تمسكت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بكبير مستشاريه الطبيين ومدير المعهد الوطني الأميركي للحساسية والأمراض المعدية أنتوني فاوتشي في وجه مطالبات من بعض الجمهوريين باستقالته. وليس الدكتور فاوتشي بجديد على الجدل العام منذ بداية وباء فيروس كورونا مطلع العام الماضي، فقد كانت معارضته للرئيس السابق دونالد ترمب، بخاصة عندما تصل تصريحات الرئيس إلى حد الشطط في ما يتعلق بالفيروس، مادة خصبة للإعلام.
وكاد ترمب يقيل فاوتشي خلال عام الوباء، وأحاط نفسه بمجموعة من المستشارين الذين يوافقونه الرأي حتى لو خالف ذلك أبسط قواعد العالم والطب. لكن فاوتشي، الذي يُعدّ أكبر مسؤول طبي وعلمي في الولايات المتحدة في ما يخص الأمراض المعدية بخبرته على مدى عقود، تمكّن من الاستمرار بالابتعاد عن أي تصريحات صدامية مع ترمب بالنسبة إلى إجراءات الصحة العامة الخاصة بـ"كوفيد-19".
الجديد، هو نشر وسائل إعلام أميركية لرسائل البريد الإلكتروني (إيميلات) الخاصة بأنتوني فاوتشي منذ بداية العام الماضي حتى الصيف، إذ حملت اليمينية منها وتصريحات أعضاء في الحزب الجمهوري، دعوات لإقالته، متهمة إياه بالمساهمة في التغطية على مسؤولية الصين عن تسرّب الفيروس من معمل في ووهان، حتى إن دونالد ترمب أصدر بياناً ضده كرر فيه كل ادعاءاته غير العلمية التي سبق ورددها في وقت قمة أزمة الوباء والتي أذكت نظريات المؤامرة والتفسيرات الخرافية.
تسريب إيميلات
دافع فاوتشي عن بعض الجمل التي نقلها أنصار ترمب وأصحاب نظريات المؤامرة من الإيميلات المنشورة، موضحاً أنها "أُخذت خارج سياقها" بغرض إساءة تفسير موقفه. وبغض النظر عن دفاعه، فإن متابعة ما نشرته "واشنطن بوست" و"بزفيد" و"سي أن أن" من الإيميلات يتّسق تماماً مع الموقف العلمي والطبي في كل أنحاء العالم عند بداية الوباء.
أولاً، ذلك فيروس جديد غير مسبوق ولا يعرف عنه العلم والطب شيئاً. بالتالي كان من الطبيعي أن يغيّر العلماء آراءهم الأولية كلما تقدم البحث في معرفة تركيب الفيروس وطرق انتشاره وأضراره بالجسم البشري، بالتالي أفضل السبل للوقاية منه والحد من انتشاره. حدث ذلك في بريطانيا، الأكثر تقدّماً علمياً في عزل وتحليل التركيب الجيني للفيروسات، وفي غيرها من دول العالم.
أما اتهامات أنصار ترمب لفاوتشي بشأن استخدام أغطية الوجه، فهو في الواقع يتّسم بالبجاحة الفجة. فما نقل من إيميلات فاوتشي لجهة قوله في رسالة إلى طبيب آخر إن الكمامة يلبسها المريض كي لا يصيب الآخرين بالعدوى، لكنها لا تقي من يرتديها من الإصابة. وهذا صحيح تماماً علمياً، وحتى بالنسبة إلى المصابين لا تمنع أغطية الوجه نقل العدوي كلّياً لكنها تقلل من ذلك الاحتمال. وهذه هي الحكمة من وراء استخدام أغطية الوجه (الأنف والفم) في الأماكن المزدحمة حيث لا يمكن تجنّب الاقتراب من الآخرين. أما في الأماكن المفتوحة وبعيداً من الناس، فالأفضل أن يرتدي المرء غطاء الوجه. تلك أبسط قواعد الصحة العامة التي يعرفها أي طبيب، حتى لو لم يكن متخصصاً في الأمراض المعدية أو علم الفيروسات.
من المستبعد أن يجد أحد في تلك الإيميلات ما يمكن أن يؤسس لإدانة أنتوني فاوتشي وإقالته، على الأقل علمياً. وهناك سوابق كثيرة في نشر إيميلات لم تؤدِّ إلى شيء، ربما كان أشهرها إيميلات وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون التي احتوت في بعضها على ما يشير إلى إهمال شديد في قضية تفجير السفارة الأميركية في ليبيا التي سقط نتيجته ضحايا أميركيون. ومع ذلك لم يكُن أي من أدلة الإيميلات كافياً لإقامة دعوى من أي نوع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صناعة الفيروس
الجملة الوحيدة التي يستند إليها مؤيدو ترمب في الحملة على الطبيب هي ما ورد في رسالة بينه ومسؤول في جمعية خيرية أميركية تموّل نشاطات مختبر الفيروسات الصيني في ووهان بأموال مصدرها مؤسسة صحية أميركية. وفيها يشكر المسؤول، فاوتشي على عدم مشاركته في الادعاء بأن الصين صنعت الفيروس في مختبر ووهان وأطلقته إلى العالم.
ولم يختلف رأي فاوتشي عن رأي غالبية العلماء حول العالم حتى الآن، بما في ذلك منظمة الصحة العالمية، في ضوء ما هو متوافر من معلومات. فالكل يرجح أنه فيروس انتقل من الحيوانات إلى البشر، من دون استبعاد فرضية تسرّبه عن طريق الخطأ من مختبر فيروسات يجري أبحاثاً على فيروسات العائلة الهلالية (كورونا). أما نظرية المؤامرة التي يتبنّاها أنصار ترمب بأن الصين صنعت الفيروس لتصيب به العالم، فتبدو في غاية الشطط.
أما تعبير فاوتشي في بداية انتشار الوباء بأن الهوس أصاب كثيرين عن خطر تسييس وباء كورونا، فلم يكن سوى تقرير واقع يتذكره الجميع.
خطورة موقف فاوتشي من مسألة أصل الفيروس أن الكشف عن ذلك في إيميلاته يأتي في وقت تتزايد الدعوات إلى التحقيق في مصدر الفيروس، واتهامات للصين بأنها أخفت الحقيقة عمداً. لكن تلك الدعوات، بخاصة طلب الرئيس بايدن من أجهزة الاستخبارات إجراء تحقيق لمعرفة مصدر الفيروس، جاءت بعد ما نشرته مجلة "فانيتي فير" في تحقيق لها هذا الأسبوع، إذ ذكرت أن مسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية كانوا يناقشون مسألة أصل فيروس كورونا في 9 ديسمبر (كانون الأول) 2020 حين طُلب منهم عدم الخوض في موضوع تجارب معينة في مختبر ووهان حتى لا يلفتوا الانتباه إلى تمويل الحكومة الأميركية لتلك التجارب.
هذه هي المسألة الحقيقية التي يمكن أن تجلب أنتوني فاوتشي، عبر الإيميلات بينه والمنظمة الخيرية التي تستخدم كغطاء لتمويل تلك التجارب. ومن غير الواضح إن كان فاوتشي على علم بتلك التجارب أو لا، وهي تجارب على الفيروسات المسببة للأمراض تتعلق بتغيير بعض الصبغات الوراثية فيها المسؤولة عن انتشارها واستهدافها للبشر (ما يعني إمكانية جعلها أكثر قدرة على الانتشار وضراوة في المرض).
نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الشهر الماضي تقريراً عن أن ثلاثة من العاملين في مختبر ووهان للفيروسات مرضوا ونقلوا إلى المستشفى في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 – أي قبل الكشف عن وباء فيروس كورونا. فتقرير "وول ستريت جورنال"، ثم تحقيق "فانيتي فير"، وراء مطالبة أجهزة الاستخبارات الأميركية والبريطانية بالبحث في مصدره وإن كان تسرّب فعلاً من مختبر ووهان.
يطالب نائب زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس النواب بالكونغرس ستيف سكاليس بمثول د. أنتوني فاوتشي أمام الكونغرس لسماع شهادته حول "دور الحكومة الأميركية في تمويل أبحاث قد تكون أسهمت في تصنيع الفيروس المستجد".
في هذه الحالة، ستجد إدارة بايدن نفسها بين شقّي رحى: عدم السيطرة على مسألة تصنيع الفيروس ودور أميركي في ذلك، والتمسك بأنتوني فاوتشي في ظل الحملة عليه من أنصار ترمب ومروجي نظريات المؤامرة حول "كوفيد-19". ومع أن إدارة بايدن تعمل منذ أول يوم لتولّيها السلطة في 20 يناير (كانون الثاني) الماضي على محو آثار "الترمبية السياسية" عبر قوانين وأوامر تنفيذية رئاسية، إلا أنها ستظل تلاحقها على ما يبدو. أما المشكلة الأخرى أمام واشنطن، فهي ما يمكن وصفه بحالة "الفاوتشية"، أي التمسك بالرأي الفني – العلمي والطبي – في مكافحة وباء كورونا أو الانصياع لحملة قوية من معارضيها السياسيين.