إذا كان الكاتب السويسري فردريك دورنمات قد دنا بشيء من المواربة مما سمي عن بدايات النصف الثاني من القرن العشرين بـ"قضية أوبنهايمر"، التي يمكن تلخيصها بالصراع الداخلي لدى العالم بين العلم والأخلاق، فإن الكاتب بيتر سيلّار والموسيقي جون آدامس عرفا كيف يدنوان بشكل أكثر مباشرة من الموضوع نفسه ولكن متأخرين كثيراً، أي في العام 2005، حين أنجزا وعرضا مغناتهما "مستر آتوميك" التي أثارت ضجة كبيرة من حول موضوعها، ويبدو أنها وجدت جذورها في مشروع كان الكاتب المسرحي آرثر ميلر يحاول إنجازه عبر مسرحية عن أوبنهايمر نفسه.
لقاء الكاتب والعالم
ففي كتاب مذكراته المُعنْوَن "انحناءات الزمن" يروي آرثر ميلر، تفاصيل لقاء أجراه مع عالم الذرة الأميركي جوليوس روبرت أوبنهايمر أوائل سنوات الستين، أي قبل أعوام قليلة من رحيل هذا العالم في 1967. يقول ميلر إنه وجد أوبنهايمر شديد المرارة، شديد الحزن، يائساً من كل شيء. ولم يكن ذلك بسبب مرضه الذي أودى به بعد فترة، أو بسبب أنه كان عارفاً أنه سيموت قريباً لا محالة، بل لأن الرجل لم يبرأ أبداً من الحزن والاكتئاب اللذين أصاباه بعد أن أسقط الأميركيون سلاحهم النووي الفتاك على مدينتي هيروشيما وناغازاكي. فأوبنهايمر -ودائماً كما يروي ميلر- كان يشعر أنه صاحب مسؤولية في ما حدث، وكان يرى أن حالته تستدعي بحثاً معمقاً حول مسؤولية العالم إزاء النتائج التي يسفر عنها علمه. والحال أن ما كان يقلق أوبنهايمر طوال العقود الأخيرة من عمره كان يمكن تلخيصه في كلمتين "العلم والأخلاق". صحيح أنه لم يكن هو الذي أصدر الأمر بقصف هيروشيما وناغازاكي، ولم يكن هو الذي ضغط على الزر، ولكن ألم يكن هو الذي أنفق سنوات طوالاً من حياته مشتغلاً على ذلك السلاح الرهيب، غير مدرك أنه باشتغاله ذاك، إنما كان يضع الإنسانية كلها على حافة الهاوية.
من دورنمات إلى "مستر آتوميك"
والحقيقة أن تلك التساؤلات المؤلمة وتلك الكآبة وذلك القلق، مما أحسّه آرثر ميلر يخيّم على جلسته مع أوبنهايمر، يضعنا مباشرة في صلب القضية التي عرفت بـ"قضية أوبنهايمر" وأسالت كثيراً من الحبر وضروب السجال طوال سنوات الخمسينيات والستينيات. وربما يفسر انتقال قضية أوبنهايمر من الطرح "السجالي" الخجول الذي نجده في مسرحية "علماء الطبيعة" لدورنمات، التي لا تشير بصورة مباشرة إلى أوبنهايمر، إلى التصريح المباشر في تلك المساهمة الفنية الأوبرالية التي أعادت القضية إلى الواجهة عند بدايات القرن الحادي والعشرين، جاعلة من أوبنهايمر نفسه شخصيتها الرئيسية، ومن حيرته وحزنه موضوعها الأساسي.
موقفان في شهر واحد
تتألف المغناة من فصلين يحدثاننا عن تاريخين محددين. ففي الفصل الأول نجدنا في حصن آلامو، حيث تدور الاستعدادات للقيام بتجربة نووية وقبل شهر من موعد التجربة، وفي الفصل الثاني والأخير نجدنا في صبيحة اليوم نفسه الذي يتم فيه تفجير القنبلة التجريبية. وإن كان الفصل الأول يرينا إرهاصات القلق الذي سوف يستبد بأوبنهايمر وقد وعى متأخراً خطورة ما فعله وهو المعروف بـ"أبي القنبلة"، فإن الثاني يرينا إياه وقد تحول قلقه إلى غضب كبير وندم، نعرف، وكما يروي ميلر، أنه سوف يصاحبه ويقهره حتى أيامه الأخيرة. والحال أن ما يزيد الطين بلة هنا هو أن منطق المغناة الرافض منطق الحرب يصوّر لنا أوبنهايمر كـ"دكتور فاوستوس" معاصر يخوض رهانه الفاوستي دون أن يدرك أول الأمر ما هو فاعله. ويقيناً أن تلك هي الروحية التي كان آرثر ميلر يريد أن يصورها في تلك المسرحية التي لم ينجزها، والتي اشتغل عليها من خلال لقاءاته أوبنهايمر التي يتحدث عنها في مذكراته.
ذلك المشروع الغامض
أما بالنسبة إلى روبرت أوبنهايمر نفسه فنعرف أنه بالشكل الذي وصفه به ميلر عاش بصعوبة شديدة سنوات حياته التالية للحرب العالمية الثانية وحتى رحيله في 1967 في برنستون بالولايات المتحدة الأميركية، حيث كان في الثانية والسبعين من عمره، وكان أصعب ما يعذبه أن شهرته الأساسية إنما قامت على كونه أشرف في 1945 على صنع أول قنبلة نووية أميركية، وهو الذي كان قد عرف منذ طفولته بالذكاء الخارق وتلقى دراساته الجامعية في هارفرد وكامبريدج، ثم -وهذا أغرب ما في الأمر- في جامعة غوتنغن الألمانية، حيث وضع أطروحة تخرّجه في مجال الفيزياء الكمية باللغة الألمانية التي كان يتقنها إتقانه الإنجليزية. وفي 1929 حاز على مقعد تدريس خاص في جامعة بركلي، وبدأ منذ بداية 1942 بالعمل على المشروع السري الذي عرف باسم "مشروع مانهاتن"، وكان العمل عليه يجري في منطقة لوس آلاموس. الحقيقة أنه لم يكن أحد يعرف عن المشروع سوى أنه يهدف إلى إنتاج القنبلة النووية، وأنه واحد من مشاريع عدة مشابهة هي قيد الإنجاز في مناطق مختلفة. بيد أن ما كان يميز مشروع أوبنهايمر أن الرجل يستفيد فيه من معلومات وبحوث تمكن من الاطلاع عليها خلال وجوده في ألمانيا. ومن هنا، وعلى رغم تعدد المشاريع، لم يكن أحد يدري وقتها أن المشروع الأساسي كان المشروع الذي يجري تحت إشرافه، حيث كانت أولى التجارب على التفجير قد أجريت بنجاح يوم 16 تموز (يوليو) 1945، أي قبل ثلاثة أسابيع من استخدام السلاح النووي استخداماً فعلياً لتدمير مدينتين يابانيتين، ما وضع حداً للحرب العالمية الثانية.
أخلاق عالم
والحال أنه منذ اللحظة التي أعلن فيها عن إسقاط السلاح النووي فوق المدينتين اليابانيتين، طرأ تبدل كبير على أخلاق أوبنهايمر ونفسيته سيشكل طبعاً الموضوع الجوهري لمغناة "مستر آتوميك"، تبدل كشف عن أن هذا العالم الفذ حين راح طوال سنوات عدة من عمره يشتغل على صنع السلاح النووي، لم يكن ليصدق أن يوماً سيأتي ليشهد استخدام هذا السلاح بالفعل، خارج إطار التجارب العلمية في الصحارى والأماكن المقفرة، ثم خارج إطار الاستخدام السلمي كطاقة بديلة. ومن هنا التبدل الذي طرأ عليه. بل يقال، وهذا تحديداً ما اختارت المغناة الحديث عنه، أن هذا التبدل كان قد أصابه غداة التجارب التي أجريت يوم 16/7/1945 في آلامو، وحين شهدها بنفسه شاهد ذلك الدمار الذي يتسبب به سلاح كان هو أباه الفعلي، أولاً بوصفه عالم ذرة مرموقاً، وثانياً بوصفه مدير مركز البحوث النووية في لاس آلاموس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل هناك من يبالي؟
ولكن هل كان ثمة حقاً من يبالي بحيرة العالم ورعبه؟ إننا نعرف بالطبع وهو ما تقوله المغناة وما كان أوبنهايمر يردده آخر حياته وحسب شهادة ميلر، أن منطق الرئيس الأميركي ترومان هو الذي انتصر يومها وأن القنبلة أصابت أهدافها. أما أوبنهايمر فإنه بعد فترة من الانقطاع عن العمل والكآبة، عاد إلى مركزه العلمي ليصبح مستشاراً للحكومة في مجال السياسة النووية. ولكن في 1953 عاد الرجل ليفجر قضية جديدة تتعلق هذه المرة بالقنبلة الهيدروجينية، التي أتاح له الإعلان عن تصنيعها أن يقفز من جديد إلى واجهة الاحتجاج ويتزعم فريقاً من العلماء وقف ضد القنبلة. هذه المرة كانت المكارثية مستشرية في طول الولايات المتحدة وعرضها، وتمكنت لجنة السناتور ماكارثي من أن تدفع الحكومة إلى إبعاد مستشارها في مجال الطاقة النووية، عن أية وظيفة حكومية، والتهمة: الاتصال الوثيق بالشيوعيين وبمن يناصرونهم من ناحية، ومن ناحية ثانية الخروج عن الطريق الأميركي القويم والوقوف ضد تصنيع القنبلة الهيدروجينية. وفي شهر حزيران (يونيو) 1952، وبعد سجال سياسي وعلمي طويل ومتشعب كان موقف أوبنهايمر ومصيره محوره، قرر القضاة الأميركيون أن وجود أوبنهايمر في ذلك المركز الحكومي الخطير من شأنه أن يشكل خطراً حقيقياً على أمن الدولة، حتى لو كانت القرائن التي استخدمت هذه هزيلة للغاية.
هكذا ولدت القضية
منذ ذلك الحين ولدت قضية أوبنهايمر، وصارت محوراً لكتب ودراسات بل محوراً لمسرحيات وقصص ولتلك الأوبرا التي تحدثنا عنها أعلاه. وبدأ النقاش حول مسؤولية العالم ودوره السياسي يتشعب. أما أوبنهايمر فقد انغلق على نفسه وعاش حزيناً وغاضباً بقية سنواته، من غير أن يخفف في ذلك أن الرئيس جون كينيدي أعاد إليه اعتباره في 1963، وأنه هو نفسه تابع بحوثه في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية في جامعة برنستون حتى أيامه الأخيرة.