في خطوة نادرة تعكس خطورتها، أقرّ مجلس الشيوخ الأميركي المنقسم دوماً بغالبية كبيرة من الحزبين مشروع قانون يخصص نحو 250 مليار دولار لتعزيز قدرة البلاد على منافسة الصين علمياً وتكنولوجياً، والحفاظ على قيادتها للعالم خلال أجيال أخرى مقبلة، فما تفاصيل هذه الخطة التي وفّقت بين الخصمين اللدودين الجمهوريين والديمقراطيين؟ وهل تكفي هذه الأموال لتحقيق هدفها أم أن الصين تنفق أيضاً ببذخ ومن الصعب حسم المعركة بسهولة؟
يقظة متأخرة
على الرغم من بعض الاعتراضات من الجمهوريين، تمكّن مجلس الشيوخ الأميركي من تمرير مشروع قانون بدعم من الحزبين، يخصص ربع تريليون دولار لدعم المشاريع التكنولوجية والبحوث العلمية بهدف جعل الولايات المتحدة أكثر قدرة على التنافس مع الصين، بعدما تبيّن خلال الفترة الأخيرة أن قطاع التكنولوجيا لديها بما في ذلك صناعة أشباه الموصلات والروبوتات والذكاء الاصطناعي تأخر كثيراً عن بكين، وأصبح من اللازم ضخ أموال حكومية ضخمة في البحث والتطوير، على أمل أن يُبقي ذلك أميركا رائدة التقدم التكنولوجي في العالم لأجيال أخرى مقبلة.
ويعكس تمرير مشروع القانون بموافقة الحزبين تجاوزاً للانقسامات الحزبية السابقة بشأن الدعم الحكومي للصناعات الخاصة، وهذا وحده دليل على أن المنافسة الصناعية والتجارية والعسكرية مع بكين أصبحت واحدة من القضايا القليلة التي يمكن أن توحّد الحزبين السياسيين الديمقراطي والجمهوري.
تحول لافت
ويرى كثير من الخبراء أنه تحوّل لافت بشكل خاص بالنسبة إلى الجمهوريين، الذين يقتفون أثر الرئيس السابق دونالد ترمب، ويتجاهلون معارضة حزبهم الشديدة مبدأ التدخل الحكومي في الاقتصاد، بعدما تبنّى الطرفان استثماراً هائلاً في تصنيع أشباه الموصلات وأبحاث الذكاء الاصطناعي والروبوتات ومجموعة من التقنيات الأخرى.
لكن المؤيدين لمشروع القانون، يرونه عملاً يائساً، لكنه ضروري، فبحسب تشاك شومر، زعيم الغالبية في مجلس الشيوخ، يمكن للديمقراطيات التي تتصارع فيها الأحزاب مثل الديمقراطية الأميركية أن تستثمر في ما تعتبره أولوية وطنية بالطريقة ذاتها التي تعمل بها حكومة مركزية وسلطوية، لأن الولايات المتحدة لن تسمح للصين بتولّي القيادة الاقتصادية العالمية وامتلاك الاختراعات والابتكارات.
هل تضحك الصين؟
وعلى الرغم من توافق عدد من الجمهوريين على مشروع القانون، فإن البعض الآخر يعترض على جانب ثانٍ، مثل السيناتور الجمهوري راند بول الذي يعتبر أنه سيزيد من إغراق أميركا في الديون، ويتصور أن الصينيين يضحكون على الولايات المتحدة الآن، لاعتقادها أنها ستكون الأقوى من خلال اقتراض مزيد من الأموال من الدولة الآسيوية.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الجدل حول تمرير مشروع القانون كان ممزوجاً بإشارات وتحذيرات أشبه بتلك التي انتشرت زمن الحرب الباردة، من حيث إن الفشل في دعم المشروع سيجعل الولايات المتحدة تعتمد في المستقبل بشكل خطير على خصمها الجيوسياسي الأكبر وهو الصين.
عقائد قديمة
بعض الجمهوريين وإن رفضوا تكاليف مشروع القانون الذي يشمل دعماً بقيمة 52 مليار دولار لشركات أشباه الموصلات، وبرنامجاً لإنفاق 195 مليار دولار أخرى في البحث العلمي والتطوير، إلا أن السيناتور الجمهوري تود يونغ الذي شارك في طرح مشروع القانون، انتقد المعترضين، قائلاً إن المعتقدات الأيديولوجية التقليدية لحزبه جرفتها حقيقة أن الحكومة الصينية تموّل شركاتها الوطنية مثل "هواوي"، عملاق الاتصالات التي أصبحت تمدّ الدول حول العالم بشبكات 5 جي، بما يسمح لها بإعادة هذه الاتصالات إلى بكين على حد قوله، ولهذا لا بد من التخلي عن العقائد القديمة، لأن العالم تغير، واقتصاد الولايات المتحدة تغير، واختلفت الحاجات الأميركية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفيما يُعدّ التوافق بين الحزبين غريباً في عصر الاحتراب الحزبي، فإن بعض الأمور المتعلقة بالتهديد الخارجي لا تتغير أبداً، وهو ما عكسته تصريحات السيناتور الجمهوري جون كورنين الذي أرجع هذا التوافق بين الحزبين إلى أن الصين لم تترك خياراً آخر أمام الأميركيين سوى الدفع إلى تسريع هذه الاستثمارات، بينما ركز السيناتور الديمقراطي مارك وارنر، رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، على تحركات بكين للسيطرة على شبكات الاتصالات العالمية، محذراً من أنه من دون صناعة محلية قوية، لن يكون لدى الولايات المتحدة أي وسيلة لإغراء الحلفاء بالابتعاد عن الموردين الصينيين.
الصين أم اليابان؟
كما ابتعد من تبنّوا مشروع القانون عن استخدام عبارة "السياسة الصناعية"، لإدراكهم أن ذلك من شأنه إحياء نقاش دام 30 عاماً حول ما إذا كانت الحكومة تختار أطرافاً من دون أخرى أو تدافع عن صناعات معينة من دون غيرها، وهو نقاش يعود إلى أيام إدارة ريغان، عندما بدا أن أكبر تهديد لصناعات أشباه الموصلات والسيارات في أميركا هو اليابان، وبدأت الحكومة الفيدرالية تقديم بعض المبادرات الصغيرة، بما في ذلك مبادرة تُسمّى "سيماتك" لتنشيط صناعة أشباه الموصلات والتي انتهت قبل ربع قرن.
غير أن أحد الاختلافات حول الجدل الذي دار في الثمانينيات هو أن اليابان منافس صناعي، لكنها كانت حليفاً عسكرياً أيضاً، أما الصين فهي منافس جيوسياسي صاعد، وأدى ذلك إلى تغيير طبيعة النقاش هذه المرة في أروقة الكونغرس، فلم يجادل أحد في الثمانينيات بأن طوكيو ستستخدم أكبر شركاتها كأداة للمراقبة أو كسلاح حرب محتمل، وهذا هو بالضبط مصدر القلق بشأن بكين بين غالبية القيادات السياسية في الولايات المتحدة.
انفصال متوقع
الأمر المثير للانتباه في التشريع الجديد، أن المشاريع التي ستحظى بتلقّي تمويل وفقاً لمشروع القانون تسير بشكل متوازٍ مع تلك الموجودة في برنامج "صنع في الصين 2025" الذي أطلقته بكين قبل 6 أعوام، ويوجه الإنفاق الحكومي الضخم إلى التقنيات التي تسعى البلاد إلى تحقيق الاعتماد الذاتي فيها والاستقلال عن الموردين الخارجيين مثل الولايات المتحدة.
والنتيجة، كما يقول عدد من الخبراء، هي أن مشروع القانون الأميركي ربما يسرّع الانفصال بين أكبر وثاني أكبر اقتصادات العالم، حتى مع استمرار القلق لدى كل منهما بشأن مدى اعتماده على الآخر، ذلك أن بكين تخشى أنها ستعتمد لأعوام أخرى مقبلة على مصادر أجنبية للحصول على برامج مطورة والرقائق التكنولوجية الأكثر تقدماً، بينما تتخوف واشنطن من أن سيطرة الصين على تكنولوجيا الجيل الخامس 5 جي، ستمنح بكين القدرة على قطع الاتصالات الأميركية.
ولعل أولى ملامح هذا الانفصال بين الاقتصادين تبدّت في الخطوة التي اتخذها الرئيس جو بايدن الأسبوع الماضي، عندما أصدر أمراً تنفيذياً يمنع الأميركيين من الاستثمار في الشركات الصينية التي تدعم الجيش الصيني، أو التي تصنّع تكنولوجيا المراقبة المستخدمة في عمليات قمع عرقي أو ديني.
مفارقات الدعم الحكومي
الغريب أن مشروع القانون الجديد نال التأييد الحزبي والحكومي في الولايات المتحدة بعد أعوام من اعتراض واشنطن على المساعدات والإعانات التي تقدمها حكومات الدول الأخرى للشركات الصناعية، مثلما حدث مع شركة "إيرباص" في فرنسا أو "هواوي" في الصين، ما يثير دهشة كثير من الخبراء الذين عايشوا محاولات الحكومات الأميركية السابقة معاقبة الصين على سياساتها الصناعية، ثم تأتي الولايات المتحدة الآن بعد أعوام من الاعتراض لتنفيذ ما تفعله هذه الحكومات بالضبط.
غير أن مشروع القانون كان هبة من السماء لأعضاء جماعات الضغط التي تعمل لصالح الشركات، فعلى سبيل المثال سيكون هناك قدر من التمويل مخصص لوكالة "ناسا" بما سيفيد مشروع الملياردير جيف بيزوس الفضائي، وهناك بند آخر في مشروع القانون من شأنه أن يضاعف الموازنة السنوية المخصصة للبحوث الدفاعية المتقدمة التابعة للبنتاغون.
أشباه الموصلات
ويهدف تمويل صناعة أشباه الموصلات وتطويرها إلى تعزيز مكانة وقدرات المصنعين المحليين في الولايات المتحدة، وجذب أفضل الشركات المصنعة الأميركية والأجنبية لإنتاج وتطوير أشباه الموصلات من أجل فتح تصنيع جديد ومتقدم في البلاد.
وعلى سبيل المثال، أعلنت شركة "إنتل" في مارس (آذار) الماضي، وهي شركة رائدة في تكنولوجيا تشغيل أجهزة الكمبيوتر الدقيقة التي تراجعت قوتها قليلاً، أنها ستستثمر 20 مليار دولار لبناء مصنعين جديدين خارج مدينة فينيكس الأميركية، حيث تتمتع بالفعل بحضور كبير هناك.
ومن المنتظر أن تتمكّن شركة "إنتل" من صناعة أشباه موصلات لمصنّعي الرقائق الآخرين، المعروفين بإنتاج الرقائق باسم "المسابك"، إذ إن أكبر مسبك على الإطلاق تديره شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات، وهي شركة توفر عدداً كبيراً من أشباه الموصلات لهواتف الجيل الخامس وغيرها من التقنيات الخليوية العالية السرعة.
المورد المزدوج
غير أن الشركة التايوانية تواجه وضعاً غريباً فرضته أحوال السوق، فهي تزوّد الشركات المصنِّعة في الصين بأشباه الموصلات من معملها في تايوان، وتزوّد أيضاً الولايات المتحدة والغرب عموماً بها، ما جعلها تلعب دور المورد المزدوج في الصراع بين بكين وواشنطن حول الحفاظ على الاستقلال الفعلي لتايوان في وقت يتزايد القلق من أن يحاول الرئيس الصيني شي جينبينغ الاستيلاء على الجزيرة بالقوة.
غير أن مسؤولي الاستخبارات الأميركية يعتقدون أن بكين مترددة في اتخاذ مثل هذه الخطوة جزئياً، بسبب المخاوف من احتمال تدمير خطوط تصنيع الشركة خلال غزو الجزيرة، وهي نتيجة من شأنها أن تقلب الكثير من استراتيجية تصنيع الكمبيوتر والاتصالات في البلاد.
جذب الشركات الأجنبية
ونظراً إلى هذه التعقيدات وعدم الرغبة بالاعتماد على تلك الحسابات الجيوسياسية، بدأت إدارة ترمب في العام الأخير من ولايتها باستمالة تايوان كي تبني منشآت أكبر لأشباه الموصلات على الأراضي الأميركية، وهو ما تقول الشركة إنها بدأت بالفعل بناء مصنع لإنتاج الرقائق وأشباه الموصلات المتقدمة في منطقة فينيكس.
ووفقاً لمشروع القانون الأميركي الجديد، سيذهب جزء من التمويل نحو إقناع الشركات الأجنبية المصنعة لأشباه الموصلات بفتح منشآت لها في الولايات المتحدة، وهو نهج مشابه للنهج الذي اتبعته الصين، لكنه أحرز تقدماً ضئيلاً نسبياً.
وخلال زيارة الرئيس الكوري الجنوبي إلى البيت الأبيض الشهر الماضي، التزمت كل من سيول وواشنطن مشاريع مشتركة لأشباه الموصلات والبطاريات المعقدة المستخدمة في السيارات الكهربائية. لكن لم تكُن هناك إعلانات عن استثمارات ملموسة من الشركات الكورية الجنوبية، وهو مؤشر إلى أن جذب الشركات المصنعة الأجنبية سيظل يمثّل تحدياً بالنسبة إلى الولايات المتحدة، لاعتبارات أخرى تتعلق بعوامل السوق.
من المستفيد؟
وبالنسبة إلى الشركات الأميركية، هناك بوادر توتر حول من سيستفيد، لكن من أبرز الشركات الرائدة في صناعة الرقائق الإلكترونية، التي يمكن أن تتلقّى الأموال وفقاً للقانون الجديد حال موافقة مجلس النواب وتوقيعه من الرئيس بايدن، "ميكرون تكنولوجي" و"تكساس إنسترومنت".
وعلاوة على ذلك، كشف النقص في الرقائق الذي أصاب صناعة السيارات الأميركية وأعاق الإنتاج، عن خلافات حول أنواع أشباه الموصلات التي يجب أن تمولها الحكومة الفيدرالية الأميركية، إذ يحتاج صانعو السيارات إلى رقائق تشغّل خرائط لوحة القيادة وتراقب عمليات المحرك.
غير أن إعطاء الأولوية لصناعة السيارات يمكن أن يأتي على حساب الاستثمار في مزيد من أشباه الموصلات المتطورة، تلك التي تستخدم أصغر الدوائر الكهربائية، التي ستعمل على تشغيل منتجات الجيل المقبل.
لكن، بينما النقاش محتدم في الولايات المتحدة حول القانون الجديد، تراقب الصين من بعيد كل هذه التطورات، ولا شك في أنها تعيد تقييم الموقف وتتحسب لخطواتها المقبلة في الصراع التكنولوجي مع الولايات المتحدة، ومَن سيتمكّن من الفوز في النهاية بهذا السباق الطويل.