الناظر في تاريخ العلاقة بين البلاغة والفلسفة لن يخفى عليه الصراع القوي القائم بينهما، والذي كان من ضحاياه سقراط الذي تجرع السم بعد أن هزمته بلاغة السفسطائيين، ليشن أفلاطون هجوماً كاسحاً بعدها عليهم، ويخرج الأدباء والشعراء من مدينته الفاضلة. ويستمر هذا الحال مع أرسطو وإن كان بوتيرة أقل في صراعه مع البلاغة. هذا الصراع لم يقتصر على اليونانيين، فقد امتد إلى ديكارت وكانط وتردد صداه لدى الفلاسفة العرب، وهذا ما يناقشه كتاب "البلاغة والفلسفة: في أعمال محمد عابد الجابري" للمغربي إدريس جبري (دار العين).
نظرة سلبية
طوال قرون عدة، ظلت نظرة الناس إلى السفسطائيين سلبية تحت تأثير دعايا الفلاسفة، فقد عاتب أفلاطون خصومه من الخطباء والبلاغيين بأنهم يعلمون الحكمة بداية، من أجل المرافعة لمصلحة الضحايا، لكنهم سرعان ما يبيعونها في كل القضايا، وبذلك فهم ليسوا سوى جماعة من المتاجرين بالحكمة في استعمالهم اللغة البلاغية في خداع الناس، وهذا ما جعل البلاغة تظهر بمظهر النقيض للفكر السليم والصحيح، في مقابل الفلسفة التي ترى أنها تبحث عن الحقيقة، وتعيش حياة تأملية وتخاطب النخبة. وقد انتقل هذا المفهوم السلبي للبلاغة حتى للعامة في عبارتهم الشائعة في عالمنا العربي حتى الآن: "بلاش سفسطة، أو بطّل سفسطة"، أي توقف عن اللغو والكلام الفاقد للقيمة والمخالف للمنطق.
ومن الأمور التي تبدو لافتة وتدعو للدهشة، أن الفلسفة التي رفضت البلاغة وعادتها لم تُكتب لها الحياة وخوض مباحث جديدة، وجعل الحقل الفلسفي ثرياً ومغرياً للباحثين إلا من خلال البلاغة، والفضل في ذلك يعود إلى الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين الذي رفض الخوض في القضايا الميتافيزيقية إلا من خلال اللغة، فاتحاً بذلك الباب لفلاسفة اللغة والبلاغيين لأن يقتحموا مواطن جديدة كلياً.
وما قام به الفيلسوف النمساوي كان ملهماً للعديد من العلوم، وأنشأ علوماً معرفية جديدة، ومنه نبعت نظريات جديدة كان لها الفضل في إعادة الاعتبار للبلاغة وإنهاء حالة الصراع بينها وبين الفلسفة. وظهر للغويين فلاسفة وبلاغيون ينتمون إلى الفلسفة، وأصبحت البلاغة أداة من أدوات التحليل التي يمكن من خلالها فهم العالم. وبالنسبة إلى البلاغيين الذين يعتبرون السفسطائيين آباءهم الأوائل، وأن الصراع بينهم وبين الفلسفة كان محكوماً بسؤال، من الأجدر بالسلطة ومن الأَولى بتدبير شأن المدن؟ إلا أن هذا العداء زال مع ما قام به شاييم بيرلمان وتلميذه ميشيل مايير في نظرتيهما التي قرنا فيها الفلسفة بالبلاغة والبلاغة بالفلسفة.
لوم الجابري
يوضح إدريس جبري في تحليله لرباعية محمد عابد الجابري "نقد العقل العربي"، ورباعية "تحليل الخطاب القرآني"، أن نظرة المفكر المغربي السلبية للبلاغة عكست تأثره بالتراث القديم المعادي لها، ووجّه ما يشبه اللوم للجابري في أكثر من موضع في كتابه على تلك النظرة، إذ كانت البلاغة بالنسبة إليه ومن خلال بحثه في التراث العربي، "بمثابة مخدر تعبيري وتصويري وظيفتهما الإغفال والاحتيال والإعنات". تلك إذاً هي النظرة التي رسخها الفلاسفة حتى صارت مسلمات لا يمكن التشكيك فيها، وكان من ضحاياها فلاسفة العرب المحدثون، ومن بينهم الجابري الذي لم يواكب اجتهادات البلاغة الجديدة في جناحها الخطابي، خاصة لدى شاييم ومايير. ويرى جبري أن الجابري لو تخلص من التصور التحقيري للبلاغة لأدرك أنه هرب منها إليها، سواء في بناء مشروعه "نقد العقل العربي" أو تحليله للخطاب القرآني. وفي مقابل هذا اللوم الذي يوجهه الكاتب للجابري لأنه لم يلتفت إلى البلاغة الجديدة، فإنه ينصر وينتصر برؤى حجاجية للجابري مقابل معاصرين له، مثل جورج طرابيشي وطه عبدالرحمن اللذين انتقدا بشدة مشروع الجابري الفلسفي.
أهمية السياق
وإن كان الجابري قد عادى البلاغة ووجه إليها سهام نقده، إلا أنه، كما يكشف إدريس الجبري، استخدم أدواتها، سواء في تحليله للقرآن الكريم أو نقده للعقل العربي، فمن المفاهيم الأساسية، سواء في البلاغة العربية القديمة أو البلاغة الحديثة "السياق"، والذي عبر عنه الجاحظ بقوله، "لكل مقام مقال". فالجابري كان حريصاً على استحضار السياق ضمن أطروحاته المتعددة التي تهدف إلى خلق حداثة عربية غير منفصلة عن تراثنا. ومن المفاهيم التي انتقدها بقوة، مفهوم العلمانية الذي يُروج له في الخطاب العربي المعاصر من دون مراعاة للسياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية لهذه الكلمة، فقد استخدمت هذه الكلمة بشكل خاطئ، ومن ذلك ما يحصل على قنوات التلفاز العربية، ففي أحد البرامج قدم المذيع أحد الضيوف بأنه علماني، والآخر بأنه إسلامي، وهذا النوع من التقديم المغالط يوحي للمشاهد بالتعارض بين الكلمتين، بينما ما يعارض الإسلام هو الكفر أو الزندقة.
أما مصطلح العلمانية فواجه نقداً أيضاً من عبدالله العروي، الذي قال "إن اختيار لفظ "علماني" كان خطأ، ولعب دوراً سلبياً في مسار الفكر العربي الحديث، ولو اختير لفظ آخر مثل "دنيوي" في مقابل "أخروي" أو "معاملات" في مقابل "عبادات"، لما استبشع في الأوساط التقليدية، كما هو الحال مع لفظ "علماني".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى هذا النهج سار الجابري، وقدم هجومه تجاه لفظ علماني بناء على حجج عدة، داعياً إلى التخلي عن لفظ العلمانية من دون التخلي عن روحه، راجعاً إلى أصول هذه الكلمة في الغرب أولاً، وكيف انتقلت إلى الشرق، وكيف اكتسبت هذه الدلالة السلبية، وذلك خلال مشروعه النقدي للعقل العربي الذي تجاوز الألفي صفحة، وهو كان يرى أن المطالبين بالعلمانية في العالم العربي، بما هي فصل الدين عن الدولة، كما قرّ في الأذهان، لم يكونوا في بادئ الأمر من المسلمين بل من مسيحيي الشام الذين كانوا يطالبون بالاستقلال عن السلطنة العثمانية من جهة، واستلهام النهضة الأوروبية القائمة على فصل الدين عن الدولة، ولم تكن تلك هذه المشكلة حاضرة لا في دول المغرب العربي ولا دول المشرق في شبه الجزيرة العربية أو في مصر ذات الأقلية القبطية، مما يعني أن تلك المشكلة كانت خاصة بقُطر معين، ولم تكن تشغل بقية الأقطار العربية. وعلى هذا الأساس يرى الجابري أن مفهوم العلمانية لا يملك في متخيل المسلمين ولا عند المطالبين بالتغيير والإصلاح أي مردود إجرائي ولا استراتيجي، في مجتمع يدين أهله بالإسلام، ويأملون ممارسة شعائرهم بأمن وطمأنينة. ويضرب المثل بالتجربة التركية العلمانية التي على الرغم من مرور قرن على تطبيقها، لم تتمكن من خلق مجتمع علماني على غرار البلاد الغربية، وهو هنا يوجه بأن الأفضل ليس فصل الدين عن الدولة في المجتمعات العربية، وإنما فصل الدين عن السياسية، لأن الأولى يصعب تطبيقها. وكانت هذه الرؤية من الأسباب الرئيسة في الهجوم الذي وجّهه جورج طرابيشي لمشروع الجابري.