تسع ممثلات شابّات موهوبات أدَّين ببراعة وصدق وجمالية نصّ نوال السعداوي "مذكّراتي في سجن النساء" على مسرح المدينة في بيروت، في عرض بعنوان "سجن النساء"، إعداد لينا أبيض وإخراجها. وتبدع لينا أبيض مرة ثانية في تقديم هذا النصّ، من بعد أن أخرجته وعرضته عام 1998 بحضور الكاتبة المصرية نوال السعداوي نفسها، التي حضرت إلى بيروت آنذاك، وشاهدت المسرحية بشخصياتها الأربع عشرة، وشاركت في جلسة حوار ونقاش وهنّأت لينا أبيض على مهارتها وحرفيّتها.
وقد خسر العالم العربي نوال السعداوي الطبيبة والكاتبة والناشطة في قضايا المرأة والمجتمع قبل بضعة أشهر (1931- آذار/ مارس2021)، خسر هذه السيدة التي رفضت التعصّب والظلم والاستبداد والتفرقة والعنصرية والطغيان، لتأتي هذه المسرحية وتضرب عصفورين بحجر واحد: فهي من ناحية أيقظت مسرح بيروت الراقد بسبب وباء كورونا البائس والوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي في العاصمة اللبنانية. ومن ناحية ثانية قدم العمل تحية حب واحترام واعتراف بالجميل لامرأة حملت حقوق الإنسان على كتفيها ودافعت عن الإنسان العربي، امرأة ورجلاً، في وجه الظلم والقهر والقمع والطغيان.
ومَن قرأ نصوص السعداوي، من روايات ومذكرات ومقالات، يعرف شجاعتها في إبداء مواقفها ويعرف كذلك دفاعها الشرس عن المرأة وحقوقها وحثّها الأنثى على الدراسة والعمل وعدم الانصياع للظلم وعدم القبول بالدونيّة. وتتطرق السعداوي في روايتها "مذكّراتي في سجن النساء" التي صدرت للمرة الأولى عام 1983 عقِب خروجها من السجن، إلى مسألة حرية إبداء الرأي وحرية المعارضة السياسية وحرية الاختيار، وهي الأسباب التي أودت بها إلى السجن في المكانة الأولى عام 1981، أي على عهد الرئيس أنور السادات، الذي أمر آنذاك بسجن المفكرين والمثقفين خوفاً من ردود فعلهم على اتفاقية كامب دايفيد وخوفاً من أن يجيّشوا الشعب ضده.
قصص النساء الأخريات
لم يكن السجن يوماً حكراً على الرجال، وقد استغلت نوال السعداوي في نصّها وجودها في سجن القناطر في مصر، بين نساء كثيرات، لتخبر قصصهنَّ ومشاكلهنَّ وضروب الظلم التي تعرّضنَ لها. وقد نجحت لينا أبيض في تمثيل هؤلاء النساء عبر تلميذاتها التسع في الجامعة، اللواتي أدّين أصوات نوال السعداوي وزميلاتها في السجن من لطيفة الزيّات وعواطف عبد الرحمن، مروراً بالمنقّبة أو "بدور" التي تعتبر الفرح حراماً والرقص حراماً والرياضة حراماً، بحسب ما علّمها إيّاه مجتمعها.
وعلى خشبة مسرح يسيطر عليها عنصر النساء، يخرج صوت السجّان أو المحقّق أو المحامي من بين الجمهور أو من خارج فضاء الأداء المسرحي، وكذلك يخرج صوت موسيقى الساكسوفون البديعة من بعيد، لتبقى الخشبة مساحة أنثوية تتحرك فيها الممثلات وينقلن أوجاعهنَّ وهمومهنَّ ومآسيهنَّ، ولتنقل نوال معاركها وصراعاتها ورفضها الدائم والمستمر الظلم والقمع وانتهاك الحقوق.
وتُوائم أبيض بين النصّ والصمت والخبط بالأقدام على الأرض وهي من صنع ممثلاتها، وبين الساكسوفون الذي يدخل من حين إلى آخر ليحرك النصّ ويُخرج الجمهور من رتابة فن السيرة الذاتية المعتمد. فتأتي أغانٍ كمثل "طلعت يا محلا نورها، شمس الشمّوسة" أو أغنية "حلوة يا بلدي" أو حتى النشيد الوطني المصري لتُدخل الجمهور في دوّامة لذيذة من الموسيقى والجذالة إلى جانب الغضب والاستنكار.
الكتابة والخوف
اعتُقلت نوال السعداوي في بيتها يوم الأحد 6 سبتمبر (أيلول) 1981، بينما هي منهمكة في كتابة رواية تعمل عليها منذ سنوات. وبعد الطرق الشديد على الباب ودخول الجيش بالقوة وتفتيش البيت بطريقة عنيفة غير منظمة ولا مقبولة، تُعتقل السعداوي من دون إذن أو مذكرة توقيف أو أي ورقة قانونية رسمية، فتبدأ دوّامة السجن ومصائبه.
وتجسّد لينا أبيض على خشبتها نوال السعداوي الغضب والرفض والمطالبة اليومية الدائمة بالحقوق والتحسينات. طلب واحد يُرفض بشكل قاطع حازم حاسم لا عودة عنه: الورقة والقلم. تطلب الكاتبة والروائيّة الناشطة ورقة وقلماً فيجيبها السجّان قائلاً: "اطلبي كل شيء سوى الورقة والقلم. الحصول على السلاح والكلاشين أسهل". يعكس خوف السجّان من الورقة والقلم في سجن سجينات السياسة والرأي خوف المنظومة بأسرها، المنظومة الدينيّة والمنظومة السياسيّة والمنظومة الاجتماعيّة من الكتابة والفكر.
ومن الجدير بالذكر أن نوال السعداوي اعتُقلت وغيرها من المثقفين والمفكرين والصحافيين المناضلين والأحرار تنفيذاً لقرار أصدره الرئيس أنور السادات وسماه قرار التحفظ، وهو قرار سجن بموجبه ما يربو على الألف وخمسمئة مفكر من بينهم نوال السعداوي، بسبب مواقفهم المناهضة لاتفاقية كامب دايفيد. لكن السعداوي رفضت ما وقع لها وبقيت على نضالها وتشبثها بالعدل والحق.
وعلى الرغم من أن السجن قد يحبط عزيمة أي امرئ فإن الكتابة والورقة والقلم والحق والحرية ظلت الشغل الشاغل لهذه الكاتبة الصلبة، التي ظلت تردد على مسامع السجينات الأخريات: "لن نموت ونحن ساكتات"، فعلمت الأمّيّات من السجينات ونادت بحرية المرأة وحقوقها وحجبت كل مقولة ترى في المرأة كائناً "ناقصاً في العقل والدين".
"يجب أن أكسر السجن"
تختار لينا أبيض من بين المقتطفات التي شاءت أن تقدمها في العرض الذي لا يتخطى الخمسين دقيقةً جملة على لسان نوال السعداوي تقول فيها: "عندما صرتُ في السجن لم أعد خائفة" كأن السجن لم يكسر الكاتبة الرافضة انتهاك الحقوق بل حفّزها على رفع صوتها أعلى بعد، فتقول بإصرار وعزيمة: "عشتُ في السجن كأنّني ولدتُ فيه وسأموت فيه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتروح لينا أبيض تعدّد على لسان ممثلاتها المتمكّنات من النصّ في أدائهنَّ، الانتصارات الصغيرة التي تحققها نوال السعداوي على السجن وعلى السجّان وعلى الحياة وعلى المجتمع، فترفض الجلوس حيث يريدون لها الجلوس وترفض الخوف وترفض الذل وترفض الانصياع، حتى إنها تقول وهي التي لم تربط يوماً الضعف بالأنوثة: "علّمني السجن أموراً لم يعلّمني إيّاها الطب". جعلت السعداوي من سجنها مدرستها، بستاناً تزرعه العنب والثمار كفولتير، حجرة زاوية تبني عليها في مسيرتها التي أفادت المرأة العربية وليس المرأة المصرية وحدها.
"سجن النساء" عرض لينا أبيض الذي يقدم نصّ نوال السعداوي "مذكّراتي في سجن النساء" هو نوع المسرح الذي نحتاج إليه في عالمنا العربي اليوم، هذا العالم الرازح تحت نير الظلم والقهر وانتهاك الحقوق. وبينما غادرتنا نوال السعداوي قبل أشهر، تظل كلماتها حاضرة مع قرّائها وقارئاتها، يبقى عزمها وصراعها وحبها العدل والمساواة هي الغريبة في أرضها، هي التي ظلّت حتّى الرمق الأخير "تفتّش عن وطن".