مع تسارع وتيرة التطور في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والذي يبلغ في بعض التقديرات 10 أضعاف معدل التطور في أجهزة الكمبيوتر، يتوقع خبراء التكنولوجيا أن تتغير حياة البشر بشكل هائل مع قيام التكنولوجيا الجديدة بمهام عدة كالاستشارات الطبية والقانونية والتعليم بمهارة ودقة تفوق كفاءة البشر، وسيفقد ملايين الناس وظائفهم، وستحدث اضطرابات اجتماعية واقتصادية، وستنخفض أسعار السلع والخدمات مع اقتراب تكلفة العمالة إلى الصفر، وتتراكم الثروات في يد شركات التكنولوجيا، ويتشكل جيل جديد من أصحاب التريليونات، ما سيفرض ضغوطاً على النظم السياسية كي تعيد توزيع الثروة بشكل مختلف، الأمر الذي قد يستدعي أيضاً تغيير السياسات، فما هو الذكاء الاصطناعي؟ وكيف سيتغير وجه الحياة خلال 10 سنوات من الآن؟ وما طبيعة التصورات الحالية لمواجهة تداعيات هذه التغيرات؟
تغيير العالم
وفقاً لعلماء التكنولوجيا، سيغير الذكاء الاصطناعي العالم أكثر من أي شيء في تاريخ البشرية، وبدرجة تفوق بكثير التغيير الذي أحدثه اختراع الكهرباء، فهو يؤثر في مستقبل كل صناعة وكل إنسان تقريباً بعدما أصبح المحرك الرئيس للتقنيات الأكثر تطوراً مثل الروبوتات وإنترنت الأشياء ومعالجة البيانات الضخمة بسرعات قياسية، وسيستمر الذكاء الاصطناعي في العمل كمبتكر تكنولوجي في المستقبل القريب على الأقل، وليس أدلّ على ذلك من تخصيص الولايات المتحدة 250 مليار دولار في موازنة العام المقبل 2022 لتطوير التقنيات الحديثة التي يأتي الذكاء الاصطناعي على رأسها، بعدما قطعت الصين شوطاً بعيداً في هذا المجال وشكلت مساهمتها أكثر من 27 في المئة من مجمل الأبحاث والتطبيقات العالمية عام 2017.
ما الذكاء الاصطناعي؟
بعد أكثر من سبعة عقود من تطوير ما يسمى بهندسة المعرفة، وصلت البشرية عبر استخدام علوم الحوسبة (الكومبيوتر) إلى نماذج وخوارزميات (لوغاريتمات) تبني أنظمة متطورة وأجهزة قادرة على التعلم الذاتي وتتمتع بقدرة متزايدة على الإدراك والاستنتاج والتوقع، ما يمكنها من تفسير البيانات الخارجية التي تجمعها بنفسها، والتعلم من هذه البيانات، واستخدام تلك المعرفة في القيام بمهام محددة، ولهذا أصبح مصطلح الذكاء الاصطناعي يشير إلى محاكاة الذكاء البشري.
وتعمل برامج الذكاء الاصطناعي مثل الطفل الذي يراقب العالم من حوله ثم يبدأ في التعلم، لكن الفارق هو أن الذكاء الاصطناعي يتعلم وينجز المهام بشكل أفضل، لكنه يحتاج إلى تصحيح أقل في المسائل الدقيقة، بينما لا يوجد حد أقصى لمقدار تعلمه.
ومن الأمثلة التطبيقية التي يستخدمها الناس حالياً في صورها البسيطة، السيارات ذاتية القيادة وبرامج الترجمة وتقنيات التعرف إلى الصور والوجوه والكلام، والبرامج التفاعلية الصوتية التي تستخدمها الشركات والبنوك لتقديم خدمات للمستهلكين والرد على استفساراتهم، ويعد الروبوت "صوفيا" الشبيه بالإنسان في تفاعلاته وحركاته وتعبيرات وجهه وكلماته هو الأكثر تقدماً حتى الآن في مجال الذكاء الاصطناعي المعروف للعامة، كما تمكنت شركات صينية وأميركية من إنتاج برامج قادرة على تجاوز المستويات البشرية في بعض المجالات.
سرعة تطور فائقة
وعبر التطور المستمر في أبحاث وتطبيقات برامج الذكاء الاصطناعي، أصبحت هناك نماذج يمكن أن تفهم بشكل ما، ماذا يجري حولها وتنجز مجموعة من المهام وتتعلم أشياء جديدة بسرعة كبيرة، بعدما كانت النماذج الأولى تفعل شيئاً واحداً، ووفقاً لخبراء تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، توجد حالياً نماذج نصية يستخدمها آلاف المطورين وقليلون من المستخدمين النهائيين للقيام بمهام مختلفة ومتعددة.
وإذا كانت أجهزة الكمبيوتر تتطور وتتضاعف قدرتها وكفاءتها كل عام أو عامين، فإن الذكاء الاصطناعي ينمو ويتطور بمعدل يفوق ذلك بـ 10 أضعاف، وهذا يعني أن العالم سيصل إلى حدود لا نعرف نهايتها وسوف يكتشف العلماء قدرات فائقة بمرور الوقت.
بعد 10 سنوات
قبل سبع سنوات، حذر عالم الفيزياء الشهير ستيفن هوكينغ قبل وفاته، من أن تطوير نظام ذكاء اصطناعي بالكامل قد يؤدي إلى فناء الجنس البشري لأن الآلات التي يحركها الذكاء الاصطناعي ستكون متفوقة على البشر وقادرة على زيادة فارق القدرة والذكاء والتطور مع الوقت، ولن تحتاج إلى وجود الإنسان على سطح الأرض، غير أن هذا التصور الذي يتخوف منه هوكينغ وغيره، ما زال بعيد المنال بالنظر إلى أن البشر ما زالوا في المراحل الاستكشافية لقدرات الذكاء الاصطناعي، وحيث تخضع التجارب المختلفة في النهاية لقرار البشر حتى مع توقع أن الذكاء الاصطناعي سينتج خلال سنوات أو عقود، روبوتات وأجهزة لها القدرة على الرؤية والشعور، تضاف إلى ما تتمتع به النماذج الحالية من قدرة على الاستماع والنقاش والحركة، ولأن التوقعات البعيدة ليست ما يشغل العلماء الآن، فإن التصورات تنصب على السنوات الـ 10 المقبلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتوقع المبتكرون في مجال الذكاء الاصطناعي مثل سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة "أوبن أي آي"، أنه بعد نحو 10 سنوات من الآن ستكون هناك برامج ذكاء اصطناعي تقدم لأي شخص مستشارين في مهن مختلفة، فمثلاً، يمكن أن تكون هناك روبوتات أو أجهزة تقدم استشارات طبية أو قانونية تتفوق على أي استشارة تصدر من أي مكان في العالم، وسيكون هناك مدرسون (روبوتات أو أجهزة) يمكنهم تعليم الناس الرياضيات والعلوم الأخرى بكفاءة عالية، وستعمل هذه الأجهزة على إنجاز ما يريد الناس تحقيقه من أشياء أخرى أبسط، مثل حجز تذاكر طيران أو إقامة في فندق أو طلب سيارة وغيرها من الأعمال البشرية المتكررة، فضلاً عن القدرة على القيام ببعض الأعمال الإبداعية كالرسومات الهندسية والفنية.
"قانون مور" لكل شيء
يقول "قانون مور" إنه على الرغم من أن سرعة وقدرة أجهزة الكمبيوتر تتضاعف كل عامين، نتيجة للزيادات في عدد "الترانزستورات" التي يمكن أن تحتويها رقاقة إلكترونية، إلا أن الناس سيدفعون سعراً أقل نتيجة انخفاض تكلفة أجهزة الكمبيوتر إلى النصف. ومن الواضح أن "قانون مور" ينطبق أيضاً على الذكاء الاصطناعي في كل تطبيقاته ومجالاته، لأن الذكاء الاصطناعي لديه القدرة على أن يصنع كل شيء بشكل أفضل وبسعر أقل بكثير، ونتيجة لذلك، من المتوقع أن يشهد العالم تغييرات اقتصادية واجتماعية وسياسية.
تغييرات اجتماعية وسياسية
عندما تمتد استخدامات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي إلى مختلف نواحي الحياة، سوف تنخفض أسعار السلع والخدمات بشكل سريع، وسيتم شراؤها على نطاق واسع نتيجة اقتراب العمالة المستخدمة إلى الصفر، وسوف يترتب على ذلك فقدان ملايين الوظائف وتتحول المدن والمناطق الصناعية إلى مدن ومناطق بائسة، الأمر الذي سيشكل اضطراباً اقتصادياً، وسيتبع ذلك تغييرات اجتماعية وسياسية، لأنه ما لم تتم إعادة توزيع الثروة التي ستتراكم بالمليارات لدى الشركات الضخمة وملاكها الذين سيتحولون إلى أصحاب تريليونات، سيكون المجتمع في خطر كبير.
ويقول البعض إنه على الرغم من فوائد الرأسمالية التنافسية التي كانت الحافز الرئيس لخفض الأسعار واستفادة المجتمع وتحسين مستويات المعيشة، إلا أن السلطة السياسية قد تجد نفسها مضطرة إلى اتباع سياسات أشبه بالاشتراكية للتأكد من توزيع الثروة على نطاق واسع وعادل في المجتمع من أجل الحفاظ على مستويات معيشة الناس، وقد يكون ذلك من خلال فرض ضرائب كبيرة، وقد يتطلب الأمر أن يتخلى أصحاب التريليونات والمليارات عن أجزاء من شركاتهم كل سنة وأجزاء من ثرواتهم عن طيب خاطر.
الاستعداد لضربات التكنولوجيا
ويزعم هؤلاء أن السلطات قد تكون بحاجة إلى أن تتأهب لحدوث هذا الواقع قبل أن تضرب التكنولوجيا ضربتها، لأنه إذا ضربت التكنولوجيا أولاً، فإن الذكاء الاصطناعي سيجمع المال والنفوذ بيد الأشخاص الذين يمتلكون هذه التكنولوجيا، ومن المرجح أن يحاولوا التلاعب بالرأي العام ويفعلوا أي شيء للحفاظ على ثرواتهم.
ويثير آخرون أسئلة مثل: لماذا لا تقوم الدولة بإقامة وتمويل مشاريع تطوير الذكاء الاصطناعي بما يجعل لها نصيباً وافراً من عائدات الثروات الضخمة المتوقعة من ورائها والتي يمكن أن تعود بالفائدة على الشعب مثلما اقترح كتاب "شيوعية فاخرة مؤتمتة بالكامل"؟، غير أنه يصعب تنفيذ هذه الأفكار في دولة مثل الولايات المتحدة، تؤمن بضرورة ابتعاد الدولة عن عجلة الإنتاج وألا تتدخل في السياسة الصناعية أو تنافس القطاع الخاص في الصناعة والتجارة.
وفي حين تبدو هذه الأفكار غريبة وربما مخيفة للبعض، فإن نظرة إلى الوراء قبل مئات السنين قد تكون كافية لإدراك كيف أدى تطور التكنولوجيا إلى تغيير المجتمعات رأساً على عقب، ومن المحتمل بنسبة كبيرة أن يكون العالم على أعتاب مرحلة أكثر خطورة مما حدث في القرون الماضية، وإذا كان هناك احتمال بنسبة 50 في المئة لهذه التغيرات الهيكلية اجتماعياً واقتصادياً، فقد يكون من المهم التفكير في السياسات التي يجب أن تتبعها السلطة السياسية لتستبق الأحداث بدلاً من محاولات لاهثة للحاق بتداعيات خطيرة ومتسارعة.
انعكاسات مفيدة
ومع ذلك، فإن انعكاسات استخدامات الذكاء الاصطناعي ستكون مفيدة في جوانب كثيرة، ليس فقط لأن المنتجات والخدمات ستكون أكثر كفاءة وأعلى جودة وبسعر أقل، ما سيحسن من حياة الناس الذين سيكون بمقدورهم تلبية احتياجاتهم بتكلفة أدنى، وإنما أيضاً لأنه ستكون هناك انعكاسات إيجابية أخرى عليهم، إذ من المتوقع أن تتغير طريقة عمل قطاعات حيوية مثل الإسكان والرعاية الصحية والتعليم العالي، والتي تكلّف المواطنين الكثير في الولايات المتحدة، ومن المرجح إلى حدّ بعيد أن تتضاءل تكلفة هذه الخدمات للسبب نفسه.
ويعتقد المدافعون عن الذكاء الاصطناعي أن التكنولوجيا والسياسة يمكن أن يعملا في وئام للوصول إلى نتيجة أفضل بسرعة أكبر مما كانت عليه الحال في الماضي.