من صفحات ملحمته التي توزعت على أجزاء عديدة، لتشمل حكايات منفصلة، تحت اسم حكايات عبدالرحيم الوسيم، فر البطل "الوسيم" ليستقر أخيراً في "هضبة المساخيط" (دار بدائل – القاهرة)؛ الرواية الأحدث للكاتب المصري النوبي حجاج أدول.
اعتاد الكاتب في أغلب كتاباته العجائبية التي تفوح بالأسطورة، انتهاج أسلوب التضمين، بحيث تتصدر النص حكاية رئيسة "الحكاية الإطار"، ثم تتناسل وتتفرع منها حكايات أخرى. وهذا ما اتبعه في كثير من رواياته مثل "رحلة السندباد الأخيرة"، "زلنبح"، "خوند حمرا"، "بلدة ترمس"، "بهاء الدين السقا في بلاد الغيلان"، وغيرها من أعماله الروائية ذات الطابع الفانتازي والتاريخي، لكنه في المقابل اتبع في بعض نصوصه الروائية الأخرى، أسلوب التنضيد. فجعل من شخصية عبدالرحيم الوسيم البدوي ابن الصحراء؛ قاسماً مشتركاً بين روايات منفصلة منها "ابن الخطيئة، الطموح المستحيل، صراعات البادية والواحة، ميناء القراصنة ومخبول السماؤول"، وغيرها. وعلى الرغم من أن روايته الأخيرة "هضبة المساخيط" لم تحمل عنوان الملحمة "حكايات عبدالرحيم الوسيم"، فإنها تقاطعت معها في شخصيتها المحورية، وفي الفضاء المكاني للسرد "الصحراء"، وأيضاً في الصبغة الغرائبية التي اصطبغت بها الأحداث.
تدور الأحداث في فضاء مكاني ممتد من الصحراء لا يحدده الكاتب، ليتسق تجهيله مع ما أراده للنص من طابع عجائبي، وإن استبقى الفانتازيا وأرجأها لمرحلة لاحقة من السرد، بينما انطلق من جانب واقعي يعبر بصدق عن واقع أهل الصحراء وقسوة حياتهم، زظلف العيش الذي يخلق لدى بعضهم ميلاً للزهد، بينما يؤجج لدى البعض الآخر شعور السخط وشهوة الطمع، ليكون الزاهد والطامع قطبين لثنائية كلاسيكية من الصراع، ترجح كفتها في بادئ الأمر إلى جانب الطامع. فتتطور الأحداث بما يقود شباب القبيلة تحت إمرة أميرهم عبدالرحيم الوسيم للبحث عن الترف ورغد الحياة، وإن كانت وسيلتهم أن يغيروا على القوافل لينهبوها.
في بنائه المتتابع الذي تدفقت فيه الأحداث تدفقاً منطقياً متسلسلاً، اعتمد أدول أسلوب الراوي العليم في السرد لسبر أغوار شخوصه، التي كانت في أغلبها تتبع نهجاً واحداً ومتوقعاً. فالنقيصة التي دفعت بإبليس للطرد من رحمة الإله، جعلت سلوك عبدالرحيم الوسيم ونهايته متوقعة... "ما زلت متعجرفاً يا ابن أختي. حذرتك من قبل وأحذرك للمرة الأخيرة، عجرفتك وغطرستك لا يقبلهما الخالق، سيحطمك، فاحذر"، ص12.
هكذا، وشت طبيعة الشخوص ونمطيتها؛ وكذا فلسفة الكاتب التي اتضحت منذ اللحظة الأولى من السرد، بما ستؤول إليه مصائر الشخوص، لكنه استعاض بالفانتازيا التي تولدت عن مخيلته الخصبة لإنتاج الدهشة، وتطعيم الأحداث بالمفاجأة وصبغها بالمتعة والتشويق.
استدعاء الموروث
استهل الكاتب بناءه باستدعاء الموروث الشفهي عبر استخدامه آلية الإسناد: "يحكى أن ثلاث قبائل بدوية فقيرة، تتوسط الصحراء الصفراء الممتدة القاحلة"، ص7. وهو عبر اعتماده هذه الصيغة الاستهلالية؛ يتبع المألوف في التراث العربي الذي يعظم أهمية أسلوب الإخبار، لإضفاء الصدقية على السرد. ويستدعي في الوقت نفسه المناخ الأسطوري لحكايات "ألف ليلة وليلة" التي كانت تعتمد على الاستهلال الإسنادي نفسه، ليحيط به الأحداث. ومثلما استدعى أدول التراث الشعبي، استدعى أيضاً الموروث الديني ليعزز حالة الإيهام والتصديق لدى القارئ، حتى للوقائع الغرائبية في النص. فالمساخيط، أو تلك الكائنات المخيفة التي ظهرت لعبدالرحيم وقافلته؛ شخوص مستوحاة من الموروث الديني، حلت عليهم لعنة الله وغضبه لسوء ما فعلوا، فسخطهم إلى كائنات غير بشرية، غير أن اللعنة في النسيج اكتست بتصورات الكاتب، بما يقتضيه عمل أدبي مفتوح على أبواب الخيال الرحبة. ليصبح الملعونون كائنات تحيا بلا حياة وتموت بلا موت. وفي خدمة الفكرة التي نهض عليها العمل وهي فكرة ميراث الخطيئة الذي انتقل من العم للأب للابن، وكذا فكرة تداول العقاب؛ لجأ الكاتب لاستخدام التناص اللفظي مع النص القرآني، وذلك عبر استخدام عبارات مثل "لا مساس"، وهي عقوبة السامري الذي أوعز إلى قوم موسى بعبادة العجل.
مستويات الوصف واللغة
لجأ الكاتب إلى تقنية الوصف ووظف مستواها التفسيري في خدمة الأحداث. فحين وصف حال أبناء القبائل من البدو، وظروف الصحراء القاسية؛ فسر الصراع النامي بين أجيال الأبناء وآبائهم. وبرر نزوعهم للتمرد على ظروف حياتهم الصعبة ورغبتهم العارمة في الثراء، بغض النظر عن السبل التي سيسلكونها، كذلك حين وصف الممر الضيق المؤدي إلى هضبة المساخيط وتضاريس المكان وملامحه، كان يقدم تفسيراً استباقياً حول صعوبة العدول عن القرار بالعبور عبر هذه الهضبة والعودة. ويمهد أيضاً لوجود المساخيط وما سيصحب ظهورهم من فزع. وقد أتقن أدول استخدام الصورة والتقنيات البصرية، فمد عبرها جسراً بين صفحاته ومخيلة القارئ... "فارس من الفرسان غلبه التعب والنوم فيميل هنا وهناك، ثم من سوء حظه أن الميلة القوية كانت ناحية الهاوية، فتدحرج من ظهر جمله العالي. فزع وهو يسقط فصرخ، وهو يتشبث بحبل الرسن الممتد من يديه والمربوط بإحكام برأس الجمل. تدلى في الهاوية يرفس بساقيه"، ص31.
لم يكتفِ الكاتب بتحفيز حاسة الإبصار عبر لغته المشهدية، واهتمامه بالصور والتكنيك البصري، وإنما عزف على كل حواس المتلقي الأخرى، ليخلق حالة من تماهي القارئ مع النص، بحيث يستطيع شم رائحة "الشياط" عند اقتراب ظهور المساخيط، وسماع صوت صرخاتهم المفزوعة والمفزعة في آنٍ.
واستعان بمفردات البيئة البدوية ليدعم صدقية البناء الروائي، فأورد رسماً دقيقاً لحياة البادية، رمالها، ليلها، أعاصيرها ومناخها. واتسعت الصورة لتلتقط تفاصيل أخرى حول أهل الصحراء، مثل مساكنهم، وملابسهم، ومأكلهم؛ لجمالهم. وقد عززت هذه المفردات واقعية البناء، تلك التي امتزجت مع سماته الغرائبية في انسيابية لافتة، فخرجت بالأحداث من حيز الخيال إلى حيز المعايشة والتصديق.
وزع الكاتب في ثنايا السرد رموزاً ذات إحالات دالة حققت هدفه في بث رسائله وفلسفته ورؤاه بعيداً عن فخاخ المباشرة. فالمساخيط الذين حلت عليهم اللعنة، كانوا تنويعة من كل صنوف البشر، ما يحيل إلى أن شرور النفس البشرية لا جنس لها ولا لون. كذلك فخال الأمير عبدالرحيم الوسيم، وهو حكيم القبائل الذي تشرب حكمته من الكتب وبات مشهوراً بلقب القراء، لكنه فريسة المرض، على شفا حفرة من الموت، مستلقياً في خيمته لا حول له ولا قوة. لذا عجز عن كبح جماح الأطماع من حوله. وربما كان عجز القراء إشارة إلى حال المثقف وعجزه أمام اختلالات المجتمع. كذلك تحمل شخصية السبروني، وهو بوصف الكاتب مدعي الصلاح الديني من "أصحاب اللحى شبرين"، إسقاطاً على تيارات الإسلام السياسي التي تسلك الدين طريقاً للوصول إلى السلطة... "احترس من السبروني، فهو يدعي الصلاح الديني ليكون زعيماً للقبيلة"، ص11.
سر الجارية البيضاء
وقد مرر الكاتب عبر الشخوص والأحداث رؤية فلسفية، تحمل الإنسان مسؤولية هلاكه حين تجنح نفسه للغرور؛ تلك النقيصة التي تدفعه للاعتداء والاستعلاء والعنصرية والتمييز. وواصل بث الرؤى التي انتهت بجدلية الحياة والموت، ورسم لكل منهما وجهاً يخالف المألوف. فجعل من الموت غاية يرجوها المساخيط للخلاص من عذاباتهم، بينما يفرون من الحياة وينشدون انقضاءها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استخدم أدول بعض الشخوص، لا سيما الجارية البكاءة؛ كحيلة للإمساك بتلابيب القارئ، وإثارة رغبته في كشف هالة الغموض التي أحاطتها عبر تتبع رحلة السرد، لكنه قرر ألا يفصح عن سر بكائها الدائم، ربما ليدفع القارئ للمشاركة في لعبة الخيال، وحثه على نسج الأحداث وإنتاج المعنى. وربما أرجأ الكشف عن لغز هذه الشخصية إلى جزء آخر من أجزاء ملحمته، لا سيما أنه اختار نهاية مفتوحة تشي بأن القصة لم تنتهِ بعد، وأن عوالم الصحراء ما زال في جعبتها المزيد. ولعله في روايته هذه يضرب مثلاً، يؤكد عبره أن قصر الرواية لا ينتقص بأي شكل من جماليتها، ولا ينال من تماسك بنائها، ولا يعني الإخلال بشروط الإبداع أو جاذبية السرد، بل ربما تكون الجنس الأدبي الأكثر اتساقاً مع حقبة نعيشها ذات إيقاع سريع، يحظى خلالها الموجز والمكثف بتفضيل القراء.