شهدت الساحة الأدبية التونسية، خلال السنوات الأخيرة، طفرة روائية لافتة، كان من نتائجها فوز عدد من الأدباء التونسيين بجوائز عربية وعالمية، وإقبال واضح لدور النشر على إصدار الرواية التونسية والاحتفاء بها. لكن هذه الطفرة لم تواكبها حركة نقدية جادة تتأملها، وتكشف عن خصائصها. والقليل الذي كتب عنها لم يستطع أن يطفئ فضول القارئ، أو يجيب عن أسئلته الكثيرة. هكذا ظلت الرواية التونسية تتطور شيئاً فشيئاً في غفلة من الجميع، لتحقق، في السنوات الأخيرة، حضوراً كبيراً على الساحة الثقافية العربية، وتحظى باهتمام نقاد عرب وأجانب.
ومن الروايات التي جذبت الانتباه بعد إدراجها في القائمة القصيرة للروايات المرشحة للجائزة العالمية للرواية العربية، أو "البوكر العربية" 2021، رواية "نازلة دار الأكابر" للكاتبة التونسية أميرة غنيم. وعبارة النازلة في اللهجة التونسية تعني "المصيبة"، أما "دار الأكابر" فتعني بيت الأعيان وعلية القوم.
الكتابة الأخرى للتاريخ
هذه الرواية التي اختارت أن تغوص في التاريخ التونسي الحديث، وتوظف أحداثه، بفطنة كبيرة، تمكنت من تجاوز الخطاب الروائي السائد في تونس منذ البشير خريف لتنجز خطاباً جديداً فيه قوة وعمق، وفيه جدة وطرافة، وفيه، على وجه الخصوص، استشراف لآفاق تعبيرية جديدة من خلال لغة روائية مبتكرة تتميز بشفافيتها وأناقتها. تعمدت الكاتبة اختيار شخصية واقعية لتقتسم مع أبطال آخرين مغانم البطولة، وهي شخصية المصلح التونسي الكبير الطاهر الحداد الذي دعا خلال الثلاثينيات إلى تحرير المرأة التونسية، وكتب تاريخ الحركة العمالية التونسية، وأسهم، مع عدد من الأدباء والسياسيين، في خلق وعي حداثي أعاد النظر في الكثير من المسلمات الاجتماعية والثقافية.
لكن هذه الشخصية نهضت في الرواية بجملة من الأحداث المتخيلة، هي من وضع الكاتبة، ما جعلها تفقد الكثير من توهجها الواقعي وتكتسب، داخل الرواية، أبعاداً رمزية واستعارية. هذه المراوحة بين الواقعي والمتخيل، وبين التاريخي والاستعاري، تعد من أخص خصائص هذه الرواية. فالكاتبة تعمدت هدم الحدود الفاصلة بين هذه العوالم المتباعدة، كما تعمدت المزج بينها من أجل خلق عالمها الروائي الذي يتقاطع مع العالم الواقعي دون أن يكون هو نفسه.
من أقصى الجنوب التونسي يأتي الطاهر الحداد إلى العاصمة التونسية، وقد لازمه إحساس عميق بالخلل ينتاب كل جوانب المجتمع التونسي، كما لازمه إحساس أعمق بضرورة الإصلاح يعيد صياغة الحياة على نحو جديد، لهذا تحولت الثقافة عند الحداد إلى طريقة لنقد الحياة، إلى محاولة لتقويم ما اختل من أمرها، إلى تعديل الساعة المتوقفة منذ عهد بعيد، والتي ما فتئت تقرع عالياً، معلنة عن زمن مضى وانقضى.
في هذا السياق، نشر الحداد عمله "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، داعياً إلى الانخراط في إيقاع العصر، ومنح المرأة حقوقها، والخروج من منطق الدهر وقوانينه الجامدة والدخول في منطق التاريخ وقوانينه المتحولة. فكان من نتائج ذلك أن تألبت عليه قوى التخلف فحاصرته بالتهمة تلو التهمة.
الطاهر الحداد المتخيل
شغف الحداد حباً بـ"للا زبيدة "(وعبارة للا تعني في اللهجة المغاربية السيدة) بنت "الأكابر"، لكن أسرتها ترفض هذا الرجل القادم من الآفاق، محتمية بثقافة قديمة تصر على إبقاء الحواجز قائمة بين الطبقات والفئات والجهات، منتشية بألقابها القديمة التي فقدت بمرور الأيام ألقها وقيمتها. وككل العشاق الخائبين انسحب الحداد من ساحة العشق خافياً جراحه الغائرة، فيما تزوجت حبيبته وفق تقاليد الكبار وعاداتهم. وتنغلق الدائرة على نفسها، على نحو درامي يذكر بالقصص العشقية القديمة.
والواقع أن الرواية، كل الرواية، إدانة لبنية المجتمع القديمة ولجملة القيم التي يقوم عليها، وهي شهادة على تحلل طبقاته وتفسخها. ولعل في مقدمتها طبقة "الأكابر" الذين تحصنوا بألقابهم القديمة، وناهضوا كل تغيير. كل ما في الرواية من أحداث يشير إلى الأفول الوشيك لهذه الطبقة، إذ باتت تنتمي إلى عصر آخر بعيد، إلى منظومة قيم لم تعد قادرة على الصمود أمام الأحداث والوقائع تؤذن بقرب رحيلها.
تؤكد الكاتبة أن قصة العشق التي ترددت أحداثها في فصول الرواية لم تكن إلا تعلة، محض حيلة فنية لإثارة قضايا أخطر. كان هم الكاتبة أن ترفع صوتها بالاحتجاج على الطبقية والاستغلال والعنف والتطرف واحتكار المعرفة والسلطة والجهل والظلامية. وهنا يمكن أن نسأل: لِمَ التهوين من شأن التجربة الوجدانية واعتبارها مجرد "تعلة" فنية؟ ألهذا السبب لم تلتفت الكاتب إلى حبكتها الفنية فجاءت باهتة؟
رواية المكان
تتعدد الأصوات في هذه الرواية، وبتعددها تتعدد زوايا النظر. فالرواية هي خلاصة أحاديث يسردها أفراد من أسرتي علي الرصاع وعثمان النيفر، وخلال هذه الأحاديث تنكشف لنا عن وجوه تونس المتعددة/ المتفردة في آنٍ واحد: تونس الفنانين والسماسرة الأفاقين والأدباء والشعراء والصحافيين والمناضلين والسياسيين، كما تنكشف تونس الأعماق، تونس الغوايات واللقاءات السرية والمواعيد المسترابة. أكثر الشخصيات هنا معطوبة، مهزومة، تبحث عن عزاء لا يكون، كلها ضحايا خيانات ودسائس ومؤامرات تحاك في السر: محسن زوج زبيدة، زبيدة، محمد سلف زبيدة، فوزية زوجته، خدوج، ياقوتة... كلهم ينوؤون تحت أعباء قدر أعمى، يأخذهم، على طريقة المأساة اليونانية، إلى مصير قاتم مجهول.
لكأننا نشهد، في هذه الرواية، أفول مجتمع قديم، بات عاجزاً عن التلاؤم مع العصر الحديث وبروز مجتمع آخر جديد، يحمل قيماً مختلفة، ويسعى إلى اجتراح أسئلة جديدة. الرواية كلها تصوير لهذين المجتمعين في اختلافهما وائتلافهما... في تباعدهما وتقاربهما. ثمة حنين يتسرب في كل أجزاء الرواية إلى تونس الثلاثينيات التي كانت بمثابة المختبر الكبير للحركات العمالية والنقابات العربية الأولى، وللحركات النسوية التي تتوق إلى تحرير أول مجلة للأحوال الشخصية وللأحزاب العلمانية وتخوض أول صراعاتها ضد الأحزاب الدينية المتطرفة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المكان هنا ليس مجرد عنصر فني يضاف إلى بقية العناصر الفنية الأخرى التي تقوم عليها الرواية، وإنما هو جوهر الرواية، بل ربما الهدف من وجود الرواية. وبعبارة أخرى نقول إن المكان هنا ليس قطعة القماش بالنسبة إلى اللوحة، وإنما هو اللوحة ذاتها. نلح على هذا على الرغم من إدراكنا أن المكان في الرواية هو مكان لفظي متخيل صنعته اللغة استجابة لأغراض التخييل الروائي.
قد لا نبالغ إذا قلنا إن سحر هذه الرواية يكمن في فضائها، في التفاصيل التي تأنت الكاتبة في وصفها، في التاريخ الذي يعبق من كل منعرج من منعرجاتها، في اقتحام العالم الخارجي لعالم الرواية لكي تلتبس الحدود مرة أخرى بين التخييلي والواقعي.
ثمة في صفحات الرواية هذه الرغبة الجارفة في الحكي، الحكي الذي لا ينقطع، حكي جذاب، ساحر، يشدنا إليه قبل أن يشدنا إلى شيء آخر. لكأن هدف الكاتبة البعيد أن تكتب، بطريقة ما، حكاية شعبية، فيها تمتزج الحكمة العميقة بالأمثال السائرة. فالرواية، كل الرواية، احتفال بالروح التونسية بخرافاتها وأساطيرها ولغتها واستيهاماتها. ثمة في هذه الحكايات ما يذكر بالخرافات الشعبية من "ألف ليلة وليلة" إلى الحكاء الشعبي التونسي عبدالعزيز العروي. ثمة هذه الفتنة بالسرد بوصفها رديفة الحياة والمتعة، بل بوصفها جوهر كل رواية.