لعل القصائد التي ضمتها مختارات المنصف الوهايبي وعنوانها "برزخيات شاعر (دار العائدون، عمّان) يشدها، على اختلاف أسئلتها، وتعدد طرائق التعبير فيها، خيط ناظم هو الاحتفاء بالذاكرة الإبداعية، وبرموزها الكبيرة. فالقارئ يجد القصيدة تنعطف على ذاتها لتتأمل سيرتها أو أسئلتها جامعة بين الإبداع والتأمل في الإبداع جمع تآلف وانسجام. ولم ينشأ هذا النمط من الشعر عن رغبة في التعليم والتوجيه، وإنما نشأ عن اقتناع بأن العمل الشعري هو إحدى مغامرات العقل الذي يعمل ويتأمل ذاته باستمرار. فالقصيدة الحديثة أصبحت في معظم تجلياتها تخبر عن نفسها في ما تخبر عن العالم، وتحيل على ذاتها في ما تحيل على الخارج، على حد عبارة رولان بارت بوظيفة مزدوجة، فهي من هذا المنظور نافذة ومرآة. تشف القصيدة عما يوجد خارجها، وتعكس صورة الناظر فيها، ولا تكف، في مجمل نماذجها، عن التنقل بين نص العالم وعالم النص، ساعية إلى لفت انتباهنا إلى المدلول الذي تشير إليه دوالها من ناحية، وساعية في الوقت نفسه إلى لفت انتباهنا إلى دوالها وحضورها الذاتي.
الخروج عن الأعراف
ولعل أهم ما يلفت الانتباه في القصيدة التي يكتبها الوهايبي، خروجها المستمر على ما استقر من أعراف لغوية وتقاليد شعرية مؤسسة بذلك "أسلوبها" المخصوص ونبرتها المتفردة. فهذه القصيدة قد تمكنت من توسيع معنى الشعر مستمدة شعريتها وشرعيتها من إيقاعها الخاص، ومن قوة صورها، ومن حضورها الإبداعي، وبعبارة واحدة من الانتهاكات التي طاولت طرائق العبير. هذه الانتهاكات إنما هي استدراج للغة حتى تتحول من مؤسسة جماعية خارجة عن إرادة الشاعر، توجهها وتتحكم فيها، إلى أداة تحرر وانعتاق، وعن طريقها يقول تجربته ويفصح عن عميق رؤاه. فاللغة في الشعر الحديث، كما يقول جمال الدين بالشيخ، هي مجلى الشاعر وليست محبسه، فهو يتجلى فيها ولا يكتفي بارتدائها، إنه يؤسسها، فاللغة تولد مع كل شاعر ولادة جديدة، والواقع أن الوهايبي ما انفك يعقد من خلال قصائده حواراً مع الأسلاف، أنبياء وشعراء وكتاباً، يستدعيهم، ويصغي إليهم، ويسترفدهم. وهو بذلك يقتفي أثر تيار شعري ظهر منذ أوائل القرن العشرين، يعتبر الشعر حوراً مع الذاكرة الإبداعية، مطلق الذاكرة الإبداعية. فالشعر الحديث، إذا أخذنا بكلام الشاعر عزرا باوند، لا ينبجس من الانفعال وإنما من الثقافة، من الذاكرة التاريخية فـ"ربات الشعر هن بنات الذاكرة". فإذا احتفى الشعر بالثقافة، يكون قد احتفى بجوهره العميق، "بلاد الماء حيث ولدتُ، لا صارٍ أفك حباله، لا فلك أصنعها وأركبها، ولا بحر ولا مرسى. وليس هناك مجذاف من المطاط في القدمين أمشي كالمسيح على المياه به وأجري، أو أحلق في سباق زوارق، أو برزخ من ضفتين".
وإنه لأمر ذو دلالة أن يقتبس الوهايبي في مقطع من هذه القصيدة، صورة النرد من ملارميه الشاعر الرمزي الفرنسي الذي تخلى عن شعر التجربة والاعتراف والبوح، ومضى يستجلي الطاقة الكامنة في الكلمات يوظفها على نحو جديد. وعبارة النرد التي ترددت لدى عدد من الشعراء على أنها كناية عن الصدفة والمصادفة، أي على أنها عبارة مفعمة بالمعاني الميتافيزيقية، إنما تشير لدى مالارميه إلى صناعة الشعر حيث المبادرة للكلمات. فالعبارة، في نظر هذا الشاعر الفرنسي، تمتلك من القوة والسحر ما لا تمتلكه الأفكار. لهذا استدرك على صديقه الرسام دوغا قائلاً، الشعر لا يكتب بالأفكار وإنما بالكلمات. لهذا لا يمكن أن نفهم قصائد مالارميه من مضمون عباراتها، وإنما من التوتر القائم بين الكلمات، ومن الأصوات الصادرة عنها، ومن طرائق كتابتها، ومن الإيماءات الأسطورية والسحرية التي تنطوي عليها.
جهد تأويلي
تستسلم قصيدة الوهايبي إلى قارئها بيسر وسماحة، لأنها من القصائد التي تقتضي من القارئ التخلي عن الفهم التقليدي للشعر، كما تقتضي منه أن يبذل جهداً تأويلياً كبيراً حتى يستوعب رموزها، ويُدرك غامض أقنعتها. وبسبب من هذا وجب على القارئ أن يعقد حواراً معها، أن يصغي إلى الأصوات التي تتقاطع داخلها. وعلى عادة شعراء الحداثة يترك الوهايبي المبادرة للكلمات، تتعاطف وتتدافع ويلوي بعضها على بعض، دون أن ينتظمها نسق مخصوص، "الليل يجفل /هذه زرْق الدروب عروقنا نمشي بها / وثنية الأعشاب لي ولها/ وإذ تتحدث الأعشاب، لكنتُها رمال البحر/ غابات الصنوبر/ لي أنا أصوات أشباح".
إن هذه المقاطع تنسخ كل رواسم الشعر وسننه التي ألفنا، فكأن الشعر يعمد إلى محو ذاكرته، لكأنه يقوض كل خصائص جنسه. فسدى نبحث عن الشعر الذي عهدنا في الشعر الذي نقرأ. فالنص هنا لا يعود إلى نفسه بقدر ما يعود عليها ويهدم قائمها، بحيث انتهى مجموعة من الدوال العائمة التي انفصمت عن مدلولاتها حتى باتت أشبه بالرسوم والأشكال.
إننا نُدعى في حضرة مدونة الوهايبي إلى أن نستقبل القصيدة بوصفها أجراساً وإيقاعات ومصدر إيحاءات جمة. فالكلمات في هذه القصيدة لا تلفت انتباهنا لما تنطوي عليه من أفكار أو تنقله من تجارب أو تعرضه من مواقف أو تحمله من معان فحسب، وإنما تلفت انتباهنا لحضورها الذاتي، لأصواتها، لظلالها الرمزية والاستعارية. أي إن الشعر هنا لا ينهض بوظيفة الإفصاح عن التجربة فحسب، وإنما يعمد إلى استجلاء الطاقات الكامنة في اللغة، إلى دفعها إلى أقصى ممكناتها، إلى تجديد فعل الخلق الإبداعي باستمرار. لكن الشاعر لا يكتفي بالإشارة إلى مالارميه فحسب، بل يشير إلى عدد كبير من الكتاب والشعراء يستهدي بهم في ليل الكتابة. لا يكتفي الوهايبي باستدعاء الشاعر، بل يستدعي لغته وصوره بحيث يتداخل الصوتان، صوت الشاعر وصوت الشخصية المستدعاة، تداخل التعمية والتسوية والتشابك.
ويبلغ هذا التداخل أوجه في قصيدة "تحت مظلة سركون بولص"، حيث استدعى الوهايبي شخصية الشاعر العراقي كما استدعى بعضاً من سيرته، فكرتُ في أن الحياة بطيئة حقاً/ كأول خطوة في الرقص/ بل هي رقصة البوليرو/ أنا بين تاريخين. نولد صدفةً، ونموت أيضاً صدفةً،/ ولربما، يوماً، نَبَتنا في جذوع الهندباء،/ وربما في ساعة مجنونة،/ يَوماً، بزغْنا في بنفسج زهرها/ كركوك تمطرعادةً في مثل هذا الوقت... ".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في هذه القصيدة المقنعة، كما يقول جابر عصفور، لسنا إزاء عملية بسيطة يستبدل فيها الصوت المباشر بصوت غير مباشر، ولسنا بالمثل إزاء صوت يوضع فوق صوت آخر، فتكون الشخصية "كناية" يراد بها لازم المعنى مع جواز إرادة المعنى كما يقول البلاغيون القدامى، بل نحن في الحقيقة أمام صوتين متفاعلين، وداخل هذا التفاعل يفقد كل منهما شيئاً من وضعه الأصلي، ويكتسب وضعاً جديداً، ومن ثم دلالات جديدة نتيجة تفاعله مع الطرف الآخر.
لم يطمئن الوهايبي في كل مجاميعه الشعرية للغة واحدة يسترفدها، بل كان دائم القلق والتسآل يبحث عن لغة مختلفة تقول تجربته وتفصح عن غائر مشاعره. هذا القلق وذلك التسآل هما اللذان جعلا قصيدة الوهايبي متحولة متغيرة، تسعى باستمرار إلى البحث عن ذرى شعرية وجمالية جديدة. فقصيدة هذا الشاعر لا تتجلى على هيئة واحدة مرتين. كل تجل يذهب بقصيدة قديمة ويأتي بقصيدة جديدة. لهذا تعد كل مجموعة شعرية بمثابة خطوة جديدة في طريق القصيدة التي يحلم بكتابتها الشاعر. ومختاراته الأخيرة "برزخيات شاعر" ليست إلا صورة لهذا التطور، لهذا التوق لكتابة قصيدة مختلفة. فالوهايبي ظل يطور قصيدته باستمرار، يعيد النظر فيها، يشحنها بأسئلة جديدة، ولا غرابة في ذلك بما أن القصيدة رديفة الحياة، ومثل الحياة تفزع القصيدة من التكرار. فالتكرار يقتل اللغة، يبدد قدرتها المبدعة، ويحول القصيدة إلى ركام من الرماد.