شرعت الحكومة التونسية في ضبط توجهات وتصورات مشروع موازنة عام 2022 في ظروف اقتصادية متأزمة زادتها تداعيات جائحة كورونا واضطراب الوضع السياسي.
ويأتي إعداد مشروع الموازنة الجديدة والبلاد مطالبة برفع جملة من التحديات الكبرى أهمها تطويق الوضع الوبائي الحرج بارتفاع لافت لعدد الوفيات (أكثر من 1 في المئة من التونسيين ماتوا جراء هذه الجائحة)، والتأخر الملحوظ في جلب اللقاحات وسط تذمر شعبي من بطء الحكومة في التعاطي الصارم مع الجائحة.
مواصلة نهج التقشف
ومواصلة لنهج التقشف في ظل الأوضاع المالية الصعبة التي تعيشها البلاد، كشف بيان لرئيس الحكومة بشأن إعداد مشروع موازنة العام القادم، حصلت "اندبندنت عربية" على نسخة منه، دعوة رئيس الحكومة، هشام المشيشي، كل أعضاء حكومته والمسؤولين عن الوزارات إلى تطبيق جملة من الإجراءات والتدابير فيما يخص مخصصات التأجير، وذلك بغرض التحكم في كتلة الأجور والنزول بها تدريجياً إلى نسب معقولة من الناتج الداخلي الخام في مستوى 15 في المئة العام المقبل مقابل 17 في المئة حالياً في خطوة وصفها محللون بأنها تمهد للتقشف، وخاصة الاستجابة إلى إملاءات صندوق النقد الدولي.
وقف الانتدابات في القطاع العام
ومن أبرز الإجراءات المزمع اتخاذها، عدم التعهد بأي التزام جديد أو توقيع اتفاقيات جديدة بشأن زيادات في الأجور أو المنح والالتزام بتطبيق الاتفاقيات القطاعية في القطاع العام الموقعة بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل بتاريخ 6 فبراير (شباط) 2021 دون غيرها.
وأكد البيان عدم إقرار انتدابات جديدة بالنسبة لسنة 2022، باستثناء بعض الانتدابات الموجهة في بعض القطاعات الحساسة ذات الأولوية وحصر خطط التكوين بالنسبة للقطاع الأمني والعسكري في حدود 50 في المئة من العدد المرخص فيه سنة 2021.
كما دعا البيان الحكومي إلى عدم اللجوء إلى أي تعويض للشغورات المسجلة خلال عام 2021 والمزيد من التحكم وترشيد منحة الإنتاج وربطها فعلياً بالأداء من دون تجاوز معدل 80 في المئة، هذا إلى جانب عدم اللجوء إلى صرف ساعات إضافية وإسناد إراحة تعويضية فقط.
التقليص من نفقات الوزارات
وحددت نسبة تطور مخصصات أو نفقات التسيير للوزارات والشركات العمومية بـ3 في المئة كأقصى تقدير عند ضبط التقديرات مع العمل على التقليص في النفقات غير الضرورية وإحكام التصرف في وسائل النقل الإدارية مع تأكيد الالتزام باستعمال سيارات المصلحة للأغراض الإدارية دون سواها والتسريع في إجراءات التفويت في السيارات التي أصبحت غير قابلة للاستعمال.
إعطاء الأولوية للمشاريع المتواصلة
أما فيما يخص نفقات الاستثمار فقد أكد رئيس الحكومة ضرورة إعطاء الأولوية للمشاريع والبرامج السنوية المتواصلة المدرجة بالمخطط 2016-2020 لاستكمالها، والاقتصار على المشاريع الجديدة ذات المردودية العالية والمشاريع الكبرى الخاصة بالتنمية في الجهات ومشاريع البنية التحتية، خاصة في المناطق الداخلية ذات الأولوية.
آجال دستورية
ويتعين على الحكومة أن تقوم بإعداد مشروع موازنة عام 2022 وعرضها على البرلمان قبل انتهاء الآجال الدستورية بتاريخ 15 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، على أن تقع المصادقة على الموازنة برمتها في العاشر من ديسمبر (كانون الأول) وفق ما نص عليه دستور يناير (كانون الثاني) 2014.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استجابة إلى إملاءات صندوق النقد
تعقيباً على هذه التوجهات قال رضا الشكندالي، أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية، إن "توجهات إعداد مشروع الموازنة للعام المقبل يترجم صراحة عزم الحكومة الحالية على مواصلة إصلاح القطاع العام بتجميد الانتدابات لغرض التحكم في كتلة الأجور من جملة الناتج المحلي الخام والنزول بها إلى مستوى 15 في المئة في 2022 مقابل 17.6 في المئة حالياً".
وأكد في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، أن توجه الحكومة في هذا المسار ينخرط ضمن الاستجابة إلى طلبات صندوق النقد الدولي الذي ما انفك يشدد على الحكومات المتعاقبة على وجوب التحكم في كتلة الأجور التي يعتبرها من أرفع الكتل في العالم بالمقارنة مع الناتج المحلي الإجمالي.
وعرج أيضاً على أن الإصلاحات المزمع تركيزها في مشروع الموازنة القادمة ستركز على إصلاح منظومة دعم المواد الأساسية والسعي إلى تحسين مناخ الأعمال.
يشار إلى أنه تم، أخيراً، رفع سعر مادة السكر المدعمة، وكذلك اعتزام الحكومة إلغاء نحو 30 ترخيصاً، وتعويضها بكراسات شروط للتقليص من القيود الإدارية ودفع نسق إحداث الشركات.
وألحّ الشكندالي على إن مجمل توجهات إعداد مشروع الموازنة الجديدة سيكون في جانب منها بعث رسالة طمأنة لصندوق النقد الدولي بأن الحكومة جادة في المضي بتنفيذ الإصلاحات الهيكلية التي تمس منظومة الدعم والمحروقات ووقف نزيف المالية العمومية، وبخاصة تجميد الانتدابات في القطاع العام، آملة في الحصول على موافقة مجلس إدارة الصندوق لمنحها قرضاً على أربع سنوات بقيمة 4 مليارات دولار.
الجدير بالذكر أن حكومة المشيشي بعثت برسالة إلى صندوق النقد الدولي في أبريل (نيسان) الماضي أعلمته بجملة الإصلاحات الجذرية والعميقة التي تعتزم القيام بها، ومنها تسريح الموظفين ورفع الدعم وتقليص كتلة الأجور.
يشار إلى أن عدد الموظفين في القطاع العام في تونس يقارب 800 ألف موظف.
فرضيات خاطئة
ولفت المتحدث إلى أن موازنة العام الحالي أعدت على فرضيات خاطئة، فيعتقد أنه من الضروري تصويب البوصلة بالإسراع في إعداد موازنة تعديلية من شأنها أن تعيد الأمور إلى الواقع.
ولوحظ أن موازنة العام الحالي أعدت على فرضية أن سعر برميل النفط يبلغ 45 دولاراً، غير أن الأسعار قفزت في الأشهر الأخيرة إلى مستوى 70 دولاراً، وأن كل زيادة بدولار في سعر برميل النفط تكلف موازنة تونس أعباءً إضافية بقيمة 47 مليون دولار وإثقال مخصصات دعم المحروقات لتبلغ ما يناهز 1185 مليون دولار.
وطالب الشكندالي الحكومة بوجوب تعديل فرضيات النمو إلى أقل من 4 في المئة المستهدفة، مشدداً على أنه من الصعب جداً على تونس بلوغ هذه النسبة في ظل تأزم الأوضاع الاقتصادية في البلاد.
التحكم في كتلة الأجور صعب جداً
من جانبه، يرى محمد صالح العياري، المتخصص في الشؤون الضريبية، أن هناك إشكاليات قد تعطل الإصلاحات المقترحة من حيث وقف الانتدابات، موضحاً أن الانتدابات تمثل في القطاع العام عائقاً كبيراً أمام التحكم في كتلة الأجور التي تقدر بنحو 7.4 مليار دولار بالنسبة لميزانية الدولة لسنة 2021، أي نحو 17.6 في المئة من الناتج الداخلي الخام.
وسيكون من الصعب جداً التخفيض فيها إلى حدود 15 في المئة من الناتج الداخلي الخام، كما يقترح ذلك صندوق النقد الدولي، وذلك راجع بالخصوص إلى بعض الأسلاك التي تبقى دائماً في حاجة ملحة لانتدابات جديدة، مثل الأمن والجيش والتعليم والصحة.
ولعل الآلية التي يمكنها الحد من الانتدابات الجديدة من وجهة نظره هي إعادة التوظيف، وذلك بإعادة توجيه الأعوان إلى قطاعات حساسة، وفي حاجة ملحة ليد عاملة إضافية، مع القيام بتكوين سريع في بعض المجالات.
مقترحات لإنجاح مشـروع موازنة 2022
أما بخصوص المقترحات التي يمكن إدراجها ضمن مشروع الموازنة لسنة 2022، فيمكن حصرها في بعض النقاط الأساسية، وفق محمد صالح العياري، وتتمثل في تحديد المراحل بصفة واضحة وحسب آجال محددة بالنسبة لرفع الدعم بصفة تدريجية وتوجيهه إلى المستحقين فعلياً لهذا الدعم ومراجعة قانون الاستثمار وقانون الامتيازات الضريبية وإدراجهما صلب مجلة موحدة، مع سن بعض الإجراءات لتحسين مناخ الاستثمار الذي يرتكز أساساً على مواصلة حذف عديد من الرخص وتعصير الإدارة لتصبح بالفعل إدارة سريعة ومتطورة.
كما يقترح المتخصص في الشؤون الضريبية إسناد امتيازات جبائية ومالية موجهة لبعض الأنشطة الواعدة في مجال التكنولوجيات الحديثة ومساعدة الباعثين الشباب والشركات الصغرى والمتوسطة على الحصول على القروض بطريقة ميسرة مع إمكانية تدعيم سياسة تنفيل نسب الفائدة.
ويشدد على ضرورة دراسة وضعية الشركات الحكومية حالة بحالة وبكل شفافية، وذلك لغرض وضع خطة واقعية لإصلاحها وإعادة هيكلتها من جهة، أو التفويت فيها إذا لزم الأمر من جهة أخرى، وذلك للحد من نزيف أعبائها المتواصلة على ميزانية الدولة التي أثقلتها كتلة الأجور والديون الخارجية.
ويقترح أيضاً مراجعة المنظومة الضريبية بصفة جذرية، وذلك بإصدار قانون خاص يتضمن إصلاحاً جبائياً شاملاً وعميقاً يتمثل أساساً في مواصلة التخفيف من العبء الضريبي وتبسيط الإجراءات الضريبية وعصرنة إدارة الضرائب.