العم مبروك، رجل ستيني من سكان الضاحية الجنوبية للعاصمة التونسية، كان يعج نشاطاً وحيوية، يستقل دراجته النارية ذهاباً وإياباً بشكل يومي إلى مقر عمله في العاصمة، قبل أن تصدمه شاحنة كبيرة منذ نحو سنتين، حين كاد يلقى حتفه في الحادث، لولا أن "في العمر بقية"، كما صرح بكل حزن، وهو يتكئ على عصاه الطبية التي لم تعد تفارقه، فهو لا يقدر على المشي من دونها.
ويقول العم مبروك، "بعد أن كنت أعمل في شركة بناء، ها أنا اليوم عاطل عن العمل، وأتردد على المستشفيات بسبب ما لحقني من ضرر، وليس لديّ الإمكانات للقيام بحصص العلاج الطبيعي بشكل دوري".
وتحدث المواطن التونسي المتقدم في السن عن معاناته مع شركة التأمين، التي استأنفت الحكم الابتدائي الذي صدر لصالحه، إلا أن القضاء أنصفه في النهاية، وحصل على تعويض مالي قال إنه "لن يعوضني صحتي التي خسرتها إلى الأبد".
العم مبروك حالة من بين آلاف المصابين جراء حوادث السير في تونس، التي باتت تشكل ظاهرة مقلقة في هذا البلد.
347 قتيلاً و2500 مصاب
في آخر إحصائية له، أعلن "المرصد الوطني لسلامة المرور" بوزارة الداخلية التونسية، عن سقوط 15 قتيلاً و37 جريحاً خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، نتيجة حوادث المرور في مختلف مناطق البلاد.
وسجل المرصد الوطني لسلامة المرور منذ يناير (كانون الثاني) 2021 وحتى يوم 23 مايو (أيار) 2021، سقوط 347 قتيلاً ونحو 2500 جريح، جراء 1729 حادثاً بمختلف طرقات البلاد، بمعدل قتيلين ونصف اليوم.
السرعة وعدم احترام الأولوية
ووصف المرصد هذه الحصيلة بـ"المفزعة"، مؤكداً أن "الأسباب الرئيسة لهذه الحوادث، هي الإفراط في السرعة، والتجاوز الممنوع، وعدم احترام أولوية المرور"، داعياً إلى "وضع حد لاستهتار بعض مستعملي الطريق بالأرواح والممتلكات، من خلال خطط عمل ميدانية لإنفاذ القوانين".
وحض المرصد المجتمع المدني ومختلف وسائل الإعلام، على الانخراط بفاعلية في جهود التوعية، من أجل الاستعمال الأمن للفضاء المروري.
فما أسباب ارتفاع ظاهرة حوادث الطرقات؟ وكيف يمكن مجابهة هذه الظاهرة التي تحصد مئات الأرواح سنوياً؟
مليونا سيارة وبنية تحتية مهترئة
يضم أسطول السيارات في تونس، أكثر من مليونين ومئتي ألف عربة، تستخدم طرقاً ضيقة، وبنية تحتية متقادمة، نتيجة غياب الصيانة، وتقلص مشاريع البنية التحتية التي يفترض أن تساعد على التخفيف من الاكتظاظ، علاوةً على حالة انفلات جلية، نتيجة الإفلات من العقاب وتراجع سلطة الدولة.
ويعضد المجتمع المدني الدولة في هذا المجال، من خلال فعاليات للتوعية وملتقيات للتشخيص وتقديم المقترحات لهذه الظاهرة الخطيرة في تونس.
العجلات والكحول وعدم الانتباه
في السياق، قال رئيس الجمعية التونسية للوقاية من حوادث الطرقات، عفيف الفريقي، إن "أكثر من 60 في المئة من حوادث الطرقات في تونس، يعود إلى تلف عجلات السيارات ذات الجودة المنخفضة، إضافة إلى الإفراط في السرعة والقيادة تحت تأثير الكحول وعدم انتباه السائق".
وطالبت الجمعية بسن قانون يجبر السائق على تقديم وثيقة تبين مصدر العجلات التي يستخدمها وتاريخ صلاحيتها، إضافة إلى شهادة مطابقتها لمعايير السلامة، بهدف قطع الطريق أمام تجارة العجلات ذات الجودة المنخفضة والتقليل من حوادث السير.
نوادي التربية المرورية
من جهته، أكد مرشد بالحارث، نائب رئيس الجمعية التونسية للسلامة المرورية، أن "الجمعية تؤمن بضرورة خلق جيل جديد يتعاطى بشكل حضاري مع الفضاء المروري، سواء أكان سائقاً أو ماراً"، مشيراً إلى أن "الجمعية أنشأت أكثر من 40 نادياً للتربية المرورية، في مختلف المدارس والمعاهد في تونس، تعمل على ترسيخ الثقافة المرورية والتوعية لأهمية احترام القوانين". وأضاف بالحارث، "ننظم سلسلة دورات تدريبية تستهدف تكوين السائق"، لافتاً إلى "وجود نقص كبير في التدريب على احترام السلامة المرورية للسائق في المؤسسات الخاصة، أو حتى في المؤسسات العامة".
تحيين قانون الطرقات
من جهة أخرى، أشار بالحارث إلى "عدم تحديث قانون الطرق في تونس منذ أكثر من 20 سنة"، داعياً إلى "استخدام التكنولوجيات الحديثة في ضبط المخالفين من أجل ردعهم، من خلال تثبيت الكاميرات الرقمية في الطرقات، وهي آلية ناجعة تسهم في الردع وتدر أموالاً على الدولة"، داعياً أيضاً إلى "مزيد من تركيز الرادارات الآلية في الطرقات، من أجل ردع المخالفين".
وانعكست الأزمات التي تعيشها تونس سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، على المزاج العام في البلاد، وأصبح تجاوز القانون نوعاً من التشفي إزاء تقصير الدولة حيال المواطن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا تسامح
وأكد أستاذ علم الاجتماع، سامي بن نصر، هذه المقاربة، قائلاً إن "التونسي يعبر عن رفضه لواقعه بشكل لا شعوري، من خلال خرقه للقوانين ومن بينها قانون الطرقات"، داعياً إلى "إدراج الثقافة المرورية في المناهج التربوية، لخلق أجيال جديدة، تولي قيمة للفضاء المروري وتحسن التعاطي معه".
كما دعا أستاذ علم الاجتماع إلى "عدم التسامح مع الجريمة المرورية، لما لها من آثار سلبية على الأسرة والمجتمع"، مشدداً على أهمية "تفعيل دور أجهزة الدولة على الطرقات، من خلال تكثيف وجود الوحدات الأمنية، وهو ما ينشر الطمأنينة ويدفع مستعملي الطريق إلى احترام العلامات المرورية، ويسهم في تقليل الحوادث".
وشبه بن نصر قيادة السيارات في تونس اليوم بـ"العملية الانتحارية"، بسبب تداخل عوامل عدة "منها ما هو ذاتي بسبب ما يعانيه التونسي من ضغط، ومنها ما هو موضوعي بسبب تقلص سلطة الدولة وتنامي ظاهرة الإفلات من العقاب".
استراتيجية اتصالية صادمة
ودعا ابن نصر إلى استخدام "استراتيجية اتصالية صادمة" تؤثر على مستعملي الطريق من خلال توظيف الصور القوية المشحونة بالمعنى (كصور الحوادث المروعة) للتوعية بأهمية القيادة المتزنة واحترام قانون الطرقات"، مشدداً على "ضرورة القطع مع تناول ظاهرة الحوادث المرورية وتقديمها كأرقام فقط"، منبهاً في الوقت ذاته من خطورة التطبيع مع هذه الظاهرة.
وتحصد حوادث الطرقات في العالم يومياً، ما يزيد على 3700 ضحية، ويموت سنوياً أكثر من مليون وثلاثمئة وخمسين ألف شخص، وهي مؤشرات تعكس حجم المأساة التي يواجهها العالم جراء هذه الحوادث، التي تتعدد أسبابها وآليات مجابهتها إلا أنها تبقى ظاهرة مهددة للحياة البشرية.