لم يكن مستغرباً أن تفشل حركتا "فتح" و"حماس" في التوصل لاتفاق حقيقي متماسك في ظل ما جرى قبل بدء المفاوضات في القاهرة، والتجاوب المباشر مع الدعوة المصرية لبدء المفاوضات بهدف تهيئة الأوضاع لمصالحة مبدئية تنهي حالة الانقسام والبدء في المرحلة التالية في ظل حالة من الزخم الكبير بعد انتهاء العمليات العسكرية ووقف إطلاق النار بين حركة "حماس" وإسرائيل. والواضح أن نتائج ما جرى عكستها الحالة السياسية والاستراتيجية للمفاوضات، حيث تباينت الرؤى والمطالب والأهداف، بل والطموحات، في استثمار ما يجري والعمل على توظيفه، خصوصاً من قبل "حماس" التي خرجت من المواجهة مع إسرائيل بحسابات مختلفة، وأصبحت الرقم الأصعب في المعادلة الفلسطينية، وهو ما جعل "فتح" تراجع أيضاً أطروحاتها، وتركز على ثوابت التحرك والدعوة لحكومة وحدة وطنية والاصطدام مع حركة "حماس" التي أبدت شروطاً لم تعلن على الملأ حال قبولها دخول منظمة التحرير الفلسطينية ضمن المنظمات الأخرى.
أولويات "حماس"
سعت "فتح" في استثمار مرحلة المواجهة مع إسرائيل، وتأكيد أنها باتت المرجعية الرئيسة التي لا يمكن استبعادها من أي مسارات للتعامل، وهو ما جعل رئيس حركة "حماس" في الداخل يحيى السنوار يخرج منتقداً منظمة التحرير الفلسطينية، ووصفها بأنها ليست أكثر من صالون سياسي، الأمر الذي نقل رسالة حقيقية بأن "حماس" لا تريد دخول المنظمة أصلاً، وأنها تسعى لطرح مقاربة جديدة، بل وإملاء شروطها على كل الأطراف، وهو ما يعني أن الحركة جاءت للقاهرة برؤية مختلفة طرحتها مسبقاً وقبل الانخراط الحقيقي في التفاوض. وهو ما كان يجب الانتباه إليه مبكراً، خاصة أن الرجل الثاني في الجناح العسكري، مروان عيسى، خرج أيضاً على الملأ لينشر تفاصيل ما جرى في صفقة جلعاد شاليط، بل وأعلن مضابط الجلسات، وزج باسم وزير الاستخبارات المصري الأسبق عمر سليمان في إشارات لها دلالاتها، وهو ما كان يعني التربص بما سيجري.
والواقع أن القاهرة كانت قد دخلت على خط صفقة تبادل الأسرى مجدداً، وعملت على تطوير مسار التحرك، وكان مخططاً أن يأتي للقاهرة وفد إسرائيلي للبدء جدياً في تنفيذ الصفقة وتفكيك عناصر الأزمة بين الجانبين، وهو ما كان موضوعاً على الأولويات، خاصة مع بدء "حماس" في الإعداد لتنفيذ الصفقة، ولم تكن القضية في العدد (1111)، وإنما فيما تضمنته من أسماء كبيرة باعتبارها الصفقة الأشمل والأهم، إضافة إلى أنها الصفقة التي ستعيد تقديم "حماس" إلى الساحة السياسية في رام الله وغزة، ولم تكن المشكلة في اسم مروان البرغوثي أو قيادات حركية في الجبهة الشعبية أو الديمقراطية، بل أيضاً في فصائل أخرى، والرسالة أن هناك أولويات عملت عليها "حماس"، إضافة أيضاً لإطار التعامل وفق مرجعية سياسية جديدة، حيث كانت تسعى لإتمام الانتخابات التشريعية للسيطرة على مقاعد المجلس التشريعي، والمجلس الوطني بخاصة، وتركت الانتخابات الرئاسية لم يقرر ولم تضعها في أولوياتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كل هذه التوجهات لـ"حماس" حملتها إلى القاهرة، وعملت على التصعيد ومحاولة تحقيق المكاسب الكبرى والعمل من أعلى. وهو ما فهم على أنه رسالة سياسية حقيقية ولن تتخلى عنها أبداً، وأنها ستعمل على تنفيذها دون إنصات من قبل أي طرف، بما في ذلك مصر، وأنها سعت لنقل المشهد لأطراف أخرى، مثل إيران وقطر، وهو ما عقد المشهد، خصوصاً أن التحرك المصري الدولي في مشروع الإعمار قوبل أيضاً بتحفظات من الحركة، حيث سعت بالفعل إلى تأكيد حضورها في برنامجه، وهو ما كان محل تحفظ حقيقي من قبل إسرائيل، بل ومن مؤسسات مانحة سعت إلى توسيع دائرة التعامل، الأمر الذي مثل إشكاليات حقيقية أمام أهداف الحركة ومخططها الرئيس في إدارة المشهد، وأن تكون فيه الرقم الأول والأخير مع نفي دور "فتح" ومحاولة طرح رؤية صدامية في جملة من التفاصيل التي فوجئت بها القاهرة، ولم تتحسب لمخاطر طرحها حركة "حماس".
أولويات "فتح"
جاءت حركة "فتح" برؤية مباشرة، وهي تشكيل حكومة وحدة وطنية كأساس للتحرك والانتقال من وإلى الخطوة التالية، ووفق أولوية سبق أن كررها الرئيس محمود عباس عشية إلغاء الانتخابات، وهي التركيز على تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم كل القوى الفلسطينية، على الرغم من إدراك حركة "فتح" أن هذه الحكومة لن تدخلها عناصر من "حماس"، وأن البديل بعض الأسماء المحسوبة على الحركة، أو تشكيل حكومة تكنوقراطية، وهو ما نقل للإدارة الأميركية وإسرائيل عبر قنوات التواصل الأمني، التي عملت بقوة خلال الأيام الأخيرة لنقل رسالة للجانبين بحرص الرئيس محمود عباس بالعمل مجدداً مع الإدارة الأميركية، الأمر الذي هو محل تحفظ "حماس". كما سعت "فتح" لتأكيد حضورها السياسي في المشهد الراهن انطلاقاً من حقيقة مهمة، وهي الدخول في الاستحقاق الأهم، وهو استئناف الاتصالات مع الإدارة الأميركية والتواصل مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة، وهو ما يضعه الرئيس محمود عباس في قمة أولوياته الراهنة في ظل البدء بإجراء اتصالات فلسطينية أميركية مباشرة، وظل هذا الأمر محل تحفظ "حماس".
وقد أدركت "فتح" أن "حماس" وفصائل المقاومة تسعى إلى الاستثمار فيما جرى بعد حرب غزة الأخيرة، وأن هناك رغبة لدى قيادات الأخيرة في تحقيق إنجازات غير مسبوقة في مواجهة الجميع؛ سواء تجاه الأولى، أو الوسيط المصري، وكذلك مع إسرائيل، ولهذا ترغب في إتمام التفاوض في صفقة تبادل الأسرى بمفردها، كما فعلت في صفقة جلعاد شاليط، وهو ما جعلها تتشدد فيما تطرحه، ولهذا راقبت "فتح" سلوك "حماس" وضغطت على الوسيط المصري في وضع جدول أعمال مقبول، ويمكن العمل من خلاله؛ أي إن مسار ما جرى كان مرتبطاً بالحركة المصرية تجاه الطرفين، ولكن المشكلة التي طرحت في القاهرة كانت مرتبطة بتصادم الرؤى، وعدم وجود إرادة سياسية حقيقية، بل غياب الإرادة السياسية لدى الجانبين في "فتح" و"حماس" بهدف التوصل للحد الأدنى من الخطوات التأسيسية المفصلية والدوران في المكان نفسه.
وفي ظل ترقب وحذر بالأساس من حركة "فتح" من انفراد حركة "حماس" بالمشهد الراهن والمحتمل ليس في ملف تبادل الأسرى، ولكن في مجمل ملفات التعامل داخل القطاع وخارجه مع وجود تخوف من حركة "فتح" في حال غياب الدعم الأميركي المأمول مصرياً وأردنيا بالأساس بعد الفشل الأخير، وهو ما سيتطلب تدخلاً أميركياً تجاه السلطة الفلسطينية ومنحها قائمة تحفيزية للاستمرار، وكذلك دفع الوسيط المصري لتأمين موقف "حماس" ومحاولة استيعابه مجدداً مع احتمالات تطوير وتنمية استراتيجية التحرك مصرياً لمحاولة اجتذاب حركة "حماس" على الرغم من تعليق المفاوضات لأجل غير مسمى.
ما المتوقع؟
- إن إعلان القاهرة فشل جولة الحوار ليس معناه تجميد الموقف الراهن، بل سيدفع مصر لمحاولة مراجعة خطواتها والضغط في كل الاتجاهات، خاصة مع التوقع بما هو قادم في ظل التخوف من انهيار الهدنة، أو اندلاع أعمال عنف في القدس، إضافة لإقدام رئيس الوزراء الإسرائيلي وقبل أن يغادر موقعه وقبل تسلم الحكومة الجديدة مهامها في التصعيد وجر "حماس" لمواجهة جديدة وإشعال الإقليم بأكمله.
- تدرك القاهرة أن استمرارها في إدارة مشروع القطاع مهم للجانبين المصري والفلسطيني، كما أن إعادة تجديد الخطوات للتقارب واردة، ولكن إشكالية المشهد الرئيس في غياب الارادات السياسية فعلياً، بل تصميم كل طرف على العمل بمفرده، وهو ما ينذر بتحديات غير مسبوقة بالفعل، وقد يهدد أي سيناريو أو مسار يمكن للقاهرة العمل من خلاله في الفترة المقبلة مع مخاوف عدم إقدام مصر على الاستباق بطرح رؤية إلى حين التوصل لقرارات جديدة يمكن البدء بها مجدداً، وهو أمر ليس سهلاً ويحتاج إلى إرادة مصرية أيضاً في ظل تربص إسرائيلي وترقب أميركي، إضافة لوجود سياسي شامل من بعض الأطراف الأخرى المهمة، سواء قطر والأردن والأمم المتحدة، وربما سيدخل على الخط فرنسا وروسيا أيضاً بهدف تنشيط الرباعية الدولية مجدداً والضغط على الإدارة الأميركية ودفعها لمزيد من ممارسة الضغوط على إسرائيل.
- اليوم التالي لما جرى صعب وشائك ويشمل نقاطاً تحتاج إلى مراجعة حقيقية حول البديل من قبل "حماس" و"فتح" في ظل الصدام الذي جرى، وما هو المسار الثاني الذي ستعمل عليه مصر إضافة لموقف السلطة التي تراهن على دور أميركي.
- وماذا عن مطالب حركة "حماس" التي تتجاوز سقف ما هو مطروح بالفعل إلى مساحة أخرى من الالتقاء، وهو ما سيمثل إشكالية حقيقية في ما يطرح بالفعل ويتطلب مراجعة حقيقية؟
- ما جرى في اجتماعات القاهرة ليس ككل ما كان يجري من حوارات ومناقشات، فقد كان الأمر مرتبطاً بتهدئة طويلة الأمد برعاية دولية وعودة السلطة الفلسطينية وتشكيل حكومة وحدة وطنية. والبديل ذهاب الإدارة الأميركية ودفاعاً عن أمن إسرائيل بإدخال قوات دولية لمراقبة التزام الطرفين. يبقى الخيار وارداً ومحتملاً وقائماً.