أيقونات خالدة في عالم السينما والغناء في الوطن العربي، حُفرت أسماؤهن ووجوههنّ في ذاكرة كل عائلة، وأصبحن مع مرور الزمن جزءاً من وجداننا وثقافتنا.
هنّ نساء قويات، مغنيات وممثلات، يحتفي معهد العالم العربي في باريس بتاريخهن الطويل في معرض "ديفا: من أم كلثوم إلى داليدا" الذي يأخذنا في رحلة غنية بمقتنياتٍ لم تُنشر غالباً، من بينها صور فوتوغرافية، ومقتطفات من الأفلام أو الحفلات الموسيقية الأسطورية، وملصقات سينمائية، ورسومات، وفساتين مسرحية رائعة، وأغراض شخصية، ومقابلات نادرة.
رحلة إلى الزمن الجميل بمحطاتها وأسمائها الكثيرة: أسمهان، وفيروز، وأم كلثوم، وداليدا، وليلى مراد، وسامية جمال، وسعاد حسني، وتحية كاريوكا، وبديعة مصابني، ومنيرة المهدية، وغيرهنّ كثيرات.
ومع كل اسم في المعرض، يُسلّط الضوء على مجتمع مدن وبلدان كانت حاضنة مهن المرأة العربية الاستثنائية في ذلك الوقت، فبين الصور والمقتنيات المعروضة ثمة بقايا مسافرة من مصر ولبنان وسوريا والمغرب والجزائر ومن باريس أيضاً. جميعها أماكن عاشت نضال نساء تمرّدن على السائد واستطعن الوصول إلى العالمية.
وفي تصريحٍ لـ"اندبندنت عربية"، أكدت القيِّمتان على المعرض حنا بوغانم وإيلودي بوفارد أن هذه هي المرة الأولى التي يجمع فيها معرض بين عديد من الرموز العظيمة التي أحدثت ثورة حقيقية في الموسيقى والسينما في العالم العربي. إنه فرصة حقيقية لبعض الناس لاكتشاف دور وتأثير هؤلاء النساء في المجتمع وفي تاريخ العالم العربي. وسيتمكن الناس من الاقتراب قدر الإمكان من المغنيات والفنانات اللاتي يشكلنّ جزءاً من التراث المشترك بفضل ما يُعرضُ من مقتنيات شخصية أو ما يُبث من مقابلات نادرة.
وأوضحت بوغانم أن المعرض يتيح فهم التطورات الفنية والمجتمعية والسياسية في القرن العشرين من خلال منظور المرأة. يمنح الجزء الأول المخصص للرواد مكاناً للفنانات اللواتي لعبن دوراً أساسياً في مصر في عشرينيات القرن الماضي، واللواتي أفسحن المجال حقاً للمغنيات العربيات العظيمات. للأسف، تم نسيان هؤلاء النساء الحالمات والرائدات، لذا فهذه فرصة لإعادة تأهيل دورهن في التاريخ. بالإضافة إلى ذلك، ومن خلال المعرض، نكتشف نساء تحررن من السيطرة الأبوية وشاركن في الثورات الفنية في القرن الفائت.
وقالت بوفارد إن أم كلثوم وأسمهان وفيروز ووردة مغنيات عظيمات، جئن من خلفيات اجتماعية ومعتقدات مختلفة، ما يظهر تنوع الحياة والقصص في العالم العربي. نكتشف أيضاً أن هؤلاء النساء أصبحن أيقونات تلهم المجتمع المعاصر. إن شجاعتهن في العثور على مكان خاص بهن وعيش شغفهن يجعل منهن ممثلات للنضالات النسوية الحالية.
وعن التحضيرات للحدث، قالت بوغانم: "قمنا بكثير من العمل الاستقصائي للعثور على عائلات المغنيات. ذهبنا إلى القاهرة وبيروت والجزائر العاصمة لمقابلتهم وإقناعهم بالمشاركة في المشروع. كان تقديم الأغراض الشخصية في المعرض هو التحدي الحقيقي للمشروع. عندما لم يكن ذلك ممكناً، استغرق الأمر بعض الإبداع لتمثيل رحلات بعض المغنيات بشكل أفضل".
وأضافت بوفارد: "كان من المهم أيضاً بالنسبة إلينا إنشاء معرض يفيض بالمشاعر. لقد عملنا كثيراً في رحلة الصوت مع المتخصصين للانغماس في الموسيقى طوال فترة المعرض. كان من المهم بالنسبة إلينا ألا يتم عزل الزائر بالخوذ ولكن يمكنه مشاركة هذه التجربة. يجب أن تكون أجهزة الصوت مضبوطة بدقة لإنجاح هذا العمل".
رائدات في الفن والنضال
يتألف المعرض الذي سيستمر حتى 26 سبتمبر (أيلول) المقبل من طابقين، وستبدأ الزيارة حتماً من الطابق الأول، من تلك الغرفة المظلمة بكل ما فيها من رهبة وعشق، كأنها بوابة سحرية تسمع فيها صوت أم كلثوم يمتزج مع صوت وردة وصوت فيروز. في تلك اللحظة، وما إن تفتح الستارة بيديك، ستستشعر رائحة السنين وستشاركك روحك في استكشاف زوايا المكان بغرفه وأقسامه العديدة، فلتشاهد ولتسمع ولتستنشق أيضاً.
تركّز معروضات الطابق الأول على دور المرأة العربية في بناء مجتمعات القرن العشرين، وهو ما سمّي بالنضال النسوي. ومن خلال جناح مصغّر لأحد الصالونات النسائية، عُدنا بالزمن إلى حركات تحرير المرأة وما كانت تطرحه وتناقشه من قضايا مهمة، مثل الحجاب، والتعليم، وحق المرأة في التصويت، وحقها في اختيار الشريك المناسب، كما وقفنا أمام أسماء لمعت في هذا الشأن: آسيا داغر وعزيزة أمير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولحرية الصحافة قسم خاص في هذا الطابق، تؤكّده "روز اليوسف" التي بدا واضحاً أن صفحاتها كانت تقدّم نقداً لاذعاً للمجتمع برموزه السياسية، دون خوفٍ أو مراعاة.
تلك فترةٌ ذهبية اجتمع فيها الفن مع الثقافة والفكر، فكان لا بدّ من زاويةٍ خصوصاً مع الرواد، واحدة لبديعة مصابني التي أسست فرقة للتمثيل والرقص قدّمت أعظم الأسماء الفنية، وأخرى لسلطانة الطرب منيرة المهدية بفنها العظيم وشهرتها الكبيرة.
أصوات ذهبية ومقتنياتٌ شخصية وأحلام قديمة
ننهي جولتنا في الطابق الأول، ونصعد الدرجات لنرى ماذا يخبّئ لنا الطابق الثاني، ومن كان يعرف أننا نصعد نحو حلم الأمس!
جناحٌ لأم كلثوم، تحضر فيه فساتينها ومنديلها الشهير. إنه شعورٌ غريب، يشبه الدخول في لعبة الزمن والعودة نصف قرن وأكثر إلى الوراء. الرائحة قوية جداً، عتيقة تملؤك بالحنين. تصبح المشاعر أغرب، مع مقتنيات وردة الجزائرية، هي مقتنيات شخصية جداً، سُمح لمعهد العالم العربي بعرضها، فحتى جوازات سفرها القديمة كانت هناك بانتظارنا.
أما أسمهان بحياتها الغامضة، فكان ثمة أغراض قليلة تحكي عنها، معظمها بوسترات لأفلام وصور فوتوغرافية قديمة عُرضت على حائطٍ تقودنا نهايته إلى جناح الملكة فيروز، لتلتقي عن قرب بالإرث الرحباني، وتشاهد وتستمع إلى مقابلاتٍ نادرة لها.
أثناء الجولة، ستسنح لك الفرصة بالدخول إلى مسرح صغير يمتلئ بصورٍ حقيقية توثّق ملامح الدهشة التي لطالما ارتسمت على وجوه جماهير الفن الجميل، فلتجلس وتصغ وتُدهش كأنك واحدٌ منهم، وستساعدك أصوات أم كلثوم ووردة وفيروز في أن تعيش الطقس كاملاً.
تنتهي جلستك في المسرح، ثم تتجه إلى جناح العصر الذهبي للسينما لتكتشف أفيشات الأفلام القديمة، مقتطفات بالفيديو أو بالصور الثابتة من هذه الأفلام وأيضاً ملابس ومقتنيات خاصة للشحرورة صباح، وداليدا، وهند رستم، وتحية كاريوكا وليلى مراد.
هذه "التوليفة" العجيبة بين الشخصيات والأغراض تزيد من سحر اللحظة وتستدعي عديد المشاعر المتناقضة.
مساحة لآراء فناني اليوم
أتاح المعرض للفنانين المعاصرين عرض وجهات نظرهم ومقارباتهم الفنية والثقافية لفن الزمن الماضي، حيث قدّم عدد من الفنانين والمخرجين أعمالاً بتقنياتٍ وأساليب مختلفة عبّروا فيها عن آرائهم حول التجارب الرائدة في العالم العربي، ومرروا رسائلهم للأيام المقبلة.
ضمن هذا المجال، يعرض المخرج يوسف نبيل فيلمه القصير "لقد أنقذت راقصتي الشرقية" الذي أنهاه عام 2015، وهو من بطولة الممثل طه الرحيم وسلمى حايك.
يتألف الفيلم من ثلاث لوحات حالمة تسافر بالمشاهد من فترةٍ كان فيها الفن العربي يعيش عصراً لامعاً برموزه الكبيرة والعظيمة "نيلوود"، إلى فترة شهدت انتقال الصناعة الفنية والثقافية من العالم العربي إلى هوليوود. ويحتفي فيه نبيل بالرقص الشرقي كفنٍ لمع في خمسينيات القرن الماضي، وهو يخشى أن يراه يختفي.
انعكاس لمرور الزمن في "سُليمى"
فيلم آخر عن الحنين ربما، أو عن الذاكرة المتعبة، ترويه لنا بشخصياته وصوره المخرجة والمؤرخة اللبنانية شيرين أبو شقرة، التي صوّرت في فيلمها "سُليمى" انعكاساً لمرور الزمن من خلال قصة فنانة تستعيد مراحل حياتها خطوةً تلو الأخرى. البداية من مرحلة الصعود ثم مرحلة المجد والازدهار، وكما أي قصةٍ أخرى يحين دور الخاتمة لتجد الفنانة نفسها وحيدةً بعيدةً عن أضواء الشهرة.
كل ما سبق، كان يجري في الفيلم بفعل الذاكرة أولاً، وعلى أنغام أغنية سليمى للفنانة زكية حمدان، ثانياً. وبدا لنا أن أبو شقرة كانت تريد إسقاط مراحل حياة بطلة فيلمها على مراحل الإنسان العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث الحنين إلى الزمن الذهبي هو جوهر الفكرة.
وفي حوارٍ مع "اندبندنت عربية"، قالت: "كمؤرّخة لا أرى حقبات التاريخ ضمن تصنيفات عصر ذهبي أو عصر انحطاط حتى لو كان هناك ثمة نمط عام من الخيبات أو الانتصارات يميز عصراً دون غيره. لكننا في الوقت نفسه، لا نستطيع أن ننكر ما كانت تعنيه فترة ستينيات القرن العشرين بالنسبة إلى العالم العربي، فقد كانت نفحة أمل ثقافية وفنية وفكرية أيضاً. حملت معها نتائج الاستقلال من الاستعمار، انعكست فيها الثورة الطلابية الفرنسية عام 1968، بالإضافة إلى بروز أعلام الفكر والفن، وصعود جمال عبد الناصر الذي التفت حوله الشعوب.
كل ما سبق وغيره كثير طبعاً، يجعلنا ننظر إلى تلك الحقبة بعينٍ من الحنين وقليل من الحسرة. إلا أن هذا لا يعني أبداً أن اليوم لا يحمل معه إيجابياته على صعيد الفن والثقافة، مقارنةً بصعوبة الحياة وتعقيداتها الراهنة".
ثم أوضحت: "نعم الزمن الماضي كان جميلاً، لكنني سعيدة لأنني أعيش اليوم. لقد حققت المرأة نجاحات مثيرة مع التطور التكنولوجي الحاصل، في الزمن الماضي مثلاً لم تكن تقوى على حمل الكاميرا الضخمة والثقيلة، أما الآن فيمكنها أخذ كاميرتها والتصوير أينما ذهبت، هذا يسهّل من رغبتها الإبداعية. ومن جهةٍ أخرى، فإن مساحة الحرية الحالية هي من دون شك أوسع من ذي قبل أمام المرأة العربية، حتى لو كان الأمر في ظاهره يبدو عكس ذلك".
فيلم أبو شقرة يحكي عن الماضي بلغة الحاضر، استخدمت فيه تقنيات مختلفة ودمجت أنواعاً فنية عديدة، فنجد فيه الشعر، والموسيقى، والجرافيك، والغناء، والتمثيل والرقص. وهنا أكّدت أبو شقرة: "تحدثت عن التاريخ بوسائط جداً حديثة، وربما استخدامي أكثر من تقنية جعل الصورة دائماً ممتلئة بالتفاصيل والأحداث، وهذا سببه أنني لا أريد أن أضيّع وقت المشاهد أولاً، ولأنني أخاف من الفراغ ثانياً. كما أنني أعمل ببطء وحرية وبالتالي يكون لدي وقت للتجريب والتجديد والإضافة".
شيرين نشأت تبحث عن أم كلثوم
ضمن أفلام المعرض، يبرز فيلم "البحث عن أم كلثوم" للفنانة والمخرجة الإيرانية شيرين نشأت، التي تحدثت مع "اندبندنت عربية" عن سبب صناعتها هذا الفيلم، وقالت: "نشأت مع موسيقى أم كلثوم منذ طفولتي في إيران، لذلك كنت على دراية بموسيقاها وإرثها في الشرق الأوسط. ومثل أي شخص آخر، أثرت موسيقاها في روحي بعمق. لكن هوسي أصبح فهماً لنضالات وتحديات أم كلثوم كفنانة تعيش في مجتمع يهيمن عليه الذكور، واستمر حتى استطعت مقاربة أسطورتها فنياً. أم كلثوم ظاهرة نادرة وغير مسبوقة حتى في الثقافة الغربية، حيث عادة ما يكون لمعظم الفنانات الأيقونات خصوصاً المغنيات نهايات مبكرة ومأساوية، مثل الانتحار وإدمان المخدرات، إلا أن أم كلثوم ظلّت حتى النهاية قوية وبقيت حياتها متماسكة".
وأكملت: "أصبح هذا الانبهار أكثر حدة عندما نظرت إلى تحدياتي الخاصة كفنانة أثناء محاولتي الموازنة بين الإخلاص لفني، والرغبة في الحياة العادية والتقليدية، مثل تربية طفلي. لقد فهمت كيف تخلت أم كلثوم عن الحياة التقليدية، وبدلاً من ذلك أعطت كل شيء لمسيرتها المهنية ومعجبيها وموسيقاها. ربما أرادت أن تبني إرثها الخاص بعد وفاتها، امرأة لا يمكن تذكرها إلا من أجل فنها، ومن أجل مساهمتها في بلدها وليس من أجل الأحداث الشخصية الصغيرة في حياتها".
وحاولت نشأت أن تشرح لنا، كيف أنها بطريقة ما ومن خلال النظر إلى فنانة شهيرة مثل أم كلثوم، حاولت العثور على إجابات لمعضلتها وأسئلتها الشخصية، كامرأة وكفنانة. ومن المفارقات أن فيلمها الطويل "البحث عن أم كلثوم" أصبح في النهاية فيلماً داخل فيلم، قصة أم كلثوم وأيضاً قصة مخرجة إيرانية تحاول سرد قصة هذه المطربة العظيمة التي من المستحيل سرد قصتها، فأم كلثوم أسطورة ولا يمكنك إزالة الغموض عنها أبداً.
ونشأت ترى أن أم كلثوم كانت فنانة يحبها أبناء بلدها، ولم تكن لديها مشاكل مع قادته السياسيين، أما هي كفنانة إيرانية في المنفى، فمكروهة من حكومتها وتعيش بعيداً عن بلدها منذ عقود عديدة.
وأجابت نشأت عن سؤالنا: هل وجدت أم كلثوم؟ فقالت: "بعد أن أمضيت ست سنوات في العمل على الفيلم، وبعد السفر إلى مصر ومقابلة الخبراء وبعض أفراد عائلتها، اكتشفت أنه من المستحيل أن أصل إلى حياة أم كلثوم الخاصة، هي لم ترغب أبداً في الاقتراب من حياتها الشخصية، بل أرادت أن يتذكر الناس فنها. كانت موهبة نادرة، تصاعدت شعبيتها حتى وفاتها، وهي خالدة".
الأطلال...
منذ افتتاحه في 19 مايو (أيار) الفائت، يزور الفرنسيون المعرض الممتد على مساحة 1000 متر مربع، يتوقفون أمام كل صوره، يقرؤون التوصيفات والشروحات المعلّقة باللغة الفرنسية في جميع الأجنحة، ويستمعون طبعاً إلى أغانينا القديمة، قد لا يفهمونها لكنهم يشعرون بها بمساعدة اللحن والطقس العام.
المعرض فرصة حقيقية للزائر الأوروبي وغير العربي، ليحاول أن يفهم تاريخنا الذي نصرّ أن نطلق عليه اسم "الزمن الذهبي"، فبينما نستمع اليوم إلى أم كلثوم تغنّي:
"كان صرحاً من خيالٍ فهوى
اسقني واشرب على أطـلاله
واروِ عني طالما الدمع روى
اسقني واشرب على أطـلاله
واروِ عني طالما الدمع روى
كيف ذاك الحب أمسى خبراً
وحديثاً من أحاديث الجـوى"
نميل برؤوسنا طرباً، ونتنفس حسرةً على ما نحن فيه.