يذهب الدارسون للتاريخ السياسي الإيراني إلى أن إيران تعتبر من بين الدول العشر في العالم التي تملك دستوراً بالمعنى والمفهوم الحديث له منذ مطلع القرن العشرين. ولعل تجربة الثورة المشروطة التي حصلت أواخر عهد السلطنة القاجارية، أولى المحاولات الإيرانية لتحويل السلطنة أو الملكية والشاهنشاهية إلى ملكية دستورية.
وعلى الرغم من الانتكاسة السريعة التي أُصيبت بها تجربة المشروطة عام 1906 على يد الشاه محمد رضا بهلوي، الذي انقلب وأنهى السلطنة القاجارية 1925 لمصلحة بناء ملكية بهلوية، إلا أن الملك الجديد لم يستطِع الخروج من الشكل الدستوري الذي ترسخ في المجتمع والحياة السياسية الإيرانيين، بالتالي عمد إلى تعديل هذا الدستور بحيث يسمح له بالحصول على صلاحيات شبه مطلقة تمكّنه من إحكام قبضته على البلاد، خصوصاً أنه جاء بعد حرب عالمية أولى أُعيد في نهايتها رسم حدود الدول في المنطقة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية والسلطنة القاجارية، وأسس لما يُسمى "الدولة القومية" بناء على تقسيمات اتفاقية "سايكس- بيكو"، إضافة إلى أنه واجه تداعيات العلاقة بين دول المحور ودول التحالف في الحرب العالمية الثانية، وانتهت إلى محاسبته نتيجة ميوله إلى الجانب الألماني، وأُبعد عن السلطة، ونُفي عام 1941 إلى الهند ومنها إلى موريشيوس وبعدها إلى جنوب أفريقيا حيث توفي هناك لكنه دفن في المسجد الرفاعي في القاهرة، ثم نُقل رفاته إلى إيران عام 1950 بعد استقرار الوضع لمصلحة ابنه في السلطة وانتهاء الاضطرابات الداخلية.
استطاعت الشاهنشاهية البهلوية الحفاظ على الدستور الذي يعطيها صلاحيات واسعة ولا يُخضعها للمساءلة أو المحاسبة، إلى الفترة التي جاءت بمحمد مصدق الذي فرضته صناديق الاقتراع والحراك السياسي عام 1951 رئيساً للوزراء، الذي بدأ بعد يومين من حصوله على ثقة البرلمان بإعلان تأميم النفط، في 1 مايو (أيار)، وفتح جبهة لانتزاع صلاحيات دستورية من الشاه وإعادتها إلى سلطة رئيس الوزراء. إلا أن الأمور تطورت وصولاً إلى خروج الشاه محمد رضا بهلوي من إيران إلى إيطاليا عبر العراق، وبدء التحضيرات الأميركية والبريطانية للانقلاب عليه في الشارع، وصولاً إلى عزله في 19 أغسطس (آب) 1953 وفرض الإقامة الجبرية عليه. الأمر الذي أعاد الشاه إلى إيران، وهذه المرة بصلاحيات مطلقة من دون أي صوت معارض، لتبدأ معه مرحلة التحكم الملكي بالدستور.
الصلاحيات المطلقة للشاه محمد رضا ما بعد 1953 والقضاء على حركة مصدق، وتسليم الأمور إلى جهاز الاستخبارات الإيرانية، السافاك، بالتعاون مع جهاز الاستخبارات الأميركية، "سي آي أي"، إضافة إلى استمرار السياسات الاقتصادية والإنمائية غير المدروسة والفاشلة في كثير من الأحيان، انتهت إلى تحريك المؤسسات الدينية والمدنية والسياسية الوطنية ضده، خصوصاً في مسألتين أساسيتين، الأولى منح المستشارين الأميركيين الحصانة القضائية على الأراضي الإيرانية، والثانية الثورة البيضاء والإصلاحات الأرضية أو الزراعية التي أقرّها والتي استثارت واستنفرت هذه المرة الإقطاعيين الذين تحالفوا مع المؤسسة الدينية التي رأت في هذه الإصلاحات تهديداً لمصالحها، ما مهّد الطريق إلى تحرك شعبي تقوده هذه المرة المؤسسة الدينية، وتبلور في أحداث حزيران 1963 وانتهى إلى اعتقال رجل الدين المعارض السيد روح الله الخميني والحديث عن إمكانية إعدامه، ما دفع كبار فقهاء ومراجع الحوزة الدينية في مدينة قم إلى إصدار بيان اعتبروا فيه الخميني من الشخصيات العلمية الحائزة درجة المرجعية، فقُطع الطريق على إعدامه وأُجبر الشاه وأجهزته على إبعاده إلى تركيا التي انتقل منها إلى الحوزة الدينية في مدينة النجف العراقية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وسبق أن شكلت قرارات مشابهة لمصدق محركاً ضده بعد أن حاول إعادة توزيع الأراضي الزراعية ومصادرة أملاك كبار الإقطاعيين والعائلة الملكية التي كانت تملك في منطقة شمال إيران وحدها نحو 7000 قرية بكاملها. وأدت إلى تحالف بين طبقة الملاكين والإقطاعيين والمؤسسة الدينية ضده وانتهت إلى مساعدة أجهزة الشاه وإنجاح خطة الاستخبارات المركزية الأميركية المعروفة باسم عملية "أجاكس" بالانقلاب عليه وإزاحته.
بعد انقلاب عام 1953 على مصدق وعودة الشاه إلى إيران، انتقلت سلطات الشاه إلى مرحلة السلطة المطلقة التي لا تراعي الدستور، وأصبح الجهة التي تتحكم بتعيين رئيس الوزراء مباشرة، مع الاحتفاظ على الشكل البرلماني لاختياره ومنحه الثقة. وتراكمت الانتقادات والاحتقانات الشعبية، إضافة إلى استمرار الدور الذي بدأه الخميني، وهذه المرة من النجف العراقية، إلى جانب قوى سياسية أخرى وطنية ويسارية وقومية في تصعيد المعارضة السياسية والشعبية ضد النظام الملكي. وقد انفجرت بشكل واسع بداية عام 1978 واستمرت على شكل تظاهرات شعبية ومواجهات مع قوات الأمن والجيش في مختلف مدن إيران، وصولاً إلى مطلع شباط 1979، عندما قرر الشاه مغادرة البلاد بعد تسليم رئاسة الحكومة بصلاحيات موسعة إلى شاهبور بختيار، عضو الجبهة الوطنية التي سبق أن أسسها مصدق في إطار مساعٍ لتهدئة الأوضاع والتمهيد للعودة لاحقاً. إلا أن التطور الدراماتيكي الذي حصل، عندما قرر الخميني مغادرة منفاه الفرنسي في ضاحية نوفل لوشاتو الباريسية، والعودة إلى طهران. الأمر الذي أنهى آمال الشاه بالعودة، وأسس لبدء مرحلة جديدة من تاريخ إيران، عُرف بـ"الثورة الإسلامية" والنظام الجديد المنبثق منها.