غوما ثائر ليبي من أبناء القرن الـ 19، حارب جند الدولة العثمانية، عندما عادت إلى احتلال بلاده عام 1830، بدعم من الإمبريالية الفرنسية والبريطانية. وقد ألّف الأستاذ علي مصطفى المصراتي كتاباً عن سيرة غوما المحمودي هذا، كان أساساً للمسرحية التي كتبها المصري الدكتور مصطفى محمود، وقدمها المسرح القومي المصري في أول سبعينيات القرن الـ 20، وفازت بالجائزة في مهرجان دمشق للمسرح العربي.
لكن هنا لا يهمنا كل ذلك، لأن غوما الذي يعنينا ورد اسمه بشكل عابر، في مثل شعبي ليبي "لو كان غوما عمار، عمر سواني بلاده". هذا هو المثل بالحرف، مدلوله ولسان حاله تساؤل استنكاري، أن غوما لم يعمر حقول بلاده، فكيف يمكن أن يطمع أحد فيه كمعمّر؟
كنت شخصياً كلما سمعت المثل تذكرت الالتباس، الذي يثيره مصطلح استعمار، الذي استخدمته الدول الغربية في توصيف نفسها، لما هي فاعلة في البلدان التي احتلتها. وقد أكد ذلك جلّ مفكري أوروبا المستنيرين، كما وضح إدوارد سعيد في كتابيه "الاستشراق" و"الثقافة والإمبريالية"، وهو مبحث أسهم به وفيه تيار فكري عُرف بـ "ما بعد الاستعمار". وكانت تلكم مفارقة، اختزلها المثل الليبي، في صيغة تساؤل استنكاري تهكمي، من دون قصد أو علاقة بالاستعمار، ولا بـ "إعادة الإعمار" لازمة ما بعد الاستعمار، التي تلوكها الألسن خلال العقود الأخيرة، إذ تنشط سبل إشعال الحروب في العالم غير الأوروبي، بخاصة الشرق الأوسط، الذي يعيش حروباً متنوعة الحجم والوزن والقيمة منذ نهاية الحرب الكبرى الثانية.
حرب تنطح حرباً، منها حروب أشعلتها دولة دينية، مسوّرة ولكن لا حدود لها، تتوسع من أجل أن تكون دولة اليهود الصهاينة، ومنها حروب أهلية، وكذا دولية أميركية ضد الإرهاب الدولي... وهلم جرا. وفي كل حرب من هذه، وبعيد كل معركة، بل وقبيل ذلك، تنهض دعاوى "إعادة الإعمار". وإذ لا يصح إلا الصحيح "لو كان غوما عمار، عمر سواني بلاده"، أي لو كان قائد أو"قايد" أي مشعل الحرب عماراً، لما كان ثمة داع لـ"إعادة الإعمار" بالأساس، فقادة الحرب البرانية والحرب الجوانية، كلاهما "غوما" من ليس عماراً، وإلا لكان قبل صانع السلام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والغريب الغريب أن الحرب تتداعى، فمن لزوم ما يلزم أن الحرب تهدم، مما يلزم إعادة الإعمار، ما يستدعي عراكاً حوله، وقد يقيم حرباً، فالدول دول النفوذ والمصالح التي تخوض حروباً بالوكالة، نعم تعود فتخوض حروباً لجني مما حرثت، فمثلاً تجعل من "إيران" بالحرب السبرانية "نيران"! ثم تتقدم لأجل إعادة إعمارها لدواع إنسانية، وكذا تفعل في أفغانستان الحروب الضروس ضد طالبان، التي أعادت البلاد إلى ما قبل التاريخ، ثم تعود تسلمها البلاد ثانية، بانسحاب استراتيجي، على الأقل مظهره هزيمة فادحة، للقوة العظمى أمام منظمة قروسطية!
الآن على طاولة "إعادة الإعمار" البلدان التالية، العراق وسوريا الصومال وليبيا وقطاع غزة وجنوب لبنان، تقريباً أفريقيا برمتها وغيرها. وعند إعادة الإعمار تتداعى القوى الداعية لذلك، فأفريقيا حلبة ملاكمة ثقيلة، بين الصين وأميركا وأوروبا وملحقاتها من روسيا وتركيا، والعراق حلبة آسيوية تجعل منها إيران وتركيا استحقاقاً للحرب وإعادة الإعمار، هكذا دواليك من خاض الحرب، يبتغي حصة في الكعكة، التي ذهبت نهباً بين قادة الفساد ودول تحصد ما زرعت.
هذا ما جعل في ليبيا، مثلاً، رئيس الحكومة يعيش في طائرة متنقلة بين العواصم، كما جعل وزير الخارجية الإيطالي مقر إقامته تقريباً في العاصمة الليبية. طرابلس الغرب التي مطارها (مطار معيتيقة) أنقذه الحظ المحض، من فواعل ميليشيات فجر ليبيا المدمرة، تحول إلى مطار لاستقبال قادة الاتحاد الأوروبي وقادة دوله تتبعها دول الجوار. زرافات ووحداناً يتدافعون من أجل "إعادة الإعمار"، فماذا حصل؟ حصل أن عاد الحال إلى سابق حاله، وهذا التدافع انعكس في الداخل، بحالة تراجع عن خريطة مؤتمر برلين، الذي انعقد في يناير (كانون الثاني) 2020، وألمانيا نفسها التي دفعت بمؤتمر آخر يُعقد في 23 يونيو (حزيران) الحالي.
أما في قطاع غزة فالمشكلة الفلسطينية، والحرب في الأيام الفائتة، اختزلا في حلّ سحري يدعى كما قبل وبعد إعادة الإعمار. وعلى الرغم من أن غوما ليس فلسطينياً، لكن حركة "حماس" فلسطينية ويصدق فيها المثل الليبي، فإسرائيل كما قبل وبعد، ستعمل من أجل الاستحقاق الأوحد، إعادة الإعمار، من أجل إعادة الهدم، ومن كُتبت عليه خُطى مشاها.