على عكس كثير من التوقعات التي تنبأت باحتمالات "قمة عاصفة" بين الرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين، خلص مراقبون كثيرون إلى ما انتهت إليه مباحثات الزعيمين، التي طالت لما يقرب من أربع ساعات ونصف الساعة، من "نجاح نسبي". ذلك ما كشف عنه الرئيس بوتين في إطار ما أعرب عنه من "تفاؤل ووجود بارقة أمل للاتفاق وبناء الثقة المتبادلة بين الجانبين"، وهو ما يمكن البناء عليه لتصفية كثير من النقاط الخلافية بين البلدين، التي لا تزال جوهرية فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان، وعدد من القضايا الإقليمية وفي مقدمتها الأزمة الأوكرانية.
ما يتبادر إلى الأذهان تعليقاً على تصريحات الرئيسين التي أدليا بها في مؤتمريهما الصحافيين، هو أن بايدن حرص بالدرجة الأولى على مخاطبة الداخل الأميركي من خلال ما طرحه من موضوعات، وما كشف عنه من مواقف خلال اللقاء الرباعي الذي عقده مع نظيره الروسي بحضور وزيري خارجية البلدين، والذي استمر وحده ما يزيد على الساعتين. ولعل ما خيم من مخاوف من تكرار ما سبق وتعرض له الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب من اتهامات بعد لقائه بوتين في هلسنكي في أغسطس (آب) 2018، يمكن أن يكون وراء مثل هذه الانطباعات التي حاول ترمب تكريسها في تعليقه على نتائج القمة في تصريحاته إلى "فوكس نيوز" الأميركية، والتي قال فيها "إن بوتين هيمن في القمة"، مبدياً أسفه إزاء عدم تحقيق بايدن أي إنجازات، فضلاً عما خلص إليه من استنتاجات إيجابية بحق روسيا، بقوله "إنه يعتقد أنه كان يوماً جيداً لروسيا"، مضيفاً: "لا أعتقد أننا استفدنا أي شيء من ذلك".
الابتعاد عن شفا المواجهة
والبعض اعتبر أن الواقع يقول بذاتية تصريحات ترمب، وعدم موضوعيتها. فما جرى تناوله موضوعات شملت في معظم جوانبها مجمل أركان العلاقات الروسية الأميركية، وما خلص إليه الزعيمان من واقع ما كشفا عنه في مؤتمريهما الصحافيين، يقول بنجاح تؤكد مؤشرات كثيرة أنه تحقق على صعيد "حلحلة" الموقف الراهن، والابتعاد به عن شفا المواجهة، وفتح الأبواب أمام لقاءات ومشاورات مرتقبة أخرى بين ممثلي الجانبين لوضع ما اتفق عليه الرئيسان، حيّز التنفيذ. وكان ما وصل إليه بوتين وبايدن كثيراً.
بداية، ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن اللقاء أزاح كثيراً من تراكمات الماضي، وبدا مقدمة لتفاهمات، لا أحد يقول إنها يمكن أن تلغي كل ما تراكم بين الجانبين من خلافات جذرية في بعض المجالات. كما أن المباحثات كشفت ضمناً عن رغبة الجانبين في التوصل إلى حلول لمثل هذه الخلافات. وذلك ما أكده بوتين بما قاله حول "وجود بارقة أمل لبناء الثقة المتبادلة"، وإشارته إلى إمكانية الاتفاق حول كل القضايا التي تم بحثها، وإن أضاف أنه لا يبني أوهاماً عقب القمة مع بايدن.
أما الرئيس الأميركي فقد خَلُص إلى "أن بوتين لا يسعى إلى حرب باردة جديدة مع الولايات المتحدة، وأن مثل هذه الحروب لا تصب في مصلحة أحد". وعلى الرغم من كل ما لوّح به الرئيسان قبيل القمة من "خطوط حمراء" لن يسمح أي منهما للآخر بتجاوزها، فقد كشف بوتين عن أن أياً من الجانبين لم يشر إلى هذه الخطوط، وإن قال إن ما تطرق إليه مع بايدن من موضوعات كان يتضمن كل مخاوف الجانبين وما يتعلق بمصالح واهتمامات كل منهما.
تقليص مساحات الخلاف
ولعل ما تداوله المراقبون في موسكو من تعليقات ومنها ما يستند إلى مصادر موثوقة في أوساط الكرملين والحكومة، يقول بارتياح الجانب الروسي لما تمخضت عنه قمة جنيف من نتائج. وإذا كانت موسكو سبق أن أعلنت في أعقاب أول قمة سوفياتية أميركية في جنيف عام 1985 بين الزعيمين ميخائيل غورباتشوف ورونالد ريغان، أن "العالم صار أكثر أمناً"، فقد خلصت الأوساط الروسية وربما العالمية أيضاً بعد قمة "بوتين-بايدن" في المدينة نفسها، إلى أن "العالم ابتعد عن شفا الهاوية"، التي كاد يبلغها بعد اعتراف كل من الجانبين بأن العلاقات بين البلدين لم تبلغ في تاريخها مثل ذلك الحد من التردي والتدهور الذي تبلغه اليوم.
نقاط الاتفاق وتقليص مساحات الخلاف بين الجانبين تبدو كثيرة، ما قد يفسر ما يتناثر من تعليقات تنقلها الصحافة المحلية والعالمية حول ما يراودهما من مشاعر تفاؤل، ومنها ما علق عليه بوتين في مؤتمره الصحافي في أعقاب القمة، بقوله، نقلاً عن الأديب الروسي ليف تولستوي، بظهور "بريق الأمل"، لكن من دون أية أوهام. وأضاف أن مثل هذه الأوهام لم تراوده لا قبل القمة ولا بعدها. واستشهد بوتين بما قاله الأديب العالمي ليف تولستوي: "لا توجد سعادة في الحياة، هناك فقط بريقها وهو ما أعتز به".
على أن ذلك لم يمنع الرئيس الروسي من الكشف عما تحقق من نتائج يعتبرها كثيرون "إيجابية"، ومنها الاتفاق حول عودة السفيرين الروسي إلى واشنطن، والأميركي إلى موسكو، وكانت السلطات الروسية أعلنت عن استدعاء سفيرها إلى موسكو عقب اتهام بايدن بوتين بأنه "قاتل"، بل ومضت إلى ما هو أبعد حين طلبت من السفير الأميركي السفر إلى بلاده، ولم تكن واشنطن تريد ذلك. وكشف الرئيس الروسي أن وزارتي الخارجية الروسية والأميركية مدعوتان إلى بدء مشاورات حول "مجمل العلاقات الدبلوماسية"، وأن هناك "أشياء" يجب التطرق إليها على ضوء ما يتناثر على الطريق من معوقات ومشاكل، في إشارة إلى ما شهدته العلاقات من "ضربات أميركية وعقوبات"، شملت الطرد المتبادل لأعداد كبيرة من الدبلوماسيين الروس والأميركيين في العاصمتين موسكو وواشنطن، إلى جانب مصادرة كثير من عقارات وممتلكات الجانبين، وإغلاق عدد من القنصليات الروسية والأميركية في البلدين، وهو ما قال بوتين إن الجانبين يعقدان العزم على البحث عن حلول له ولغيره من مختلف المشاكل. ومن هذه القضايا مشكلة "السجناء" من مواطني البلدين في كل من روسيا والولايات المتحدة، وهي ما عرضت موسكو بحثها، ربما في إطار "صفقة" تبادل هؤلاء المعتقلين أو بعضهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"الاستقرار الاستراتيجي"
واتفق الجانبان كذلك حول عودة المشاورات بشأن قضايا "الاستقرار الاستراتيجي". وقال بوتين إن البلدين روسيا والولايات المتحدة الأميركية يتحملان مسؤولية خاصة عن الاستقرار الاستراتيجي في العالم، وإنهما تدركان ذلك. لكنه لم يغفل الإشارة إلى أن واشنطن تحديداً، هي التي بادرت بالخروج من الاتفاقات ومنها معاهدة الأنظمة المضادة للصواريخ، ومعاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية متوسطة وقصيرة المدى، واتفاقات أخرى كثيرة منذ اتخذ الرئيس الأسبق جورج بوش الابن قراره حول الانسحاب من معاهدة الأنظمة المضادة للصواريخ عام 2001.
أما عن المشكلة التي طالما أفسدت علاقات البلدين منذ عام 2006، وهي مشكلة الأمن السيبراني أو القرصنة الإلكترونية والتدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، فقد أعلن بوتين اتفاق الجانبين حول التعاون في الكشف عن الهجمات الإلكترونية، التي قال إن مصدرها الولايات المتحدة وكندا بشكل أكبر، ثم من دولتين في أميركا اللاتينية تليهما بريطانيا. وأضاف أن روسيا استجابت لطلبات الجانب الأميركي حول الاستعلام عن حالات "القرصنة الإلكترونية" البالغ عددها عشراً العام الماضي، وحالتين في هذا العام، لكن الجانب الأميركي لم يستجب حتى اليوم لطلبات روسيا حول الاستفسار عن حالات قرصنة إلكترونية بلغت في العام الماضي 45 حالة و35 حالة في العام الحالي. ومن اللافت في هذا الصدد أن بوتين تحدث بشكل إيجابي عن نظيره الأميركي الذي وصفه بأنه "شريك موضوعي ذو خبرة كبيرة". وقال ما نصه: "أستطيع أن أقول إنه شخص بنّاء ومتوازن للغاية، كما توقعت. إنه ذو خبرات كبيرة، وهذا واضح على الفور".
وعما يتعلق بالمسائل الخلافية خصوصاً "الأزمة الأوكرانية"، فقد أسهب بوتين في الإشارة إلى تفاصيلها، على الرغم من قوله إنها لم تأخذ حيزاً كبيراً في مباحثات جنيف. وقال بهذا الصدد إنه توصل مع نظيره الأميركي إلى ضرورة الاستناد إلى اتفاقات مينسك أساساً لحل الأزمة. وأعاد إلى الأذهان بعضاً مما تضمنته هذه الاتفاقات التي اعتبر أن الجانب الأوكراني يحاول الالتفاف حولها. وأعلن أن المادة التاسعة من الاتفاق تنص على ضرورة تعديل الدستور الأوكراني وإجراء الانتخابات في جنوب شرقي أوكرانيا قبل تسوية الأوضاع على الحدود المشتركة بين أوكرانيا في هذه المناطق وروسيا. وخلص الرئيس الروسي إلى القول إن بايدن وعلى قدر ما فهمه بوتين "يوافق على أن اتفاقات مينسك يجب أن تكون في قلب التسوية في شرق أوكرانيا".
القضايا الإقليمية
وعن قضايا حقوق الإنسان وما يتعلق بالمعارض الروسي ألكسي نافالني الذي يقضي عقوبة السجن في السجون الروسية، قال بوتين في إطار حرصه على "تقليد" عدم الإشارة إلى اسمه، إن هذا المواطن الروسي انتهك قوانين البلاد التي يعرفها جيداً ويعرف أبعاد إصراره على انتهاكها، ومنها عودته من ألمانيا متعمداً أن يجرى القبض عليه. ومن هذه القضية انتقل الرئيس بوتين إلى قضايا منظمات المجتمع المدني وأوضاع المؤسسات الصحافية الأجنبية في موسكو، التي جرى إصدار قانون باعتبارها "عملاء، أو وكلاء، أجانب"، بكل ما ينجم عن ذلك من تبعات تقضي بضرورة خضوعها للتفتيش والرقابة من جانب السلطات الروسية، رداً على قانون أميركي مماثل بدأت السلطات الأميركية بتطبيقه بالفعل تجاه وكالة "سبوتنيك" الحكومية الروسية، وقناة "روسيا اليوم" في الولايات المتحدة. وأشار بوتين إلى كثير من حالات انتهاك الإنسان في الولايات المتحدة، ومنها ما تعلق بحادث مصرع جورج فلويد المواطن الأميركي الإفريقي الأصل، واعتقال ما يزيد على 450 من المتهمين باقتحام مقر الكونغرس الأميركي في يناير (كانون الثاني) الماضي، وغير ذلك من الحالات التي اعتبرها الرئيس الأميركي "سخافات"، ولا علاقة لها بحقوق الإنسان، وبما يجري ضد المتظاهرين في روسيا، نظراً لأن المعتقلين "مجرمون خرجوا عن القانون"، حسب بعض الصحف الأميركية.
أما عن القضايا الإقليمية، فلم يكشف أي من الجانبين عن تفاصيل ما دار بشأنها، عدا ما نشره بعض المواقع الروسية نقلاً عن "مسؤول رفيع المستوى في الإدارة الأميركية، قال أثناء موجز صحافي نشرته وزارة الخارجية، إن بايدن وبوتين ناقشا الملف السوري، بالإضافة إلى أفغانستان، بين القضايا الإقليمية التي تتطابق فيها بعض مصالح دولتيهما، حيث تم الاتفاق على البحث عن سبل للتعاون". وأضافت نقلاً عن هذا المسؤول الذي لم تشر إلى اسمه، أن "مراجعة" ستجرى في غضون شهر في الأمم المتحدة لتحديد ما إذا كان سيتم توسيع الممر الإنساني في سوريا. وعما إذا كان بايدن تلقى أي التزامات من بوتين بإبقاء أو حتى توسيع عملية تقديم المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى سوريا، قال المسؤول الأميركي: "لم تكن هناك أي التزامات، لكننا أكدنا بوضوح أن هذا الأمر يحظى بأهمية كبيرة بالنسبة إلينا، وإذا كان هناك أي تعاون في المستقبل بشأن سوريا، فينبغي أن نرى بالدرجة الأولى توسيع الممر الإنساني".
وكان بوتين توقف في مؤتمره الصحافي للرد على موقفه من اتهامات نظيره الأميركي له بأنه "قاتل"، وما إذا كانت هذه القضية وجدت لها متسعاً على مائدة مباحثات جنيف، قال بوتين إن هذه القضية لا تشغله، ذلك لأن الرئيس بايدن اتصل به في اليوم ذاته الذي أعلنت فيه هذه التصريحات، وشرح له كل ملابساتها، وجرت مناقشتها معه والاستماع إلى تفسيراته بهذا الشأن، وهو ما قال بوتين بشأنه إنه "راض عما قدمه بايدن من تفسيرات". وحول طرح فكرة اللقاء الذي تم التوصل إلى اتفاق حول انعقاده، أكد أنه لا يعير مثل هذه الأمور اهتماماً، ولا سيما أنها تتعلق بمسؤوليات القيادات السياسية في كل بلدان العالم. وأشار في هذا الصدد إلى القيادات الأميركية بشكل غير مباشر، مؤكداً مسؤولياتها تجاه مصرع ومقتل كثيرين في أفغانستان والعراق وأماكن أخرى في مختلف أنحاء العالم.
نبرة "تسامح"
وعلى الرغم مما اتسمت به إجابات وتصريحات بوتين من نبرة "تسامح" تجاه سياسات الولايات المتحدة، فإنه عاد ليلقي على عاتقها بمسؤولية تدهور العلاقات بين البلدين، مديناً على نحو غير مباشر ما اتخذته من قرارات حول العقوبات والقيود التي فرضتها ضد بلاده، وكانت من أسباب عرقلة التنمية الاقتصادية، وإن حرص على عدم تضخيم آثارها.
وذلك كله وغيره مما تناولته مباحثات جنيف من موضوعات، ما تعكف المؤسسات الروسية ذات الصلة على دراسته، في الوقت الذي بدأت فيه الأوساط الإعلامية الموالية في معظمها للكرملين، على تحويل مؤشرات بوصلة العلاقات الروسية الأميركية صوب التهدئة والبحث عن نقاط الاتفاق لتضخيمها والتركيز عليها، وتضييق مساحات الخلافات التي تتراجع استعداداً لمرحلة جديدة، ثمة من يقول إنها لا بد أن تشهد عديد التنازلات المتبادلة التي قد تطمس كثيراً من القضايا، ومنها المتعلقة بالأوضاع في الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي، والنقاط الساخنة في إفريقيا التي لم تجر الإشارة إلى أي منها في جنيف، حسب ما نشرته الأجهزة الإعلامية في موسكو.