ما عرف تاريخ الفلسفة شخصية جدلية توازي في قدرتها على الاستثارة الحية والاستفزاز المنعش شخصية الفيلسوف الألماني فريدريش ڤيلهلم نيتشه (1844-1900). بعد انقضاء ما يزيد على 120 عاماً على وفاته، ما برح صاحب اللمعات الوهاجة والشذرات النارية يلهم الأدباء ويستنهض الفلاسفة ويجالس الفنانين وينادم أهل الطرب الوجداني وعشاق الحرية الذاتية. في سن الـ 24 عيّن نيتشه أستاذ فقه اللغة (الفيلولوجيا) في جامعة بال السويسرية، من غير أن يؤلف أطروحة في الدكتوراه. بفضل حدة ذكائه وتشربه الآداب اليونانية واللاتينية، استطاع أن يفسر تفسيراً جديداً الإرث السقراطي الأفلاطوني برمته. أغلب مقابساته في زمن الشباب كان يستلها من أعمال أديبي المسرح التراجيدي اليوناني إسخيلوس (توفي حوالى 456 ق.م.) وسوفوكليس (توفي حوالى 406 ق.م.).
وما لبث أن تأثر تأثراً بالغاً بفكر شوبنهاور السويدائي (1788-1860). آثر الاعتزال والتقاعد في سن الـ 35، متعللاً بوهن جسدي ونفسي جسيم، فأتاحت له النقاهة المبكرة هذه أن ينعم بسنوات خصبة من الإنتاج الفلسفي الذي قل نظيره في فضاء الثقافة الأوروبية الحديثة. كان يمتع نظره بمشاهد جبال الألب السويسرية الخلابة، فيستلهمها شموخ النظر وأنفة النفس وعلو العزم. طوى السنوات الـ 10 من حياته في صمت بليغ، يداعب بين الحين والآخر مماسك البيانو يعزف بها من المقطوعات الموسيقية ما يذكره بعشقه الأول وتيتمه الشديد بالموسيقي الألماني المبدع ڤاغنر (1813-1883)، وذلك قبل أن تستبد بعلاقتهما القطيعة التراجيدية التي فصلته عنه. شهيرة التأويلات المغرضة التي ساقتها شقيقته حين أبرزت مقولة إرادة الاقتدار في حلة مشوهة تلويها لوياً يلائم إيديولوجيا النازية. وكان نيتشه في سنواته الأخيرة عاجزاً عن إنهاء كتابه الأخير في الاقتدار، من بعد أنهكه الجنون المبكر.
العود الأبدي
أخذ عن الرواقيين صورة العود الأبدي، فأبان أن الحقائق الكونية كلها لا تني تتكرر من جيل إلى جيل، وقد اكتسبت رونق الإبداع الذي ينجزه الإنسان الأعلى. في كتاب "ولادة التراجديا"، يقرع نيتشه عقلانية سقراط التي أفقدت الفكر الإنساني حيوية البدايات الإغريقية الأولى، وجرأة الاقتحامات الوجدانية الفتاحة. في كتاب "الفجر"، يندد بفجور الوجود الإنساني، ويتفحص أعماق النظريات الأخلاقية التي تنتهك حرية الوجدان الذاتي. في كتاب "إنساني مسرف في إنسانيته"، يحتفي بمئوية ڤولتر، ويكب على استطلاع أصول القيم الأخلاقية، فيعتمد أسلوب الشذرات المقتضبة، ويخاطب أهل الفكر الحر في الأرض الذين يجرؤون على مساءلة أسس الحضارة الأوروبية، لا سيما في أصولها المثالية الأفلاطونية. فإذا به يقسو على العمارات النظرية الماورائية الغيبية، ويعتمد منهجية نقدية تستند إلى التأويل المفتوح ونسبية التناولات، أما في كتابه الأشهر، "هكذا تكلم زرادشت"، فإنه يحث الإنسان على الوثوق بإرادته الخلاقة التي تحرره من سلاسل العبودية، ذلك أن الإنسان ينبغي أن يحقق ما اكتنز به كيانه من طاقات وإمكانات وقابليات: "إن ما يبحث عنه المبدع إنما هو الرفاق، لا الجثث ولا القطعان ولا المؤمنون. إنه يبحث عن مبدعين يشبهونه، ينحتون قيماً جديدة على ألواح جديدة"، وعليه، ينبغي لكل إنسان أن ينتقل من طور الجمل الخانع إلى طور الأسد الثائر، ليبلغ طور الطفل الخلاق الذي يبدع من عندياته، غير مكترث بالنماذج السابقة والأعراف المعتمدة والإنجازات المألوفة.
لا عجب أن تسحر فلسفة نيتشه الناس وتجذبهم إلى حديقته الغناء، فما السبب الذي يدفع أهل الفكر والفن إلى قراءة أعماله والاستمتاع بشذراته والتأمل في مطالبه الثورية؟ أفهو جنون عبقريته التي ألهمته أن يعلن أنه ولد بعد مماته، أي قبل أوانه؟ أم أسلوبه الإنشائي المشرق، المحكم السبك، المنسوج كاللؤلؤ في التعبير الإيحائي والإيجاز النفيس؟ أم تجرؤه على أصول الفكر الإنساني وانتقاده الدين والغيب والماوراء وكل ضروب الأيديولوجيات التي تقيد الإنسان في كهوف عقائدها؟ أم غوصه على أعماق الوجدان الإنساني يعريه من ضلالاته وعقده والتباساته ومراوغاته ومناوراته؟
سحر الحياة
الثابت أن الحياة سحرت نيتشه بنوازعها وميولها وطاقاتها واستثاراتها وإغواءاتها، فافتتن بجمالاتها المنحجبة وشغف بوعودها المطوية، فإذا به ينذر نفسه وفكره من أجل تحريرها من سلاسل الاعتبارات الغيبية، والترتيبات الأخلاقية والانتظامات الاجتماعية والانقيادات السياسية. سبيله إلى ذلك التفجير والهدم والاقتلاع، ومنهجه التأويل التعددي النسبي المتحرك المنفتح. أساس فكره عشق الحياة والولع بالحرية وامتداح الإبداع، لذلك أكب يفضح الأصول الإنكارية المكتومة في تضاعيف الحضارة الأوروبية. من آثار هذه الحضارة الأنظومة الفكرية التي شيدها أفلاطون، وبها انتزع الإنسان من حضن الحياة الملتهبة في معترك الوجود، تحركه طاقات الجمال المرتسمة على محياها، وغرائز الفن المتقدة في أتونها، ونوازع الاستطابة الكيانية في ملء مذاقاتها. يضع نيتشه على لسان زرادشت القول الأليم هذا، "يا للأسف! عرفت أناساً نبلاء فقدوا أملهم الأسمى، فإذا بهم يذمون كل الآمال الرفيعة".
يستهوي الناس هذا الفكر الذي عرى الأخلاق من الألبسة المزيفة التي تجعل الإنسان يلتحف بها خوفاً من عظمة ذاته الخلاقة، فالقيم التي تنادي بالرأفة والشفقة والرضوخ والتسليم إنما تدين الأحرار والأقوياء والمبدعين، وتعظم العبيد والضعفاء والكسالى المتقاعسين عن ذواتهم. إنها قيم مزيفة تدعي زرع السلام والطمأنينة والأمان في قلب الإنسان، في حين أنها تكبل الإنسان وتحرمه من ملذة الافتتان والنبوغ والإبداع. الدين، في رأي نيتشه، ذريعة يستغلها الإنسان الضعيف لكي يتعامى عن أسباب ضعفه، ويسوغ الألم والبؤس والخنوع. في هذه القيم تنحجب روحانية القهر الذاتي، والتقشف المرضي، والحرمان المفتعل، فإذا بالإنسان المتدين يخفي في لاوعيه رغبة دفينة في الانتقام من الحياة والثأر من الأقوياء.
لا يتردد نيتشه في ربط الأخلاق العامة بأصولها الدينية الغيبية الماورائية هذه، فيعلن أن هذه الأخلاق تفتقر إلى العظمة والنبل والفيض العطائي جراء هيمنة الأديان على الأخلاق، انطفأ في الإنسان الخفقان الإبداعي، وانقبضت فيه الطاقات الخلاقة فطفق الناس ينحنون ذلاً وهواناً. ينتقد نيتشه المسيحية التي نشأ في حضنها، ويعيب عليها سوق الإنسان إلى الخضوع والطاعة والانصياع، عوضاً عن تعزيز قيم الافتخار والأنفة والمواجهة المناضلة. ندرة من الفلاسفة رشقوا المسيحية من باب ضعفها، وكثرة منهم لاموها على جبروتها، أما نيتشه فإنه يقرع المسيحية على أفلاطونيتها، وينتقد في الأخلاق المسيحية روح الخضوع والثأرية المرجأة إلى يوم القيامة.
الإنسان الأعلى
ومن ثم، فإنه يهاجم الأنظومة المسيحية هجوماً عنيفاً حاداً، ويحملها مسؤولية إضعاف الإنسان وتجريده من مصادر قوته الوجدانية، ولكنه أيضاً يعيب على الإنسان أنانيته المفرطة ومنفعيته الجوفاء. الإسراف المقيت في الإنسانية يفضي بالإنسان إلى التفاهة والانحلال، لذلك لا بد من إنسان أعلى يتجاوز وضعية المراءاة المنحطة والمراوغة الأنانية لكي يبلغ مرتبة الاستقلال والحرية، والقدرة على ابتكار الذات المنعقتة من قيود القيم والنواميس والقوانين والأحكام.
قيمة الإنسان في إرادته المقتدرة التي تنحت الحياة من صلب الوجود، ذلك بأن ماهية الإنسان تكمن في رغبته الشديدة في تجاوز ذاته تجاوزاً اقتدارياً وابتكارياً، إذ لا يزهر الكيان الإنساني إلا على قدر ما يغترف ملء الانبساط والنمو من صميم التفور الحياتي الدفاق. بفضل إرادة الاقتدار ومثال الإنسان الأعلى يستطيع الإنسان أن يتغلب على محنة العدمية السلبية التي تضرب في أعماق الحضارة الأوروبية السقراطية الهوى الأفلاطونية الوهم. في هذا السياق، لا يتورع نيتشه عن مناهضة كل الأنظومات الفكرية التي تساوي بين الناس مساواة الابتذال والتفاهة، لذلك كانت الديمقراطية في نظره سبيل الثأر الذي ينتهجه الضعفاء العاجزون الذين لا يؤمنون بعظمة الحياة ومتطلبات الحرية الذاتية والنبوغ الاستثنائي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يفسر نيتشه نشأة التراجيديا الإغريقية في التكاملية المصيرية الناشطة بين أبولون، إله التخيل والموسيقى والرقص والحقيقة والنبوة والاعتلال والصحة، وديونيسيوس، إله الكرمة والخمرة والخصوبة والجنون الإبداعي والمسرح والنشوة الدينية. تقضي هذه التكاملية بأن يقبل الإنسان العالم على علاته بأفراحه وأتراحه وامتلاءاته وثغراته وانفتاحاته وانسداداته، ذلك بأن الوجود الإنساني مفطور على المأساة من جراء انعقاده على اقتران اللذة بالألم والأمل باليأس والنباهة بالتفاهة. الإنسان الناضج هو الذي يرضى بما قسمه الدهر له، فلا يبحث عن تعزيات وهمية تزينها له الأدبيات العقلانية التي أفرزتها أعمال أديب التراجيديا الإغريقية أريبيذيس (توفي 406 ق.م.) الذي رسم للإنسانية سبيلاً مزهراً من التفاؤل يتيح للإنسان أن ينعتق وهمياً من أثقال الوجود التاريخي. تظل الأوهام، على سحرها أوهاماً مؤذية، إذ إن "الحقائق أوهام أنستنا أنها أوهام". حتى الاقتناعات الذاتية الثابتة تضر بالسلامة الذهنية، "إن الاقتناعات أعداء الحقيقة يفوق خطرها خطر الأكاذيب" (إنساني مفرط في إنسانيته).
أعتقد أن مثل الفكر الإبداعي الجريء هذا يمنح الإنسان قدرة فائقة على الاضطلاع بمسؤولية حياته ومراعاة فرادته واستثمار إرادته وإغناء كيانه كله، غير أنه لا يناسب طبيعة الاجتماع الإنساني الذي يستلزم الانضواء إلى هيئة رمزية مشتركة، والقبول بأحكام المعية الضابطة والمشاركة الناظمة في تدبر شؤون المدينة الإنسانية. حين يعلن نيتشه أن "ما يصنعه المرء عن حب إنما يصنعه بما يتجاوز الخير والشر"، فإنه يذكرنا بقول القديس أوغسطينوس (354-430) الذي حرض الإنسان على أن يحب ويفعل ما يشاء. فكما أن الحب الأوغسطيني لا يلائم بنية الانتظام في الشريعة الإنسانية، كذلك الحب النيتشوي لا يطيق الانصياع لناموس الوجود الإنساني العادي، ولذلك أظن أن فكر نيتشه يصلح للنخبة المؤمنة بانفجار الحياة في وجدان الأفراد القلائل الذين يجرؤون على تخطي الهيئة المألوفة من الوجود الإنساني من أجل ابتداع أنماط جديدة لم يتعودها الناس، ومع ذلك يظل الخيط الفاصل بين العقل والجنون خيطاً دقيقاً لا يعاينه إلا أهل البصيرة المتقدة، "ثمة على الدوام قدر ضئيل من الجنون في الحب، ولكن هناك أيضاً على الدوام قدر ضئيل من العقل في الجنون" (هكذا تكلم زرادشت).