بعد اللقاء مع "المستشار" بدأتُ رحلات بين العاصمتين بعيدا عن الرسميات، وكان لقائي الأول مع "الأمير" في صيف 1995 بقصره في الطائف حين ذهبت برسالة شفهية من "الرئيس" مرفق بها خارطة مقترحة لخطوط الحدود بموجب التفسير اليمني لاتفاقية الطائف الموقعة بين البلدين في مايو (أيار) 1934، سلمني إياها الدكتور الإرياني بحضور خبير في اللجنة الفنية للحدود تولى شرح الخطوط المتنازع عليها.. ثم تكررت لقاءاتي معه في قصره بجدة وبالرياض.
فجأة استدعيت لمقابلة "الرئيس" بعدن في شهر يناير (كانون الثاني) 1996، وأبلغني بحضور علي محسن الأحمر قراره بتعييني قائما بالأعمال في جنوب افريقيا.. وفي شهر مارس (آذار) غادرت الى بريتوريا لافتتاح السفارة وتدشين العلاقات بين البلدين، لكنني بقيت أغلب الوقت متنقلا منها الى صنعاء والرياض... وفي منتصف شهر يونيو (حزيران) 1996 اتصل بي "الرئيس" الى بريتوريا طالبا نقل رغبته الاجتماع بولي العهد "الأمير" عبدالله خلال القمة العربية بالقاهرة (22– 23 يونيو 1996)، فاتصلت فوراً ب"الشيخ" عبدالعزيز فقال بأنه لن يرافق "الأمير" ولكنه سيعمل على تحقيق الرغبة.. أبلغت صالح فطلب مني أن التقيه بالقاهرة خلال القمة.
لم يكن اللقاء المرتقب هو الرسمي الأول بين "الرئيس" و"الأمير" فقد قام ولي العهد بزيارة رسمية في سبتمبر (أيلول) 1986 بدعوة من الرئيس لحضور احتفالات عيد الثورة (26 سبتمبر)، ولكن المباحثات دارت في الأطر العامة للعلاقات بين البلدين، ولم تتشكل علاقة خاصة بينهما. خلال الزيارة التي كانت الأعلى مستوى لمسؤول سعودي الى اليمن، كان اللواء صالح عباد الخولاني (كان حينها وكيلا لوزارة الإدارة المحلية ثم محافظا لحضرموت وهو مثقف معروف بتواضعه الجم) مرافقا للشيخ التويجري، واتصل بي ليبلغني رغبة "الشيخ" ان ازوره في القصر الجمهوري حيث كان يقيم مع "الأمير"، وبالفعل ذهبت والتقيته في أحد قاعات القصر.. اطمأن على أحوالي وأحوال الأسرة، وعبر عن سعادة "الأمير" بالزيارة وحفاوة "الرئيس" وذكائه وبساطته.. ثم قال ضاحكا إن "الأمير" لم ينم طوال الليل بسبب الضوضاء القادمة من خارج المبنى.
سافرت الى القاهرة، وبعد ساعات من وصولي اتصل أحد مساعدي "الرئيس"، وقال "اذهب الى السفارة اليمنية" لألتقي صالح هناك، وكانت قريبة من سكني.. ذهبت وانتظرت وصول صالح وصافحته وطلب مني أن أذهب معه الى مقر اقامته في فندق ميريديان هيلوبوليس، حيث سكنت الوفود الرسمية.
كانت الأجنحة المعدة لنزول رؤساء الوفود صغيرة جداً، ولا تتسع لأكثر من 5- 6 أشخاص فأخذني صالح الى غرفة النوم وطلب مني تأكيد الموعد مع "الأمير".. اتصلت بصديق من أهم مستشاري ولي العهد المرافقين له وذهبت الى جناحه.. توجه المستشار الى الأمير وعاد ليبلغني بأن ولي العهد سيزور الرئيس في جناحه بعد انتهاء الجلسة المسائية، لكن صالح أصر انه سيزور الأمير، وانه يريد ان يكون اللقاء مقتصرا عليهما.. وعدت مرة أخرى الى المستشار الذي ذهب الى "الأمير" وعاد ليخبرني بأنه سيكون في انتظار "الرئيس".. بقيت في جناح صالح الى ان حان موعد اللقاء وذهب وبعد الانتهاء من التقاط الصور خرج المرافقون وبقيا لوحدهما.. في منتصف الليل اتصل صالح وشكرني على ما تم وطلب مني مرافقته الـي باريس اليوم التالي حيث قرر الذهاب للراحة قبل العودة الـي صنعاء... وفي الطائرة استدعاني الى مقصورته وشرح لي ما دار وأن "الأمير" أعطاه كافة ارقام هواتفه للتواصل وتبادل الأفكار حول كل ما يساهم في حل النزاع الحدودي.
بقى "الرئيس" أياما قليلة في باريس وعدنا الى صنعاء التي وصلناها فجرا، وقبل أن يصعد الى سيارته التفت الى الدكتور الإرياني وقال (ارسلوا أوراق ترشيح مصطفى سفيرا في البحرين)، كي يكون انتقالي بينه وبين "الأمير" أيسر وأسرع.. وهو ما حدث بعدها بأيام. بقيت في صنعاء حتى جاءت الموافقة على ترشيحي من البحرين في شهر أغسطس (آب) 1996، وكنت غالبا ما أتواجد عند "الرئيس" في مقيل القات الذي تعرفت فيه عن قرب على الكثيرين من كبار المسـؤولين وعلى أسلوب تعامله معهم وكذلك صرت أتفهم طريقة اتخاذه للقرارات وطريقه التهيئة لها، وكيف كان يتابع شؤون تسيير الحكم.
مع استقرار الأوضاع نسبيا واختفاء أي معارضة داخلية مؤثرة، تم ادخال تعديلات دستورية متتالية أعادت صالح حاكما منفردا بالقرار، وتم له الأمر بسهولة عبر مجلس النواب الذي تحول بعد حرب 1994 الى جهاز إداري لدى "الرئيس" بالتعاون مع الشيخ عبد الله الأحمر لتمرير ما يريده في غياب أي صوت فاعل، وتحول أعضاؤه الى موظفين عموميين، وفي شهر أكتوبر (تشرين أول) 1994 ألغي مجلس الرئاسة وعاد صالح رئيسا للجمهورية مرة أخرى لفترة رئاسية مدتها خمس سنوات.
استمر الوئام بين صالح وحزب "الإصلاح" الشريك الوحيد في الحكومة بعد انتهاء حرب 1994، الى ان اقترب موعد الانتخابات النيابية في شهر ابريل (نيسان) 1997 (كنت حينها قد انتقلت من بريتوريا للعمل سفيرا بالبحرين في شهر سبتمبر 1996)، وقررت اللجنة المركزية ل"الحزب" عدم الاشتراك في الانتخابات قبل معالجة آثار الحرب واستعادة ممتلكات "الحزب" وامواله وإعادة كافة المسرحين عسكريين ومدنيين الى مواقعهم التي ازيحوا منها بعد 7 يوليو (تموز) 1994، فقرر صالح القيام بزيارة مفاجئة الى ابوظبي حيث يقيم عدد من قيادات الحزب الاشتراكي بغية اللقاء بهم.. اتصل بي صالح الى البحرين وطلب مني ان اسبقه الى ابوظبي وان التقي الدكتور ياسين سعيد نعمان (اول رئيس لمجلس النواب بعد الوحدة) ومحمد سعيد عبدالله "محسن" (وزير سابق) وتأكيد رغبته الاجتماع معهما، وغادرت فورا الى أبو ظبي.
استكمل صالح لقاءاته الرسمية وشرح للمسؤولين الإماراتيين انه يعمل على مصالحة داخلية شاملة فتحمسوا للأمر وابدوا استعدادهم للمساهمة في إنجازها، وابدوا الحرص على اتمامها، وكان ذلك هو اللقاء الأول بينه وقيادات من "الحزب" الذين غادروا اليمن بعد الحرب واستقرت في الإمارات تحت رعاية الراحل الشيخ زايد، وخرج صالح بعده فورا الى المطار وقال لي اثناء خروجه (كان لقاء ممتازا. انتظر الى ان اتصل بك بعد عودتي لتتابع الأمر).
في صباح اليوم التالي لعودة "الرئيس" الى صنعاء بادرت بالاتصال به للسؤال عما قرره، فكان رده باردا بـأن أعود الى مقر عملي بالبحرين، ولما حاولت الاستفسار عن سبب التحول في موقفه لم يرد وأمرني بالمغادرة.. وبعدها اتصلت بالدكتور الإرياني الذي اخبرني بأن "الإصلاح" والشيخ" و"علي محسن" لم يتحمسوا لفكرة دخول "الحزب" الانتخابات رغم ان الغرض الحقيقي من جر "الحزب" لها هو تصفيته "ديموقراطيا" الا انهم خشوا الا ينتهي الأمر بحسب ما يرغبون.. وكان الشهيد جار الله عمر مصرا على خوضها الا ان اغلبية أعضاء اللجنة المركزية عارضت قبل استكمال شروطها الموضوعية باتخاذ إجراءات جادة لضمان نزاهتها وتحييد المال العام، وكذلك مطالبات "الحزب" لتطبيع الحياة السياسة وإلغاء كل الإجراءات التي تم اتخاذها ضده، وهكذا جاءت الانتخابات لتعمق الجراح التي خلفتها الحرب.. ومن المهم القول ان الكتلة الجنوبية التي تحالفت مع صالح في حرب 94 لم تكن هي ايضا تحظى بقوة شعبية في الجنوب.. وكان ابرز نتائج الانتخابات انها قلصت حاجة صالح للاستمرار في تحالف الحرب مع حزب الإصلاح، لكنها لم تؤثر كثيرا على علاقته مع رئيسه الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر فأعاده رئيسا للمجلس الجديد.
توثقت العلاقة المباشرة بين "الرئيس" و"الأمير" فصارت زياراتي الى الرياض اقل، وفي منتصف شهر رمضان 1419 (يناير 1999) استدعاني صالح وسلمني خارطة فيها الخطوط المقترحة من الجانب اليمني وطلب عرضها على "الأمير".. عدت الى البحرين واتصلت بأحد مستشاري ولي العهد وأخبرته بموعد وصولي الـى الرياض، وبالفعل غادرت البحرين في اليوم التالي.. لكن المفاجأة كانت ان المستشار اخبرني بأن "الأمير" كان يتحدث مع "الرئيس" في الليلة الماضية ولمح له عن وجودي، الا ان صالح - بحسب ما اخبرني المستشار – لم يؤكد له انني مبعوثه وأن الأمير غاضب وصار يشك في مصداقيتي، وان علي ان اتواصل مع "الرئيس" ليتصل بالأمير ويخبره بأني موجود في الرياض مبعوث من طرفه.
اتصلت بصالح وقلت له ان هذا التصرف يحرجني ويعطل مهمتي في وقت اسعي فيه للمساهمة في تسهيل التواصل بينه و"الأمير" للتوصل الى حلول مرضية للطرفين، فرد بأنه لم يقصد ذلك!.
بعد منتصف الليل اتصل بي المستشار ليخبرني أن صالح أجرى اتصالا بالأمير تم الإعلان عنه في وسائل الاعلام السعودية، وانه سيمر علي ليصحبني الى قصره بالرياض.
(وللحديث بقية).