لم تكد تخفت قليلاً أصداء تحذيرات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورسمه خطوطاً حمراء في شأن احتمال ظهور قواعد حلف "ناتو" على مقربة من حدود بلاده، في أوكرانيا وجورجيا، حتى لوّح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد قمة جنيف بين الرئيسين الأميركي جو بايدن وبوتين، باحتمال إنشاء قاعدة عسكرية تركية على أراضي أذربيجان. وكان أردوغان حرص على الانطلاق مباشرة بعد الانتهاء من قمة رؤساء بلدان حلف "ناتو" في بروكسل إلى مدينة شوشا، العاصمة التاريخية لإقليم ناغورنو قره باغ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان، وهناك التقي نظيره الأذربيجاني إلهام علييف، وجرى توقيع ما يسمى "إعلان شوشا" وعدد من اتفاقات التعاون بين البلدين في قضايا المساعدة المتبادلة في المجال العسكري، إلى جانب إنشاء "ممر زانجيزور" الذي سيربط بين أذربيجان وتركيا براً وعبر السكك الحديد، وقد بحث الرئيسان قضايا عدة منها احتمال افتتاح قنصلية تركية في شوشا ومسائل متعلقة بمشاركة الشركات التركية في إعمار قره باغ.
ونقلت وكالات الأنباء المحلية والعالمية ما قاله أردوغان من أنه لا يستبعد إمكان إنشاء قواعد عسكرية لبلاده في أذربيجان بموجب الاتفاق الثنائي المبرم أخيراً بين الدولتين، وفي إطار "إعلان شوشا" بين أنقرة وباكو بشأن تنظيم التحالف بينهما. وعلى الرغم من أن الرئيس الأذربيجاني علييف كان استبق هذا الإعلان بإعلان آخر نهاية العام الماضي يستهدف به تهدئة روع روسيا، شريكه الاستراتيجي، حول أنه "لم تجر بين بلاده وتركيا أية مناقشات بشأن إنشاء قاعدة عسكرية تركية في أذربيجان"، فقد عادت تركيا إلى طرح هذه القضية في توقيت بالغ الحساسية، وثمة من يقول إنه يفسر كثيراً من جوانب ما صدر عن مؤسسات الدولة الروسية من تصريحات تحمل في مضمونها كثيراً من معاني القلق من جهة، والاحتجاج والاعتراض من جهة أخرى.
وكان الكرملين سارع إلى إصدار بيان جاء فيه، "نحن نتعاون مع جمهورية تركيا في استقرار الوضع في منطقة القوقاز، ونحن على اتصال وثيق بأنقرة وباكو ويريفان، ونعتقد أن أية خطوة يجب أن تسهم في زيادة استقرار الوضع في منطقة القوقاز وتطوير البنية التحتية والخدمات اللوجستية وتصحيح الوضع بشكل عام، ويجب ألا تحتوي على أي عناصر قد تتسبب في تصاعد التوترات".
اقتراب "الناتو"
ولم يكد المتحدث الرسمي باسم الكرملين ديمتري بيسكوف يعلن أن "نشر دول في حلف الناتو بنية أساسية عسكرية قرب الحدود الروسية يسترعي الانتباه بشكل خاص من جانب موسكو"، مضيفاً أن "ذلك سبب يدفعنا إلى اتخاذ خطوات لضمان أمننا ومصالحنا"، حتى سارعت مصادر مجلس الدوما المنتهية ولايته إلى إعلان مخاوفها تجاه تصريحات الرئيس التركي. ونقلت المصادر الروسية ما قاله النائب الأول لرئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما ألكسندر شيرين، عن أن أذربيجان "تبدو قريبة من اعتبارها عضواً في حلف الناتو منذ تحالفت مع الجيش التركي ضد دولة عضو في معاهدة الأمن الجماعي"، في إشارة إلى أرمينيا وتحالفاتها مع روسيا وعدد من بلدان الفضاء السوفياتي السابق أعضاء معاهدة الأمن الجماعي. وأضاف شيرين في تصريحاته التي نقلها موقع "جازيتا رو" الإلكتروني، أن "أذربيجان تستهدف التقارب مع الناتو عبر تركيا بصفتها أقدم عضو في فيه"، وهي التصريحات التي انضم إليها زميله نائب رئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما فيكتور زافارزين بقوله إن "الظهور المحتمل لقاعدة عسكرية تركية في أذربيجان يمكن اعتباره توسعاً لحلف شمال الأطلسي".
من هنا يمكن الانتقال إلى ما تعلنه المصادر الروسية عن قلقها من مثل هذه الخطوات من جانب تركيا وأذربيجان، على الرغم من العلاقات الطيبة التي تربطها بروسيا التي أخذت على عاتقها أعباء الوساطة بين أذربيجان وأرمينيا لحل النزاع القائم بين البلدين، وعلى الرغم من أن بياناً صريحاً لم يصدر بعد عن الاتفاق بين أذربيجان وحلف الناتو في شأن تقدم باكو بطلب الانضمام إلى عضوية الحلف، مثلما فعلت جورجيا وأوكرانيا من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق، فإن ما يتردد عن أن تركيا وأذربيجان قريبتان من الاتفاق حول إنشاء قاعدة عسكرية في منطقة شوشا، يستوجب الحرص من جانب الكرملين واتخاذ ما يلزم من إجراءات للرد عليه في الوقت المناسب، بحسب مصادر روسية.
نزع فتيل الانفجار
على أن ذلك ليس القول الفصل في هذا الشأن، فهناك تصريحات تستهدف نزع فتيل انفجار الموقف، والحيلولة من دون تصعيد التوتر في علاقات روسيا مع كل من تركيا وأذربيجان، ومنها ما قاله وزير الخارجية الروسية سيرجى لافروف خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره البيلاروسي فلاديمير ماكيي في موسكو، أنه "لا يعلق على إشاعات". وأشار نيكولاي سيلايف، من جامعة العلاقات الدولية التابعة لوزارة الخارجية الروسية، إلى أن "ما يُقال عن احتمال إقامة قاعدة عسكرية لتركيا في أذربيجان لا يمكن أن يكون توسعاً لحلف الناتو". واستشهد سيلايف في ذلك بما كان الوضع عليه لدى استئجار الولايات المتحدة مطلع القرن الحالي قاعدتها العسكرية في ماناس بقيرغيزستان، مؤكداً أن لا أحد أعرب آنذاك عن مخاوفه من احتمال انضمام قيرغيزستان إلى حلف "الناتو". لكن ذلك قول مردود عليه، بما سارعت قيرغيزستان واتخذته من قرار في شأن طلب إنهاء اتفاق استئجار هذه القاعدة في يونيو (حزيران) 2014 خشية تكريس الوضع القائم، بمساعدة من روسيا التي بادرت واتخذت كثيراً من القرارات لدعم قيرغيزستان اقتصادياً وعسكرياً وإنسانياً من خلال ما قدمته من تسهيلات لاستقبال وتشغيل العمالة القرغيزية في روسيا.
ومع ذلك اتفق سيلايف مع ما قاله المتحدث الرسمي باسم الكرملين بيسكوف، وهو أنه على الرغم من أن الضمانات الأمنية لحلف "الناتو" لا تنطبق على أي قوات لتركيا خارج أراضيها، فإن وجود مثل هذه القاعدة التركية قد يسهم في حال الاتفاق عليه في "تقريب البنية التحتية العسكرية لحلف الناتو من الحدود الروسية".
قلق موسكو
ولطالما أعربت موسكو عن قلقها من تكثيف تركيا نشاطها في عدد من بلدان الفضاء السوفياتى السابق الذي لم يقتصر على البلدان ذات الأصول التركية والروابط العرقية المشتركة في آسيا الوسطى، بل يتعداها إلى أوكرانيا السلافية التي تتزايد خلافاتها مع روسيا تحت إشراف الولايات المتحدة وعدد من بلدان الاتحاد الأوروبي. وكشفت موسكو أيضاً في أكثر من مناسبة عن متابعتها نشاط تركيا في عدد من المناطق التي تجاوزت حدودها المشتركة مع كل من العراق وسوريا، لتصل إلى قطر والقارة الأفريقية في ليبيا والصومال، ومواقع أخرى في حوض البحر الأحمر. وقالت مصادر روسية إن "طموحات تركيا تتجاوز قدراتها الاقتصادية والعسكرية". وننقل عن صحيفة "فزجلياد" أن القوات التركية تتمركز اليوم في أكثر من 10 دول في ثلاث قارات، وتوجد قواعد تركية في العراق وسوريا والصومال ولبنان وقطر، مما يجعلها تحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في مجال انتشار قواتها خارج أراضيها. وأضافت أنه من المعروف أن الجيش التركي سيبقى في أفغانستان بعد انسحاب قوات دول "الناتو" الأخرى من هناك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشارت وكالة أنباء "إنترفاكس" إلى اتفاق الرئيس التركي أردوغان مع نظيره الأميركي بايدن على أن الجنود الأتراك سيحلون محل الجنود الأميركيين في مواقع حول مطار كابول. وفي ما يتعلق بمواقع القوات التركية في أذربيجان، كشفت صحيفة "فزجلياد" عن "أنها لم تغادر هذه الجمهورية منذ عام، حيث نفذت قوات البلدين عشية حرب قره باغ مناورات مشتركة.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2020، ذكرت مصادر صحافية أنه تم نشر 600 مدرب عسكري تركي في أذربيجان، ولم تقتصر مهماتهم على تنسيق الهجوم الأذربيجاني على قره باغ، بل شملت مهمات استخبارية، إلى جانب وجود مدربين وخبراء تشغيل الطائرات من دون طيار في عدد من القواعد والمطارات الأذربيجانية، ومركز المراقبة الروسي - التركي في مدينة أغدام منذ بداية العام الحالي.
الخطوط الحمراء
وقد سبق أن أشار بوتين على نحو غير مباشر وفي أكثر من مناسبة إلى ن بلاده تعي ما يدور حولها من تحركات وأنشطة، وأنها لن تسمح بتجاوز ما وصفه بـ "الخطوط الحمراء" في المناطق المتاخمة لحدود بلاده. وقد تبدّى ذلك في حرصه على الانفراد بمهمة الوساطة بين أرمينيا وأذربيجان لتحقيق التسوية بين البلدين في شأن ناغورنو قره باغ، أو الجمهورية الانفصالية غير المعترف بها منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وإصراره على عدم ضم أي قوات تركية إلى قوات حفظ السلام الروسية التي انتشرت على الحدود المشتركة بين أرمينيا وأذربيجان، فضلاً عن رسائل غير مباشرة موجهة إلى القيادتين التركية والأذربيجانية، تقول بضرورة مراعاة أبعاد الأمن القومي الروسي الذي لا يمكن أن ينتهي عند الحدود الروسية.
وتعليقاً على ما يتناثر من مخاوف من جانب روسيا، وتأكيداً على أن ذلك كله ليس القول الفصل في هذا الشأن، حرصت مصادر أذربيجانية على التخفيف من روع روسيا بإعلانها عن عدم صحة ما يقال عن "احتمال إنشاء القاعدة العسكرية التركية". وكشف توفيق عباسوف، من مركز باكو للتعددية الثقافية، أن علاقات أذربيجان وتركيا لا تقتصر على مجالات التعاون العسكري. وأضاف عباسوف إلى صحيفة "فزجلياد" أن أذربيجان تستورد كثيراً من الأسلحة والمعدات العسكرية من روسيا وبيلاروس وإسرائيل، وأن "الجيش الأذربيجاني تحسن بشكل كبير خلال السنوات الماضية، ولديه فرص كبيرة في المنطقة للاطلاع بالمهمات العملياتية والتكتيكية وحماية حدوده، وأن أذربيجان تملك القوة الكافية لصد الهجمات من جانب أرمينيا أو أي دول أخرى". وقال، "لا شروط مسبقة لإنشاء قواعد تركية على أراضينا". وحرص على الإشارة إلى أن "دستور أذربيجان يحظر من حيث المبدأ نشر القوات الأجنبية على أساس دائم، والعقيدة العسكرية لأذربيجان التي تمت الموافقة عليها في عام 2010 لا تنص على نشر قواعد أجنبية". وأكد عباسوف أن "أذربيجان تتبع بدقة مسارها في عدم الانحياز" و"إعلان شوشا" يتضمن التعاون العسكري التقني وحسب، لكنه لا يذكر شيئاً عن القواعد العسكرية.
على أن ذلك كله لم يمنع الرئيس التركي من التصريح "بأنه من المحتمل، وبموجب إعلان شوشا، ظهور قاعدة عسكرية تركية على أراضي أذربيجان، وأنه من الممكن تطوير هذا الموضوع في سياق المشاورات بين الرئيس الأذربيجاني والروسي"، إلى جانب تأكيده أن موضوع احتمال إنشاء القاعدة العسكرية التركية في أذربيجان لن يتحقق إلا بعد موافقة موسكو، مما يعني ضمناً أن هذه القضايا ستظل ضمن دائرة الرؤية لكل الأطراف المعنية ومنها تركيا، التي أشار رئيسها إلى احتمال لقائه القريب مع نظيره الروسي بوتين، وإن لم تؤكد المصادر الروسية الرسمية ذلك.