خنقت أزمة المحروقات لبنان، وولدت مشاهد صادمة لطوابير السيارات على محطات الوقود، ولسنوات مضت، تنافس اللبنانيون على اقتناء السيارات وأحدثها، وأسرعها، وأكثرها رفاهية.
ووسط هذه الأزمة، اكتشف المواطن أنه في قلب معركة خاسرة، لا يمتلك فيها أياً من مقومات الصمود، فلا وجود لنقل مشترك، ولا لقطار سريع، أو حتى "ترامواي" أو خطوط للدراجات الهوائية والكهربائية، في المقابل، كشفت هذه المحطة المأساوية في تاريخ البلاد عن درجات متفاوتة للاستجابة، بين من تقبل الأمر الواقع، وآخر حاول البحث عن حلول مؤقتة وفق رؤية استراتيجية بعيدة المدى تعيد لبنان إلى سكة القطار.
الاختناق التام
وقبل التعمق في بعض التجارب التي بدأت تخرج إلى النور، يمكن الإشارة إلى أنه ليس من قبيل المبالغة القول، إن جزءاً كبيراً من الأزمة يتصل بثقافة النقل لدى شريحة كبيرة من اللبنانيين، إلى درجة اعتاد معها كثيرون على طابور البنزين، إذ يخرج اللبناني، فجراً، إلى محطة الوقود التي تبعد كيلومترات عدة عن مكان إقامته، وينتظر ساعات طويلة من أجل ملء الخزان ببضعة ليترات بنزين.
في المقابل، يلجأ آخر إلى أسلوب الحيلة على الطابور، أو حتى يستعمل أسلوب الرشوة لعمال المحطات من أجل ملء خزان سيارته، ويفجر البعض غضبه من السلطة بوجه آخر يقف معه في الطابور على خلفية من يمر أولاً، أو حتى بوجه عمال المحطات.
ويختصر الشاب وليد ما صار عليه اللبناني، يجيب أنه "اعتاد على التنقل بسيارته الخاصة، وليست لديه مشكلة في الانتظار طويلاً من أجل ملء الخزان في محطة بعيدة جداً عن قريته"، ويقول ممازحاً، "ليس هناك شعور أجمل من شعور الخروج من المحطة والسيارة ملأى بالبنزين"، "وإذا سألوني عن أهم إنجاز في سيرتي الذاتية، أؤكد حالياً أنه إقناع صاحب المحطة بملء خزان الوقود كاملاً".
وفي وسط هذه الصورة، يمكن وصف حال لبنان بالموقف الكبير للسيارات، في وقت تغيب خطط النقل العام المشترك، وحدها مواقف السيارات بين المحافظات والمدن الكبرى رسخت وجودها، متكئة على قوى الأمر الواقع ودعم الحزب أو العشيرة الأقربين، وبدأت بعض الشوارع تشهد دخول الـ"توك توك" إلى الأحياء الشعبية، إضافة إلى اتساع دائرة استخدام الدراجة لتجنب "العودة لامتطاء ظهر الحمار".
في خدمة الشعب
في الأيام القليلة الماضية، تحركت بلدية "مراح السراج" في قضاء الضنية شمال لبنان، على خط الحل المؤقت لأزمة النقل، وأشار رئيس البلدية عبد الفتاح علام إلى أن البلدية تعمل على حل مشكلة النقل التي أعقبت شح مادة البنزين، لافتاً إلى أن الخطوة بدأت بباص ينطلق عند السابعة صباحاً من البلدة، لينقل 30 راكباً إلى مدينة طرابلس، ومن ثم يعود إلى القرية عند الرابعة عصراً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وروى علام كيف انطلقت فكرة النقل العام في البلدة، إذ بدأت من فكرة للترفيه عن كبار السن، ومن أجل ذلك، خططت البلدية لشراء باص للقيام بجولات سياحية داخل لبنان، وتأمن تمويله عن طريق عدد من المغتربين في دولة الكويت، وأحضرته البلدية، وبدأت تضع البرامج الخاصة بكبار السن، إلا أن كورونا أعاق المخططات المسبقة كافة.
وتحدث علام عن "أفق حل مسدود في البلاد، وعدم إمكانية التوصل إلى الحلول إلا من خلال المبادرات الفردية والأهلية، فقد سبق أن حققت الدولة نجاحات في مجال تدوير النفايات، وتأمين الإعانات الطبية والإغاثية لأبناء البلدة المحتاجين"، وتعهد بتأمين باصات إضافية عند الحاجة بهدف إنجاح خطة النقل المشترك، من خلال "توحيد الجهود" و"التواصل مع المغتربين والمتمولين من أبناء البلدة المنتشرين في بلاد الاغتراب"، آملاً انتهاء الأزمة سريعاً.
عودة القطار إلى السكة
ويعتبر القطار أحد الحلول الممكنة لأزمة النقل في لبنان، ومعلوم أنه في الرابع من أغسطس (آب)، عام 1895، انطلقت أول رحلة للقطار من بيروت، وتمتد سكة القطار في البلاد على نحو 403 كيلومترات، وما زالت هذه السكك موجودة، ويمكن استثمارها على الرغم مما مر عليها من تعديات وأضرار.
ويتطلع الناشطون في هذا المجال إلى بث الحياة مجدداً في هذه السكة، انطلاقاً من مبدأ "عدالة التنقل"، والمساواة في الحق بين جميع المواطنين، والنقل الأخضر الصديق للبيئة.
ويؤكد كارلوس نفاع مدير جمعية "Train Train"، أن "سكك الحديد هي العامود الفقري لأي خطة نقل في الدول المتطورة"، ومن هنا "ضرورة بناء شبكة وطنية لعدالة التنقل"، وتأمين الترابط بين النقل البري والبحري، وممرات مشاة، وممرات آمنة للدراجات الهوائية، وباصات و"ترامواي" داخل المدينة، ويعول نفاع على حلول بديلة صديقة للبيئة، خصوصاً بعد تحقيق لبنان أرقاماً عالية في سرطان الرئة.
ويشير نفاع إلى أن عملية الإنماء والإعمار بعد الحرب، تأسست على أساس رؤية هندسية، تعطي التنقل بالسيارة الدور المركزي، وغابت عن الطرقات إشارات السير الخاصة بالمشاة، أو وسائل النقل الصديقة لذوي الاحتياجات الخاصة، لافتاً إلى أهمية دور القطاع الخاص في ازدهار هذا القطاع.
ويعتقد نفاع أن "عودة القطار ممكنة إلى لبنان، لأن التعديات مضبوطة، ومن تبقى من موظفين يعملون، ويسطرون محاضر مخالفات"، وطالب بحماية هذا القطاع الاستراتيجي الذي ربط بيروت (مار مخايل) في تسعينيات القرن الـ19 بدمشق، كما ربط "مرفأ طرابلس بالداخل والشمال السوري نحو حمص وحلب، وصولاً إلى تركيا، حيث كان ينطلق طوروس أكسبرس ثلاث مرات أسبوعياً من طرابلس، إلى إسطنبول، وصولاً إلى فرنسا".
ويجزم نفاع بوجود "مخطط توجيهي وطني لسكك الحديد"، وتم تقديمه إلى وزارة النقل، ويعيد ربط مرفأي طرابلس وبيروت وصولاً إلى سوريا، كما يربط مطار القليعات (شمال لبنان)، بمطار رفيق الحريري الدولي (بيروت)، وكذلك مطار رياق (البقاع شرقاً)، متحدثاً في الوقت نفسه عن وجود دراسات تحتاج إلى التنفيذ في هذا الخصوص، تحتاج إلى مناقصة لإنجاز المشروع خلال سنتين.
ويقترح كارلوس نفاع، الخبير في إدارة الأزمات أيضاً، خطة يمكن اعتمادها على المدى القصير، تقوم على مشاركة البلديات والإدارات المحلية للجم الأزمة، ويسلط الضوء على "قرض البنك الدولي، (295 مليون دولار)، الذي تم توقيعه لبناء شبكة باصات كبرى بين بيروت، ومدينة طبرجا (جبل لبنان)، وعلى الرغم من التحفظ على بعض النقاط، فإنه سيتم استخدام الأموال من أجل البطاقة التمويلية التي قد توزع على شريحة من الناس المحظيين سياسياً، وليس لكل المواطنين أو المقيمين"، كما يمكن استخدام القرض لإنشاء ممرات آمنة للدراجات الهوائية، وكذلك دمج الباصات في الخطة، وتأمين نحو مليوني دراجة هوائية وتوزيعها مجاناً في المناطق كافة.
الدراجة الهوائية
وفرضت أزمة النقل الحالية ضرورة الانتقال إلى الحلول المستدامة والصديقة للبيئة، وفي هذا المجال، يمكن الإضاءة على تجربة "عمدة طرابلس للدراجات الهوائية" نذير حلواني الذي ينشط في مجال الترويج للدراجات الهوائية، وتمكن من إقامة "مجتمع الدراجين في طرابلس"، وتتألف الشبكة من أكثر من 300 ناشط ومستخدم للدراجات الهوائية في كل أنحاء طرابلس، ولكن الأعداد الحقيقية أكبر من ذلك بكثير لأنه "في كل يوم، هناك أشخاص ينتمون إلى عالم الدراجة الهوائية".
أما على المستوى الرسمي، فتمكن حلواني من وضع خطة بالتعاون مع رياض يمق رئيس بلدية طرابلس من خلال إطلاق "مسار خاص مهيأ للتدريب على قيادة الدراجات في منطقة معرض رشيد كرامي الدولي"، مشيراً إلى أهمية إدراج طرابلس على "قائمة المدن التي تشجع على ركوب الدراجات"، من هنا، يطمح حلواني إلى الاستجابة للأزمة واستغلال الفرصة لفتح حوار جدي حول النقل المشترك داخل المدن، وعلى المستويين العام والخاص.