"لا أريد أن أموت الآن"، آخر كلمات تفوهت بها الشيخة سميرا ذات الثمانية والعشرين ربيعاً لحظة احتضارها بينما كانت تلهث مستنجدةً ببعض أنفاس تنقذها في جناح مخصص لمرضى "كوفيد-19" في "مستشفى شري مهراجا هاري سينغ" (المعروف اختصاراً بـSMHS)، في كشمير. في 21 مايو (أيار)، بعدما انخفضت مستويات الأوكسجين في دمائها إلى ما دون الأربعين، وفيما أُسرتها ما زالت تسعى جاهدةً علها تجد لها سريراً في وحدة العناية المركزة، لفظت المريضة أنفاسها الأخيرة.
وفق عائلتها، أُدخلت سميرا إلى إحدى أكبر المستشفيات الحكومية وأكثرها تجهيزاً في سريناغار، أكبر مدينة في "جامو وكشمير"، بعد يومين فقط من اكتشاف إصابتها بفيروس "كورونا". ولكن، مع التدهور الشديد في حالتها الصحية، قال الأطباء إن أجهزة التنفس الاصطناعي قد نفدت في المستشفى، وأخبروا أفراد أسرتها أن عليهم أن يؤمنوا واحداً لابنتهم بأنفسهم.
شقيقها الشيخ شفيق الذي يبلغ 29 سنة، أخبر "اندبندنت" أنه "عندما انخفضت مستويات الأوكسجين في دمها إلى 37، وضعها الأطباء على بطنها (لمساعدة الرئتين على التمدد) وربتوا على ظهرها. كان ذلك مجرد تغيير في وضعيتها الجسدية وليس إجراء طبياً. فارقت الحياة بعد دقائق. لقد تعرضت لإهمال طبي"، في رأيه.
"كوفيد" الذي يجتاح عائلات الشباب والمسنين على حد سواء، ويترك الناس تقاسي الأمرين في سبيل إيجاد أسرة مجهزة بأجهزة تنفس اصطناعي ولوازم طبية أساسية في وقت تكتظ مرافق الرعاية الصحية بأعداد مرضى تفوق قدرتها الاستيعابية، يسطر قصته المأساوية في مختلف أنحاء الهند، حيث توفي ما يربو على 300 ألف شخص وفق تقديرات رسمية متحفظة جداً، وقد حدث معظمها خلال الموجة الثانية المدمرة من الجائحة التي عصفت بالبلاد.
شأن بقية مناطق الهند، ارتفعت حالات كورونا في ولاية "جامو وكشمير" السابقة بشكل كبير خلال شهري أبريل (نيسان) ومايو، حيث تضاعفت الإصابات اليومية عشر مرات متجاوزة معدل الخمسة آلاف الذي وصلت إليه في 9 مايو. ولكن على خلاف التغطية الإعلامية الوطنية والدولية الواسعة للأزمة في دلهي ومومباي، التي أخذت تتسع الآن إلى مناطق ريفية أكثر، لا يعرف معظم الناس تماماً حقيقة الوضع في وادي كشمير شديد التسلح.
يُعزى ذلك جزئياً إلى أنه على عكس الولايات الهندية الأخرى، تلتزم كشمير قرار إبعاد تطورات الجائحة عن الإعلام. إنه أمر إملائي استبدادي أصدره مشتاق راذر، مدير خدمات الصحة في المنطقة في وقت سابق من مايو، يوعز إلى الطاقم الطبي "الامتناع" عن التحدث إلى الصحافيين.
اُعتمد هذا التوجيه على أساس "أن ثمة رسائل متناقضة ومربكة يتداولها الإعلام، وأنها تضلل الناس وتخلق حالة من الذعر لا داعي لها وفي المستطاع تجنبها"، كما يرد في التوجيه. ووفق التعليمات الواردة في القرار، على المراقبين الطبيين "اتخاذ إجراءات تأديبية صارمة ضد أي شخص ينغمس في مثل ذلك السلوك" من طواقم الموظفين في مستشفياتهم.
في تصريح إلى "اندبندنت" انتقد فيه أمر منع النشر، قال الدكتور نزار الحسن، رئيس نقابة الأطباء في كشمير، "نُعامل كالعبيد. إن لم يكن الطبيب هو من يتكلم في غمرة الجائحة، من سيفعل ذلك إذاً؟ أين ذلك من حرية التعبير"؟
"في الجزء الذي أعيش فيه من العالم، تُعتبر المعارضة جريمة كبرى أشبه بالخيانة العظمى. كيف تنتظر مني أن أكون طبيباً ماهراً، وأن أتعامل مع مرضاي على النحو الواجب إذا كان شاغلي الدائم أنني إذا كشفت عن مكنوناتي وصرحت بأمر يصب في صالح مريضي، ربما أُعاقب"؟ يسأل الدكتور.
ويرى الحسن أن "التواصل مع الناس يشكل الجانب الأهم خلال الجائحة، ذلك أن في مقدور استراتيجية التواصل الفاعلة أن تمنع تفشي الفيروس. لكن في هذا الجزء من العالم فقط يخضع الأطباء للرقابة".
الدكتور محمد سالم خان، مدير الأجنحة الخاصة بمرضى "كوفيد-19" في "مستشفى شري مهراجا هاري سينغ"، يعترف بأن معدل الوفيات في المستشفى قد ارتفع أربع مرات في أقل تقدير. ويضيف: "في الأسبوع الأول من أبريل، كنا نشهد في العادة وفاة حالة أو اثنتين يومياً. الآن ارتفعت الوفيات اليومية إلى سبع أو ثماني حالات".
ولكنه في المقابل ينفي وجود نقص في الموارد المتوافرة في المستشفى، ويدافع عن قرار منع الأطباء من التحدث جهاراً عن الأزمة. فيقول: "البيانات في حوزتي، وفي وسعي أن أثبت كل ما أراه. لا يرمي القرار إلا إلى ترشيد [التواصل] كي يكون لكل مستشفى مشرف طبي يتولى مهمة المتحدث الرسمي".
عند سؤاله عن شكاوى المصابين من أن مرافق الرعاية الصحية حيث يخضعون للاستشفاء تستقبل أعداداً من المرضى تفوق قدرتها، يقول الدكتور خان مؤكداً بشكل قاطع: "لا نواجه نقصاً في الأسرة المرفقة بأجهزة تنفس اصطناعي".
ولكن مع ذلك، خلال زيارة قامت بها "اندبندنت" إلى المستشفى عينه، صادفنا مريضاً يحتضر في جناح "كوفيد" العام، وفي أمس الحاجة إلى جهاز تنفس اصطناعي، بعدما قيل لأسرته إنه لا يتوافر واحد له.
كان المريض محمد شهبان يبلغ من العمر 60 سنة، ويكابد كورونا والتهاباً رئوياً ثنائي الجانب (متلازمة الضائقة التنفسية الحادة) bilateral pneumonia. ابنه، سهل وجي، ذو الـ32 سنة، أخبر "اندبندنت" أن أباه كان في جناح الطوارئ ليلة 18 مايو، ونُقل إلى جناح "كوفيد" العام في اليوم التالي.
"أخبرنا الأطباء أن والدي يحتاج إلى سرير في وحدة العناية المركزة. لكنه غير متوافر في المستشفى. في الواقع، لا أطباء هنا. طوال الليل، لم يأتِ طبيب واحد للاطمئنان على المرضى. وعندما جاء أحد كبار الأطباء، تفقد والدي من بعيد وغادر"، يقول الابن بأسى.
في اليوم نفسه، فارق شهبان الحياة من دون أن يحظى بسرير في وحدة العناية المركزة، بعدما بقي في المستشفى أكثر من 16 يوماً.
في "مستشفى أمراض الصدر" في سريناغار، مرفق صحي رئيس آخر في المنطقة، يقول كبار الأطباء إن أمر منع النشر من شأنه أن يساعد في وقف "سوء التواصل الناجم عن وسائل التواصل الاجتماعي". يقول الدكتور نافيد نذير شاه، رئيس أحد الأقسام، لـ"اندبندنت": "نُقلت أخبار كثيرة غير صحيحة، من بينها خرافات متصلة بالتطعيم وأمور نشرتها جهات مختلفة وليس لها أي دليل علمي".
لكن أطباء آخرين يشغلون درجات وظيفية أدنى في المستشفى، واثقون من أن الأمر الصادر قد صُمم بغرض قمع المعلومات الحقيقية عن ضخامة أزمة الصحة التي أسفر عنها "كوفيد" في كشمير.
يقول طبيب من "معهد شير كشمير للعلوم الطبية" (SKIMS)، طلب عدم الكشف عن هويته: "لم يصدر الأمر من حكومة منتخبة للولاية، بل من الحكومة الفيدرالية. ولا يبدو أن النية تهدف إلى الحد من حالة الذعر، بل منع تسرب أي معلومات شديدة الخطورة.
"إذا لم نتمكن من إخبار وسائل الإعلام بأن الإمدادات الطبية الأساسية لدينا تنفد، وأننا نواجه نقصاً في طاقم المسعفين والأطباء، فكيف ستتحسن الأمور"؟ تساءل الطبيب. "لقد قوبل كشمير بتجاهل تام. في ظل هذا الإيعاز [الذي يكم أفواهنا]، تركنا بمفردنا إلى حد كبير".
والحق أن سريناغار وبقية أجزاء وادي كشمير بدأت إغلاقها الفعلي قبل نحو ستة أشهر مقارنة ببقية العالم- في أغسطس (آب) 2019، قبل نشوء "كوفيد"، جردت الحكومة الهندية المنطقة من إقامة دولتها الخاصة ووضع الحكم الذاتي الدستوري، وقطعت إمكانية وصول السكان إلى الإنترنت وقيدت حرية الحركة، بغية لجم أي رد فعل عام عنيف.
مع أن الأوضاع تحسنت بين موجتي "كوفيد" الأولى والثانية، عاد ما أصبح الآن إقليم اتحاد جامو وكشمير الخاضع للسيطرة المركزية إلى فرض إغلاق صارم في 29 أبريل. ومن المقرر إعادة النظر فيه يوم الاثنين.
حتى أن القيود في الولاية السابقة أكثر صرامة مقارنة بالإجراءات التي شهدتها أجزاء أخرى من البلاد خلال الإغلاق. الطرقات مهجورة، وأوصدت المتاجر كافة تقريباً أبوابها. نادراً ما تلمح أي سيارة تجول في الشوارع، فيما معظمها متوقف إلى جانب الرصيف. وعند كل بضعة كيلومترات أقيم حاجز مسلح للشرطة، أو وُضعت أسلاك شائكة تقيد الحركة على الطريق. كذلك يُصار إلى تغيير أماكن الحواجز باستمرار على مدار اليوم كي يكون تجنبها أكثر صعوبة، فلا يُسمح بالمرور إلا لمن حصل على إذن تجول.
على الرغم من أن أزمة "كوفيد" في كشمير أقل دكنة عما كانت عليه الحال خلال الذروة في عاصمة البلاد دلهي، حيث شوهد الناس يلهثون لالتقاط أنفاسهم بينما ينتظرون في طوابير خارج المستشفيات للحصول على سرير، يشعر الأطباء أنهم يبذلون أقصى طاقاتهم.
في هذا الصدد، يقول الدكتور شاه: "في الوقت الحالي، لن أقول إننا تجاوزنا قدرتنا الاستيعابية، بل وصلنا حتى حدود السعة". وفق كلامه، كان لا بد من تغيير السياسات المتبعة في ما يتصل بقبول دخول المرضى إلى المستشفى لتصبح أكثر صرامة، لذا يستقبلون المصابين بالمضاعفات الأكثر حدة. "نشهد أيضاً تغييراً في نمط الإصابات، إذ يلتقط مزيد من الأشخاص [من مختلف الأعمار] العدوى الشديدة إلى المتوسطة. في وقت سابق، لوحظت الحالات الشديدة المتوسطة الحدة في صفوف الأشخاص الذين تخطوا الخمسين أو الستين عاماً، والذين يعانون حالات صحية أخرى مصاحبة".
يرى الدكتور محمد سالم خان أن شدة العدوى ربما تزداد سوءاً بسبب وجود متحورات من "كوفيد" أكثر عدوانية مقارنة بالنسخة الأصلية تنتقل بين شخص وآخر في وادي كشمير- ولكن مجدداً، المعلومات المتوافرة في هذا الشأن قليلة بسبب النقص في تسلسل الجينوم.
"ليست لدينا معلومات عن الطفرات المنتشرة في كشمير. عزل [الباحثون] متحوراً واحداً فقط هنا"، كما يقول خان، في إشارة إلى طفرة "أن 440 كي" (N440K ) الأقل شهرة التي حددتها الهند للمرة الأولى في أبريل الماضي.
في كل أجزائها، ما زالت الهند تشهد حوالى 200 ألف إصابة يومية، مسجلة انخفاضاً عن الذروة التي بلغت حوالى 400 ألف في نهاية أبريل الماضي. بيد أن أرقام الوفيات في كشمير مستمرة في الارتفاع في وقت، على ما يشتبه الدكتور خان، ينتشر الفيروس على نطاق أوسع في مناطق خارج مدينة سريناغار. ويقول إن معدل الضحايا "قد لا يبلغ ذروته قبل أسبوعين آخرين".
يصف الدكتور نزار الحسن الوضع الحالي في مستشفيات المنطقة بالـ"كابوس". ويقول إنها تشهد وفيات إضافية الآن إلى حد ما، وذلك مرده إلى أن المرضى لا يلجؤون إلى المستشفى إلا في وقت متأخر من الإصابة، كملاذ أخير. في تلك المرحلة، تكون "رئاتهم متضررة بشدة لدرجة أننا نعجز عن إنقاذهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن الدكتور في المقابل لا يلوم المرضى وعائلاتهم على تفادي الدخول إلى المستشفيات المكتظة بالمرضى. في الواقع، "لا يأتي الناس في الوقت المناسب لأنهم يدركون أنه يتعين عليهم إنجاز الأمور كافة في المستشفى بأنفسهم"، وفق كلامه.
"سواء جلب أسطوانات الأوكسجين، أو تشغيل عينات الاختبار الخاصة بهم أو مراقبة العلامات الصحية الحيوية... يُجبر أقارب المريض على الاهتمام بكل شيء بأنفسهم. لذا علينا أن نتكلم. حري بنا أن نفصح عما نمر به كي ننقل صورة صادقة".
تنوير أحمد ذو الـ39 سنة، واحد من القلة المحظوظين الذين نجحوا في تأمين جهاز تنفس اصطناعي لزوج أخته بعد تشخيص إصابة الأخير بالتهاب رئوي ثنائي الجانب. "أخبرنا الأطباء إننا محظوظون لأن مريضاً آخر يبلغ من العمر 80 سنة كان ينتظر توافر سرير [في وحدة العناية المركزة]. وكان عليهم الاختيار بينه وبين زوج شقيقتي الأربعيني. لو أن شاباً عشرينياً كان موجوداً على قائمة الانتظار، ما كان زوج شقيقتي ليحظى بسرير في الغالب".
"ولكن كيف يسعك أن تقرر أي مريض تريد أن تنقذ، المريض العشريني أم الأربعيني، أم الستيني؟ كيف تختار أي حياة تستحق الخلاص"؟ سأل أحمد بحزن. "سواء كان الشخص غنياً أو فقيراً، كبيراً أو صغيراً، يجب أن يحصل الجميع على فرصة للقتال"، في سبيل النجاة.
© The Independent