خيبت "السنابل الذهبية" هذا العام توقعات السوريين بأن يكون "عام القمح" كما أرادوه، لتأتي "البيادر" في نهاية المطاف بغلات لا تشتهيها حسابات الورقة والقلم، في مسعى للوصول إلى مليوني طن كحاجة مُلحة تلبي الاكتفاء الذاتي.
وتنضم هذه السنة إلى سنوات سوريا العجاف منذ حطت الحرب القاسية برحاها على كامل التراب السوري، وزاد المشهد مأساوية ما شهدته البلاد من شح في الأمطار لا مثيل له منذ سبعة عقود، فباتت لحبة القمح ثقلها في ميزان الأمن الغذائي الداخلي.
ويرى مراقبون أن المستقبل سيشهد مزيداً من السباق للاستحواذ على كميات إضافية عبر إغراء المزارعين من مختلف الأراضي الزراعية ببيع ما جنته معاولهم وحصاداتهم الزراعية بأسعار مغرية وتشجيعية، وفي بعض الأحيان إطباق الحصار على عدم التهريب أو التصدير خارج مناطق الجغرافيا السورية.
بيادر يابسة
في هذه الأثناء قال مدير الإنتاج النباتي في وزارة الزراعة أحمد حيدر، إن المساحة المحصودة حتى 20 يونيو (حزيران) بلغت قرابة 617496 هكتار من إجمالي المساحة المزروعة البالغة 1,5 مليون هكتار.
ومن جانب ثان، اتخذت الحكومة توصيات عدتها عاجلة قبل انتهاء استلام الحبوب عن عدم رد أي كمية تأتي إلى مراكز التخزين.
ويبدو جلياً للعيان خلال جولة ميدانية لـ"اندبندنت عربية" على بيادر القمح حجم الخسائر التي تكبدها المزارعون، التي بالكاد تغطي تكاليف الإنتاج، لا سيما تأمين الوقود لتشغيل آلات ومضخات الري.
وفي هذا الشأن لن يغري مشهد السنابل الشامخة والمنتصبة وهي توحي عن قرب بواقع سيئ لا يشبه بأي حال السنبلة المنحنية، التي لطالما كانت مضرباً للمثل عن فيضها بالخيرات مقارنة بعام الوفرة السنة الماضية، إذ ترجح الدلائل الأولى أنها في انخفاض.
يروي أحد المزارعين واقع الحال بكثير من الحزن والأسى، منها خروج المساحات البعلية عن الإنتاج، مترافقاً مع تدني إنتاج المساحات المروية، "اشترينا المازوت من الأسواق السوداء بأسعار مرتفعة، وزادت تكلفة الأسمدة، مع زيادة أجور اليد العاملة كلها أثرت بالنتيجة، ومُنينا بخسائر لا طاقة لنا على تحملها".
أزمة جوع
وتتوقع منظمة الأغذية "فاو" التابعة للأمم المتحدة خطراً غذائياً داهماً سيصيب السوريين هذا العام، وعزت ذلك إلى "قلة محصول القمح"، محذرة من أزمة جوع في البلاد بعد موسم جفاف غير مسبوق.
في حين ينبئ البنك الدولي باعتماد السوريين على الخبز المدعوم من الدولة بعد تضخم هائل بأسعار الغذاء تجاوز 200 في المئة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان هذا الموسم الزراعي قد وُصف بـ"عام القمح" من قِبل الحكومة، وبثت خطط زراعية احتلت بذور القمح النسبة الأكبر، إلا أن معدل هطول الأمطار القليل وأد حلم عودة سوريا إلى الاكتفاء الذاتي، وسيدفعها مجدداً إلى استنزاف القطع الأجنبي جراء استيراد الطحين والقمح بعد ما كانت من الدول المصدرة.
وفي المقابل حاجة البلاد إلى مليوني طن من القمح لتأمين الحاجة من مادة الخبز وسط إجراءات حكومية يراها مراقبون أنها ستزداد لضبط آلية توزيع مادة غذائية ما زالت إلى اليوم تعدها الحكومة من المواد المدعومة إلى جانب الأرز والسكر، بالتالي فقد يبقى توزيعها عبر بطاقة إلكترونية تسمى "الذكية" وبحسب أفراد العائلة، مع زيادة من آلية الضبط ستوضع في التطبيق قريباً منعاً للهدر ولوصول المادة لمستحقيها.
من جهة ثانية يرى المتخصص الاقتصادي محمد حاج عثمان، في حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن الاهتمام الكبير بالقمح مدفوع بعوامل اقتصادية وسياسية، وهي حاجة دمشق الملحة إلى الإفلات من الاستيراد.
يقول عثمان، "إن مرحلتي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي لعب مخزون القمح كأحد العوامل المرجحة في قوة القرار السياسي والاقتصادي على حد سواء داخلياً وخارجياً في مرحلة الحصار، وهذا ما تسعى إليه الدولة اليوم عبر بلد يأكل مما ينتج، وإلا سيظل الاعتماد على الدولة يستنزف من طاقاتها ويضعها في موقع الدولة المستهلكة والمستوردة على الدوام".
كما حذرت منظمة الإغاثة الألمانية "فيلت هونجر هيلفا" المعنية بتقديم المساعدات الغذائية من أن عدد الأشخاص الذين يعتمدون على المساعدات الإنسانية سيزداد بشكل كبير.
وقال في هذا الصدد منسق المنظمة كونستانتين فيتشل، في تصريحات صحافية له نقلها موقع التلفزيون الألماني "DW"، إن وضع الجوع بالنسبة إلى الشعب السوري كارثي، والمنظمة تنتظر محصول القمح بقلق كبير "الناس لم يتبق لديها مخزون، ولا يمكن تركهم يعانون هذا الجفاف، الطعام سيصبح أقل، وستستمر أسعار الخبز والخضار والفواكه في الارتفاع".
إمدادات خارجية وسباق بالأسعار
في غضون ذلك توقع وزير الاقتصاد السوري محمد سامر الخليل وصول مليون طن من القمح الروسي قبل نهاية العام الجاري، وجاء حديث الوزير على هامش مؤتمر بطرسبورغ الاقتصادي الدولي، في وقت أشار السفير الروسي في سوريا، ألكسندر إيفيموف إلى توريد 350 ألف طن في مارس (آذار) الماضي.
السباق حول الاستحواذ على أكبر كمية من الأقماح أخذ يراود أطراف النزاع السوري، فالحكومة السورية أعطت أسعاراً أعلى من أسعار الماضي، مع استيعاب كل الكميات المنتجة، وعدم رفض أي كمية، وزادت من إنتاج المساحة المزروعة 300 ألف هكتار عن العام المنصرم، بينما الإدارة الذاتية منعت إخراج المزارعين للقمح خارج مناطق سيطرتها شمال شرقي سوريا.
وتتوقع المؤسسة العامة للحبوب في دمشق إنتاجاً قد يصل إلى نصف مليون طن من القمح، وبحسب متابعين فإنه إضافة إلى الجفاف الذي خيم بثقله على البلاد فإن الحرائق في الأراضي المزروعة شكلت تحدياً إضافياً في التخفيف من الكميات الموردة، إضافة إلى التهريب الذي نشط بـ"السوق السوداء" الموازية بحثاً من قبل الفلاحين على أكبر سعر مرتفع.