إنه تذمر عام يختصر جميع التنازلات والحلول التوافقية التي يضطر مدربو كرة القدم الدوليون إلى اعتمادها. فخلال تصفيات كأس العالم في مارس (آذار) المنصرم أراد مدرب بارز لمنتخب وطني من أحد لاعبي خط الوسط في فريقه الضغط (على الخصم) بطريقة معينة. لأن نظام خطته المفضلة في اللعب اعتمد على ذلك. لكن سرعان ما اكتشف المدرب المذكور أن اللاعب المعني بالكاد يتمكن من فعل ذاك لـ20 دقيقة. فهو ليس مهيأً جسدياً للأداء بهذه الطريقة، لأن مدربي ناديه بطبيعة الحال أعدوه عبر برنامج تدريبي يناسب حاجاتهم.
يمثل هذا الأمر واحداً من مسائل عديدة ينبغي على مدربي الفرق الـ24 حلها خلال كأس الأمم الأوروبية اليوم، وهي المسابقة التي بلغت مستوى جديداً بفضل التطورات التي شهدتها اللعبة منذ بطولة عام 2016. فالمدربون والمديرون الدوليون لا يمكنهم في الحقيقة تكييف لاعبيهم وفق الطريقة التي يفضلونها، لأنهم في الواقع يستعيرونهم، لا أكثر. وهم يعتمدون كلياً تقريباً على الجهد طويل الأمد وشديد التنوع الذي سبق وقامت به الأندية.
طبعاً، في هذا الإطار، لم يعد جديداً القول إن البطولات والمسابقات الدولية في كرة القدم تسلك مسارات تختلف عن مسارات مسابقات الأندية. بيد أن ذلك ربما أدى سلفاً إلى اتجاه جديد في اللعبة، وهو قد يمثل في آن نقطة تقاطع وافتراق في تاريخ كرة القدم.
وثمة وجهة نظر مقنعة تقول، إن البطولات والمباريات الدولية لم تعد حتى تسير خلف بطولات الأندية من ناحية المقاربات التكتيكية. بل هي ربما هبطت إلى مسار تطوري مختلف تماماً، لدرجة ستزداد معها التقاطعات والتشابهات بين كرة القدم الدولية وكرة قدم الأندية، تضاؤلاً يوماً بعد يوم.
والأمر سينعكس كثيراً على الطريقة التي سيعتمدها المدربون في تحضير منتخباتهم للمباريات، وسينعكس بالتالي على الحال التي ستبدو عليها بطولة كأس الأمم الأوروبية 2020. وذاك قد يجعل من بعض التوقعات المنتظرة من مباريات الأندية– خصوصاً المتعلقة بمفهوم كرة القدم الشاملة– غير مطروحة أبداً في المباريات والبطولات بين الدول (المنتخبات الوطنية).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في سبيل فهم أوضح للمسألة، على المرء أن يقوم فقط بالتفكير في الاتجاهات التي سادت على مدى العقد المنصرم في "دوري أبطال أوروبا" (الـ تشامبيونز ليغ)، وفي بطولات الدوري الوطنية الأساسية (كالدوري الإسباني والدوري الإنجليزي). فالاتجاه الذي بدا أعظم تأثيراً في هذا السياق تمثل في "ثورة الهجوم" (أو "ثورة الضغط" على الخصم). وذاك بدوره اعتمد على تطورات حصلت في علم الرياضة وعلى برامج تدريبية متوافقة تماماً مع تلك التطورات، وهو ما قاد، قبل حلول الجائحة، إلى كرة قدم محمومة بلا هوادة، وعالية المستوى. وقد تميزت ألمع فرق الأندية بالانسجام المطلق بين لاعبيها، في كل شيء، من ممارسة الضغط، إلى الهبات الهجومية، وذاك مثل في الحقيقة اتجاهاً لم تشهده اللعبة من ذي قبل. بيد أن الاتجاه المذكور ما زال غير سائد في كرة القدم الدولية، ويرجح عدم بلوغه أبداً هذا المستوى في أثنائها.
إذ إن الفرص والظروف (التي أدت إلى ولادة "ثورة الهجوم" في كرة القدم) غير متاحة أمام مدربي المنتخبات الوطنية. فالأخيرون لا يمتلكون الوقت، ولا يمكنهم التحكم في أفراد فرقهم. فبين أيديهم لاعبون كثر قادمون من تجارب وظروف مختلفة تماماً. وجل ما في الأمر أن عليهم في فترة وجيزة، التعامل مع ما لديهم من لاعبين وخبرات. حتى أن هناك رأياً يقول إن المهمة الملقاة على عاتق أولئك المدربين الدوليين، إن لم تكن مجرد تدريب، فهي تنحو أكثر لتكون مهمة "إدارية" صرفة، وذلك من ناحية التكيف مع المصادر المتوفرة.
في هذا الإطار، وضمن حديث مع "اندبندنت" يقول مدرب إسبانيا ثياغو ألكانترا إنه "من الحتمي أن تكون كرة القدم الدولية مختلفة". ويضيف موضحاً "المسألة تتعلق بالوقت. مع ناديك لديك وقت أطول للتدريب، وفترات مديدة نقضيها معاً، وأيام أكثر للتعلم خارج الملعب من المدربين ومن رفاق اللعب. كما يُخصص وقت طويل للتدرب على التلقائية. أما مع المنتخب الوطني فلديك وقت محدد للتدريب واللعب – وفترة قصيرة للاستعداد للبطولة الصيفية (كأس الأمم الأوروبية) – ثم ينتهي الأمر".
وبطبيعة الحال، تمارس منتخبات كمنتخب إنجلترا تمارين التلقائية، بيد أن هذه التدريبات نظراً لضيق الوقت تبقى أكثر عمومية وأقل تنوعاً من تلك التي تمارسها الأندية. لذا فإنه أسهل على اللاعبين (في المنتخبات) اعتماد اللعب الدفاعي. والمحصلة النهائية لكل هذا تتمثل في أن اللعب الدولي لم يذهب في مسار مختلف عن مسار لعب الأندية وحسب، بل إنه يكاد يسلك مساراً متعارضاً تماماً. إذ فيما يتجه لعب الأندية على نحو حاسم إلى كرة قدم سريعة الإيقاع ومفتوحة– حيث باتت اللعبة بجوهرها لعبة هجومية– غدت كرة القدم الدولية أكثر من أي وقت مضى، لعبة دفاعية. فهي باتت تعتمد هيكلاً ثابتاً، لأن الكرة الهجومية فيها أقل تطوراً وأبطأ سرعة.
ويمكن ملاحظة هذا الأمر بالأرقام. إذ إن المعدل الوسطي للأهداف المسجلة في المباراة الواحدة في بطولة كأس العالم 2018 كان 2.64. فيما سجل موسما "دوري الأبطال" اللذان سبقاها معدلاً تخطى الثلاثة أهداف، وكانا 3.04 لموسم 2016-2017، و3.21 لموسم 2017- 2018.
في المقابل سجلت بطولة كأس الأمم الأوروبية 2016، معدلاً أكثر انخفاضاً للأهداف في المباراة الواحدة، وهو يعد الأسوأ في الآونة الأخيرة، إذ بلغ 2.12.
هذه الوجهة (غير الهجومية) بدت حتى أكثر وضوحاً في بعض الإحصائيات الأشمل. فأشارت الإحصائيات المذكورة إلى أن مباريات البطولات الدولية تعد أقل حدة من المباريات بين الأندية، وهي تلعب بإيقاعات أبطأ، وبمقدار أقل من الحركة السريعة والنتائج الحاسمة.
هذه الأمور كلها تتضخم في سياق البطولات (الدولية) التي تحل بعد مواسم (كروية بين الأندية) طويلة ومنهكة– كما الأمر يبدو أوضح في خضم الجائحة. في المقابل، فإن أكثر المدربين والمديرين تقدمية في أفكارهم ينجذبون تلقائياً نحو منافسات الأندية. أنطونيو كونتي مثلاً، بات يشعر بضجر كبير من الانقطاعات الطويلة للبطولات الدولية ومن مستواها المتدني. وفي الإطار، يعد لويس إنريكي المدرب الوحيد في بطولة كأس الأمم الأوروبية 2020 الذي لديه خبرة في تدريب ناد كبير خلال نصف العقد المنصرم، بيد أن تجربته هذه تعود إلى عام 2017.
نتيجة لهذا الأمر، فقد صار التوجه العام لمدربي المنتخبات الوطنية هو إعطاء الأولوية للبنية الدفاعية في فرقهم، لأن المستوى العام للبطولات الدولية يميل إلى ذلك. وبالتالي فإن اللعبة تغدو مقيدة أكثر وخامدة. وذاك أمر لاحظه بعض لاعبي الهجوم الشبان في منتخب إنجلترا ممن جرت مناقشتهم مراراً في الموضوع. وفي السياق يقول جاك غريليش، متحدثاً عن الاستحواذ على الكرة في مواقع متقدمة (في الملعب) "ما أن تحصل على الكرة، يبدو الأمر على الفور وكأن الجميع انقضوا عليك. بينما في "دوري الأبطال" يكون لديك مساحة أكبر بكثير (للعب). ما أقوم به من جهتي يتمثل في إكمال اللعب ومحاولة ابتكار تلك المسحة من السحر وإضافتها. الأمر شديد الاختلاف".
هذه الأمور كلها أخذها مساعدو غاريث ساوثغايت (مدرب منتخب إنجلترا) في عين الاعتبار ضمن تحليلاتهم للبطولات الدولية القليلة الماضية. وقال مدرب منتخب إنجلترا في أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم "نشعر أن هناك كثيراً من الفوارق الدقيقة في هذه الأمور، وتلك فوارق يمكننا تطويرها بالفعل. إننا نركز أفكارنا حول الطريقة المثلى للفوز، بحسب مستوى البطولة". ثم عاد ساوثغايت وذكر في مارس (آذار) الماضي أن "هناك عوامل محددة تصنع الفرق الفائزة، وهي: إدراك مراحل المباريات، ومعرفة الوقت الذي ينبغي فيه اتخاذ القرارات المناسبة، ومعرفة متى يمكن الاستحواذ على الكرة، ومتى يمكن تهدئة الكرة (أو اللعب)، وعدم السماح للخصم بشن هجمات مضادة مستفيداً من بعض تموضعاتك". تابع المدرب الإنجليزي "ما خطر لي عندما شاهدت فريقي فرنسا والبرتغال– الفائزين ببطولة العالم والأمم الأوروبية– هو أنهما فائزان ذوا خبرة ودهاء. وهذان أمران (الخبرة والدهاء) علينا بثهما في فريقنا".
قد تخيب هذه الكلمات آمال أولئك الذين يشعرون بأن ما يحتاجه ساوثغايت هو زيادة المواهب في هذا الفريق (المنتخب الإنجليزي)، قبل أي شيء آخر. لكن هنا ينبغي عدم تجاهل أن ديديي دوشامب (مدرب منتخب فرنسا) واجه الآراء والانتقادات نفسها في فرنسا. فتساءل النقاد: لماذا فريقه دفاعي إلى هذا الحد، وكيف جعل مهاجمين موهوبين إلى هذا الحد، مضجرين؟
بيد أن الواقع يقول، إن هذا هو المطلوب على الأرجح في ذروة بطولات دولية حديثة مثل كأس الأمم الأوروبية. كثيرون من دون شك قد يشيرون إلى كرة القدم السلسة، التي قدمتها إسبانيا في بطولة الأمم الأوروبية 2008، أو ألمانيا عام 2014، كمثال على ما يمكن تحقيقه في المقابل. غير أن الإسبان في النهاية كانوا مضطرين لتكييف أدائهم ليتوافق مع التكتل الدفاعي الذي واجهوه سنة 2010، فأضافوا إلى لعبهم عاملاً جديداً يجنبهم الانكسار، فيما قام الألمان بإضافة مدافع إلى خط وسطهم في منتصف بطولة 2014.
كما أن الأهم في هذا المضمار يتمثل في أن المنتخبين المذكورين استفادا من تشكيلة جوهرية مستمدة من ناديين تمتعا بمستوى نادر من الانسجام والتفاهم، وهاتان التشكيلتان مصدرهما أعظم فريقين أبداً، برشلونة 2008- 2011، وبايرن ميونيخ 2013. هكذا تمتع منتخبا إسبانيا وألمانيا بتماسك وطلاقة يستحيل نظرياً تكرارهما في أي منتخب وطني آخر.
وذاك يمثل السبب الذي يجعل من البطولات الدولية في كرة القدم عاجزة عن تكرار مباريات ومنافسات الأندية في أي وقت قريب، وربما قد تعجز عن ذلك أبداً. فالبطولات الدولية، على خلاف بطولات الأندية، يسيطر عليها المبدأ الدفاعي، و"قطع المجموعة"، والتحركات الهجومية المعزولة، وما يصفه غريليش بـ"تلك المسحة من السحر". ولن يكون أبداً بوسع أي منتخب وطني، مهما ضم في صفوفه من مواهب، اللعب بطريقة بايرن ميونيخ.
بخط دفاع جيد وبضعة لاعبين قادرين على التهديف– أو بالأحرى، رقم تسعة حقيقي– يمكن الذهاب بعيداً وأبعد بكثير مما يتحقق في مباريات الأندية. وهذا ربما يمثل السبب الذي يجعل من ساوثغايت مهجوساً إلى هذا الحد بتهيئة فريقه دفاعياً لمواجهة لاعبين هجوميين إستباقيين وفعالين. هذا لن يؤدي بالضرورة إلى كرة قدم مثلى، أو إلى بطولة دولية هي الأفضل. لكنه قد يجعل من فريقه الأفضل في كأس الأمم الأوروبية 2020، ويحرز البطولة في نهاية المطاف.
© The Independent