قبل سنوات طويلة من صدور تلك "الرواية البيوغرافية" التي ظهرت بشكلها المتكامل في عام 1946 كجزء من رباعية صاغها الكاتب السويسري/ الفرنسي بليز سندرارس بعنوان "اليد المقطوعة"، كان ذلك هو اللقب الذي حمله الكاتب الذي كان يسمى تحديداً "ذو اليد المقطوعة". ولم يكن سبب ذلك أن سندرارس كان قد أنجز ونشر نسخة أولى من تلك الرواية باكراً في عام 1918 عند نهاية الحرب العالمية الأولى؛ بل لأنه هو نفسه كان يعيش بيد واحدة بعدما أصيب خلال تلك الحرب بشكل أدى إلى بتر يده اليمنى. ومن هنا حين ظهرت "اليد المقطوعة" في شكلها المختصر الأول، أدرك القراء أن النص يتضمن شكلاً روائياً من سيرته الذاتية، ولا سيما من معايشته تلك الحرب مجنداً في "الفرقة الأجنبية" الفرنسية، رغم أنه كان سويسري الأصل والجنسية. ولاحقاً حين صدرت الرباعية التي نتحدث عنها هنا، كان من البديهي أن "رواياتها" الأربع أو واحدة أساسية منها في الأقل، ليست سوى سيرة مقنّعة للكاتب الذي كان قد بات يعرف بـ"ذي اليد المقطوعة" بأكثر كثيراً مما يعرف باسمه الموقّع به على كتبه.
غزارة إنتاج بيد واحدة
حين قطعت يده كان سندرارس في الثامنة والعشرين من عمره. وكان حماسه لمقارعة الذهنية "الحربجية" الألمانية قد دفعه إلى الالتحاق بالقوات المسلحة الفرنسية، ما أدى عند بدايات العام الثاني من الحرب إلى إصابته البليغة، التي سوف تلقي بظلها القاتم، ولكن الخلاق في الوقت نفسه، على حياته كما على كتاباته كلها، ومن ثم تعرف بها، أي بـ"رباعية اليد المقطوعة" تلك السلسلة من الكتب التي صدرت على التوالي بين 1945 و1949 لتعرف بوصفها العمل الرئيس لكاتب كان مع ذلك غزير الإنتاج ومتنوعه. ولا بد أن نشير هنا إلى أن النصّ الأول بالعنوان نفسه، الذي كتبه سندرارس في مدينة إيكس عندما انتهت الحرب الأولى بقي غير مكتمل، ولم يدن منه الكاتب مرة جديدة إلا بعد ثلاثين عاماً حين انتهت الحرب العالمية الثانية، وشعر أن عليه الآن أن يستكمل ما كان ناقصاً في المرة الأولى فإذا به يضاعف عدد الصفحات في أربعة أجزاء عاد فيها إلى حياة "بطله" المبكرة، ثم تابع مجريات تلك الحياة، كما راحت تتوالى بعد "أحداث" "اليد المقطوعة" وحتى زمن الصياغة النهائية للرباعية، علماً بأن سندرارس ومنذ الصياغة الأولى كان ينوي أن يكون لـ"اليد المقطوعة" تتمات عديدة، من بينها نص يحمل عنوان "المرأة والجندي"، لكن هذا المشروع انفرط واختفى حتى ولادته الجديدة بدءاً من عام 1945.
بعيداً من الحياة قريباً منها
ولا شك أن ذلك التأجيل أتى في صالح العمل الأدبي، حيث يبدو لافتاً لجوء الكاتب وتحديداً في الجزء الثاني من الرباعية الذي صاره نصّ "اليد المقطوعة"، إلى استخدام أنا – آخر له جعله ناطقاً باسمه وحاملاً حياته من ناحية من النواحي في إطار من السرد الروائي، الذي سيلاحظ الباحثون لاحقاً أنه يمعن في الابتعاد عن الحياة المعروفة لسندرارس ليعود ويمعن في الدنو منها بين الحين والآخر، بحيث كانت حيرة أولئك الباحثين كبيرة في التفريق بين ما هو روائي في ذلك الكتاب الممتع وما هو ذكريات حقيقية. والأدهى من ذلك أن الكاتب "يخترع" بين جزء وآخر أحداثاً راديكالية إلى درجة تبدو معها مستقاة من حياة الكاتب بينما سرعان ما نجده يغوص في حكايات وتنقلات وسفرات وتواريخ قد لا تكون له علاقة بها على الإطلاق، في الأجزاء الثلاثة الأخرى.
كل شيء لرسم حياة متخيّلة
وتحمل تلك الأجزاء العناوين التالية "الرجل المصعوق" الذي يأتي قبل "اليد المقطوعة" الذي يليه "ارتياد الآفاق" وأخيراً "تقسيم السماء". والحال أن تلك الأجزاء الأربعة لا تشكل نصوص سيرة متواصلة بل هي تبدو أحياناً مجرد نتف من ذكريات ووقفات عند تواريخ تعود قروناً إلى الوراء، بل إن في الجزء الأول وصفاً لتجوالات عديدة يقوم بها "بطل" الرباعية إلى الجنوب الفرنسي قبيل الحرب العالمية الثانية لأسباب غير واضحة، لينهيها مع أربع رابسوديات غجرية يصف فيها الكاتب الحياة في مجمعات الغجر وفنون سكانها وأخلاقهم، ناهيك بوقفة عند الكاتب البوليسي الغامض غاستون ليروج (!). وفي الجزء الثالث نجدنا تقريباً أمام نصوص سفر يقود الكاتب فيها قراءه إلى عديد من المرافئ الأوروبية، في البندقية أو نابولي أو بوردو أو برست أو هامبورغ.... بينما نجده في الجزء الرابع والأخير يقود القارئ إلى القرن السابع عشر ليحدثه عن حياة قديس كان من مزاياه قدرته الخارقة على الارتفاع عن سطح الأرض، لينتقل بعده إلى وصف جولة في عديد من بلدان أميركا اللاتينية كان سندرارس قد قام بها بالفعل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رغبة في التجوال والكذب
مهما يكن ما من كاتب فرنسي جاد وطليعي كتب بمقدار ما كتب بليز سندرارس على مدى أكثر من ستين عاماً من حياة أدبية طويلة، وما من كاتب فرنسي أبدى من الاحتقار للكتابة ومن كراهية لها مقدار ما أبدى بليز سندرارس. ولم يكن ذلك بالتناقض الوحيد في حياة "صاحب اليد المقطوعة"، هذا الكاتب الذي يقول مؤرخو سيرة حياته، إنه لئن كان ضحية لشيء ما في حياته، فإنه لم يكن سوى ضحية للأسطورة التي صنعها لنفسه وصاغها بكل دقة، ثم وقع أسيراً لها، من دون أن تكون بالضرورة حقيقية وتتلاقى مع حياته وأسطورته الحقيقية. "كانت أسطورة ابتدعها هو نفسه، وساعد أصدقاؤه على تعزيزها: أسطورة الرجل العملي، رجل المغامرات المأخوذ بهوس الحياة، وهوس الحياة الخطرة تحديداً، الكاره الفن والفنانين، وغير الراغب إلا في التشرد والتجوال. إن هذا الرجل الذي كان يرفض على الدوام أن يكون رجل أدب، كتب أكثر من أي كاتب آخر، وكتب باستمرار مدهش". ومع هذا، رغم كثرة كتاباته وكثافتها، عرفت أسطورة بليز سندرارس كيف تعمل دائماً على إخفاء الكاتب خلف قناع الرجل، مع أن الحقيقة تقول إن هذا الكاتب لئن كان قد تشرد وتجول فإنه إنما فعل هذا على صفحات الورق أكثر مما فعله في الحياة الحقيقية. أما بحار العالم وشطآنه التي تجول فيها كثيراً فكانت في أغلب الأحيان من بنات أفكاره. وأما حبه للحياة وهوسه بها، فإنه إنما كان القناع الذي أخفى وراءه كآبته الحقيقية وسأمه من كل شيء: من الحياة قبل أي شيء آخر!
اختراع أكثر من حياة واحدة
ولد سندرارس، وهو سويسري الأصل كما أسلفنا، في مدينة شودي فان في عام 1887 وكان أسمه الأصلي فردريك سوزيه، أما بليز سندرارس فهو الاسم الذي اختاره لنفسه حين أضحى كاتباً. ولقد بدأ سندرارس حياته ككاتب بشكل مبكر ومبتكر، إذ إنه يعتبر حتى أيامنا هذه من أكبر المجددين في الشعر والكتابة الفرنسية إلى جانب أبولينير، وهو ابتكر باكراً ذلك الأسلوب العنيف والقوي، الأسلوب الذي ساعده على التعبير عن حياة العمل والعنف والخطر، التي عاشها جزئياً وحلم بها جزئياً. ومن هنا فإن كتابيه الكبيرين الأولين اللذين حققا له القدر الأكبر من الشهرة، وهما "أعياد الفصح في نيويورك "1912 و"نثر عبر سيبيريا وجبهات فرنسا الصغيرة" 1913، كانا في الوقت نفسه كتابي سفر وشكوى وحزن وتشرد في طول الأرض وعرضها.
وتماماً كما عاش سندرارس مبحراً في بحور الحياة، حقيقة أو وهماً، فإنه عاش كتابته كذلك مبحراً في بحور الكلام، فجاءت نصوصه عبارة عن مزيج من الشعر والنثر والصور والخوارق والأساطير ووصف الطبيعة والمشاعر، وكان من الواضح أنه من كل ذلك إنما كان يتوخى أن يجعل لعنصر المفاجأة في النص دوراً أولاً. وهو نجح في ذلك إلى حد بعيد حيث عرفت سطوره دائماً بكونها تخفي طي الكلمات مفاجآت ومشاعر مثيرة، ولعل هذا ما يميز أجزاء "الرباعية" ويعطيها سحراً يبدو خفياً أحياناً وغير خفي في أحيان أخرى!