أزمة المصارف والمودعين تكاد لا تنتهي فصولها في لبنان، ففي مراجعة قانونية مسجلة، أصدر مجلس شورى الدولة قراراً قضى بوقف تنفيذ التعميم الأساسي الصادر عن حاكم مصرف لبنان تحت الرقم (13318)، وكل ما هو متصل به لعدم قانونيته.
والقرار المطعون فيه يعني أن على المصارف وقف التسديد البدلي بالليرة اللبنانية للحساب المفتوح بالدولار الأميركي، تحديداً على سعر المنصة، أي 3900 ليرة، وتسديد صاحب الحسابات بعملته الأجنبية.
وقد يبدو هذا القرار ساراً للمودعين بالعملات الأجنبية المحتجزة أموالهم في المصارف، إذ أبدت رابطة المودعين ارتياحها للقرار القضائي، وقالت في بيان إن "أهميته تكمن في تأكيده عدم قانونية تحديد سعر الصرف بـ 3900 ليرة للدولار، بناء على بدع حاكم مصرف والتي تجاوزت القانون الذي يضمن إعادة الوديعة كما هي"، وطالبت المصارف التعويض على المودعين الذين سحبوا من ودائعهم على سعر المنصة في وقت سابق.
غير أن هذا القرار تسبب بفوضى بين المصارف والمودعين، إذ تشير المعلومات إلى أن عدداً كبيراً من المصارف التجارية توقف عن العمل بتعميم المصرف المركزي رقم (151) بموجب القرار القضائي، عن تسديد السحوبات للمودعين على سعر المنصة، وفي الوقت نفسه رفض التسديد بالعملات الأجنبية، فبات الخيار الوحيد أمام المصارف اعتماد السعر الرسمي، الأمر الذي تسبب بخسارة فادحة على المودعين تصل إلى 85 في المئة، في حين أن مصارف أخرى ستستمر بالعمل وفق التعميم الصادر من مصرف لبنان.
ووفق المعلومات، فإن الفوضى المصرفية المستجدة على خلفية القرار قد تؤدي إلى إقفال المصارف أبوابها من جديد، لمنع حصول إشكالات مع المودعين، وبانتظار تدخل مصرف لبنان لدى مجلس شورى الدولة، والتوصل إلى آلية مناسبة قابلة للتنفيذ، في ظل تأزم الأوضاع الاقتصادية وشح شديد بالسيولة الأجنبية لدى المصارف.
غير قابل للاستئناف
من ناحيته، أوضح مصدر قضائي في مجلس شورى الدولة أن "المجلس لم يصدر حكماً مبرماً بوقف العمل بالتعميم الصادر عن مصرف لبنان رقم (151) الذي يقضي بسحب المودعين لودائعهم بالدولار على سعر صرف 3900 ليرة"، إنما يقضي القرار بتعليق مؤقت عن العمل بهذا التعميم، مؤكداً أن القرار "لم يتضمن إلزام المصارف بتسديد الودائع بالدولار النقدي".
ورداً على إمكان رجوع مجلس شورى الدولة عن قراره، قال إن "القرار الصادر مؤقت وليس نهائياً، وبالتالي فهو غير قابل للاستئناف، ويمكن العودة عنه في حال تقدمت معطيات جديدة لدى مجلس شورى الدولة، بناء على طلب مصرف لبنان بعد تبلغه رسمياً بالقرار".
تضخم مفرط
من ناحيتها، رأت الصحافية الاقتصادية محاسن مرسل، أن المنصة التي جمد العمل بها بموجب قرار مجلس شورى الدولة، كانت تسببت برفع سعر صرف الدولار في السوق السوداء، كونها رفعت حجم الكتلة النقدية المتداولة بعد تسديد تسع مليارات دولار على سعر صرف 3900 ليرة، مما أسهم في تضخم الكتلة النقدية إلى حدود قياسية تقدر بـ 43 ألف مليار ليرة، الأمر الذي أدى إلى انخفاض قيمتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واعتبرت أن المنصة التي أنشأها المصرف المركزي بموجب التعميم رقم (151) أدت إلى انفلات كبير في الكتلة النقدية التي جرى خلقها للإيفاء بديون مستحقة من دون إنتاج حقيقي، فأضرت بالاقتصاد، معتبرة أن قرار مجلس شورى الدولة في هذا الاتجاه صائب، لكنه غير واضح لناحية عدم إلزامه المصارف التجارية الدفع بقيمة الوديعة، الأمر الذي أعطى ذريعة للمصارف العودة إلى الدفع على السعر الرسمي، أو تجميد الدفع مرحلياً بانتظار ما ستؤول إليه الأمور.
تضرر المودعين
في المقابل، اعتبر مصدر مسؤول في جمعية المصارف أن "قرار مجلس الشورى غير واقعي على الرغم من أنه ملزم للقطاع المصرفي"، لافتاً إلى أن المتضرر الأكبر من هذا القرار سيكون المودع الذي سيُحرم من سحب أي أمواله بالدولار، لأنه غير متوافر في المصارف، كما أنه حرم الاستفادة من السحوبات بالليرة على أساس التعميم (151)، أي على سعر صرف 3900 ليرة، ليعود على السعر الرسمي 1500 ليرة مقابل الدولار، الأمر الذي سيكبد المودعين خسائر أكثر فداحة.
وتوقع العودة في النهاية إلى صيغة جديدة ليست بعيدة عن التعميم (151) انطلاقاً من واقعيته، واستجابة لمتطلبات الناس وتيسير أمورهم ضمن الإمكانات المتوافرة في هذا الوقت العصيب من الأزمة الاقتصادية والمالية، التي تضرب لبنان بقوة في ظل عدم تنفيذ أي برنامج اقتصادي إصلاحي للنهوض بالبلاد.
تعهد الدولة
بدوره، رأى رئيس قسم البحوث والتحاليل الاقتصادية في بنك بيبلوس الاقتصادي نسيب غبريل، أنه عند قراءة تفاصيل قرار مجلس شورى الدولة، فهو قرار مؤقت بتعليق العمل بتعميم مصرف لبنان، ولم يُلزم المصارف بشيء، كون المركزي هو صاحب القرار، موضحاً أن "سحب الودائع بالدولار لا يزال ينتظر إقرار قانون الكابيتال كونترول لتحديد سقف للسحوبات، وهذا الأمر له علاقة بسياسات إصلاحية تسمح لصندوق النقد بتمويل إصلاحي".
وأشار إلى أن الحل الأنجح في معالجة أزمة السيولة هو أن تتعهد الدولة بموجب قانون إعادة ديونها إلى مصرف لبنان، وإن كان ذلك على فترة طويلة، ومن دون فوائد أو مع فوائد مخفضة، لأن هذا الدين تسبب بالتعثر بدفع الـ "يوروبوندز" وشح في العملة الصعبة، مما اضطر المصرف المركزي اللجوء لعدد من التعاميم.
إعدام المصارف
وفي السياق، رأى المحامي المتخصص في الشؤون المالية أمين بشير، أن قرار مجلس شورى الدولة، هو "شعبوي وسياسي يهدف الحفاظ على ماء الوجه السلطة أمام المودعين"، موضحاً أن هذا القرار ليس له أي مفعول قانوني تطبيقي، بل هو مجرد قرار إعدادي بوقف تنفيذ ما اعتمدته المصارف بقرار من مصرف لبنان إلى حين البت بأساس المراجعة، وسيضع المودعين والمصارف أمام أزمة قانونية جديدة، إذ في حال قام مصرف لبنان بتعميم هذا القرار ووقف تنفيذ إعطاء أموال المودعين على سعر المنصة، وهو ليس قرارا بدفع أموال المودعين بالدولار، لأنه قرار إعدادي فقط بوقف تنفيذ سحب المودعين أموالهم على أساس سعر المنصة المعتمد في المصارف، بالتالي هي أزمة جديدة للمودعين الذين لن يتمكنوا من سحب أموالهم إلا على سعر الصرف الرسمي، لأن البنوك لا تملك الدولارات الكافية لدفع التزاماتها.
وأشار بشير إلى أنه بانتظار القرار النهائي في المراجعة المقدمة أمام مجلس شورى الدولة بإبطال القرار أو قانونيته، سندخل في أزمة جديدة للمودعين حتى وإن قام القضاء الذي سيثقل بدعاوى المودعين للحصول على دولاراتهم بإعطاء قرارات قضائية بهذا الخصوص، إلا أن المصارف ستكون عاجزة عن الدفع، وستتعرض لوضع حجوزات على أملاكها، أي أنه قرار بإعدام هذا القطاع وإنهائه.
وأضاف أن "غاية المتحكمين بالبلاد استبدال هذا النظام المصرفي بنظام مصرفي جديد، بهدف تغيير وجه لبنان وأحد أهم أعمدته الذي أسس عليه لبنان الكبير، وكان ميزته في المنطقة"، متسائلاً عن سبب استفاقة القضاء بشكل مفاجئ على إبطال هذا القرار، ولماذا هذا التوقيت المريب في ظل الصراع القائم في القضاء بين أذرع السلطة السياسية القضائية.