا ينبغي لها أن "توجه أصابع الاتهام" إلى الصين وغيرها من الدول، التي دعمت منظمة الصحة خلال الجائحة.
ورداً على اتهامات ترمب العام الماضي، دعا مدير منظمة الصحة العالمية إلى عدم "تسييس" قضية تفشي فيروس كورونا المستجد، وقال في أبريل (نيسان) 2020، "أرجوكم لا تسيسوا قضية كورونا، ترمب يستغل الخلافات على الصعيد الوطني، إذا أردتم أن تُستغلوا من قبله، وإذا أردتم المزيد من الحقائب التي تحوي أجساداً افعلوا ذلك، وإذا لم تريدوا المزيد منها ابتعدوا عن تسييسها". وكرر أدهانوم تعليقاته في يونيو (حزيران)، بعد ما اتهم الرئيس الأميركي المنظمة بأنها قريبة من الصين وبسوء إدارة الأزمة، وحذر من أن "التسييس فاقم الجائحة".
وفي حين أكد فريق الباحثين المكون من علماء صينيين وخبراء منظمة الصحة العالمية، أن الأمر الأكثر احتمالاً لانتقال فيروس كورونا يشمل الخفافيش وغيرها من الحيوانات البرية، مستبعدين في دراسة مشتركة احتمال تسرب الفيروس من مختبر، فإن الأمر قوبل برد من 24 عالماً وباحثاً من أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا واليابان، باتهام الدراسة أنها "مسيسة". وبحسب وكالة "رويترز"، فإنه في خطاب مفتوح، في مطلع أبريل الماضي، طالب العلماء والباحثون بتحقيق جديد في منشأ الفيروس سواء بمشاركة أو غياب الصين.
المواجهة الجيوسياسية
وعلى الصعيد الدولي، ضاعف التركيز على النظرية المخبرية في الأيام الأخيرة الدعوات في واشنطن لجعل الصين تدفع ثمن الوباء، ما يضيف المزيد من السخونة للمواجهة الجيوسياسية التي قد تؤدي إلى نشوب حرب باردة جديدة، بحسب "سي أن أن". وتشير إلى أن الصين لديها كل الأسباب للتستر على الفيروس الذي لطخ مكانتها كقوة صاعدة ومتطورة، فليس لدى زعيمها القومي شي جينبينغ والحزب الشيوعي أي وقت للشعور بالذنب، الذي من شأنه أن يفسد قضيتهما الأساسية للعالم، وهو "أن حكم الحزب الواحد مناسب للقرن الـ21 أكثر من الديمقراطية، وهي رواية تعهد بايدن علناً بمقاومتها".
وتعتقد هونغيانغ وانغ، الزميلة لدى مركز ابتكار الحوكمة الدولية ومدرّسة السياسة في جامعة واترلو، أن المكانة الدولية للصين تضررت بسبب سوء تعامل حكومة الرئيس شي جينبينغ مع التقارير الأولية عن الفيروس ومحاولة قمعها، وتشير إلى تحول الرأي العام العالمي تجاه الصين من سيئ إلى أسوأ، إذ تشعر الدول الغربية بالإحباط بالفعل بسبب ما يرون أنه منافسة غير عادلة مع بكين، وتشك في الطموحات الصينية لقلب النظام الدولي الحالي، وقد ازدادت الدول سخطاً بسبب سوء تعاملها مع تفشي الوباء، حتى باتت أوروبا تبحث مراجعة الاعتماد الكبير على الصين في سلسلة التوريد العالمية للسلع الحيوية.
ولم تكن إدارة ترمب وحدها التي ألقت باللوم على بكين في انتشار الفيروس وتقييد العلاقات الاقتصادية والتكنولوجية وحتى التعليمية معها، إذ اتخذت الحكومات الغربية الأخرى أيضاً موقفاً أكثر صرامة. فعلى سبيل المثال، قادت أستراليا المطالب الدولية لإجراء تحقيق مستقل في أصل الفيروس وانتشاره، بينما أكد الاتحاد الأوروبي المخاوف الواسعة في علاقاته مع الصين، مطالباً بمزيد من المعاملة بالمثل في التجارة والاستثمار.
وتشير وانغ إلى أن الجائحة أنتجت تأثيراً مزدوجاً خطيراً من خلال زيادة الشعور القومي الصيني الذي تشجعه الدولة إلى مستوى جديد، مع دفع المواقف الغربية تجاه الصين إلى مستوى معقد جديد. وقد أدى هذا المزيج المؤسف بالفعل إلى تقوية الصقور في الصين والدول الغربية على حد سواء، بينما أولئك الذين يدافعون عن المشاركة والتعاون يفقدون حججهم أمام دعاة المنافسة الاستراتيجية والفصل الاقتصادي.