ما عاشته طرابلس، الخميس الأول من يوليو (تموز)، أقرب لأن يكون "مظاهر خادعة"، لأن الهدوء الذي يعم شوارعها إلى حد ما لا يمكن اعتباره بداية لمرحلة الحلول، لا بل يمكن التكهن بصيف ساخن في لبنان، تنطلق شرارته من طرابلس بفعل تدحرج كرة الأزمات، لن يمر رفع الدعم مرور الكرام على الفقراء، فالثلاجات الفارغة من الغذاء، وغرف النوم اللاهبة بسبب انقطاع التيار الكهربائي، وصولاً إلى الاختناق التام للمرضى بفعل الحرمان من جرعة الأوكسجين، هي غيض من فيض لصور عاشتها الأحياء الفقيرة التي زادت الأزمة من تهميشها.
في يوم الانفجار الكبير، اندفع أهالي طرابلس إلى الشوارع، وقفوا وجهاً لوجه ضد القوى العسكرية، اختلفت أشكال التعبير من الصراخ، إلى العراك، والتقاذف بالهراوات والرصاص. ولم يأتِ هذا المشهد وليد اللحظة، فقد سبق أن كانت له مقدمات، فعلى مدى أسبوع، عاشت المدينة حالة من الغليان، وقطع الطرقات، وجاء انقطاع التيار الكهربائي لمدة ثلاثة أيام متعاقبة، ليغذي حالة السخط المتصاعدة في عاصمة شمال لبنان. حالة السخط هذه ليست بجديدة، فمنذ مرحلة الاستقلال تعاني منطقة شمال لبنان من التهميش، مروراً بالحرب اللبنانية والتمركز السوري فيها، وصولاً إلى إقصائها عن خطط الإنماء والإعمار لمرحلة ما بعد الطائف.
الصورة الصاعقة
"صورة فوتوشوب" كانت كافية لتفجر بركان البارود في طرابلس، وتولد مواجهة غير محمودة بين الأهالي والقوى العسكرية في منطقة "التبانة"، كما أدت إلى ظهور مسلح في أحياء "الريفا" و"القبة" و"الملولة"، إلى جانب قطع الطرق في أكثر من منطقة، وصولاً إلى تجمع الأهالي في أحياء "التبانة" الداخلية، وطرد الجيش من "ساحة الأسمر"، إضافة إلى منطقة "سوق الخضار".
تضمنت الصورة "أباً يحمل ابنه الذي يختنق بسبب عدم توفر جرعة الأوكسجين"، خلقت الصورة ردود فعل عنيفة، إذ عبر بعض الناشطين والأهالي عن موقفهم الرافض لهذه الحالة المتدهورة، انتشرت الصورة على مواقع التواصل الاجتماعي، وباتت "الستوري" لآلاف الأشخاص، ولكن بعد التدقيق، تبين أنها ليست صحيحة، وتعود لعائلة تعرضت للقصف في سوريا.
طلب مدعي عام التمييز غسان عويدات إلى شعبة الجرائم المعلوماتية التحرك لجلاء حقيقة الصورة التي أشعلت الأوضاع في طرابلس، نحن بدورنا تواصلنا مع الشاب مفيد عربس الذي نشر الصورة، ليؤكد أنه أشار عبر صفحته على أنها "صورة فوتوشوب"، وقد قام بتمويه التفاصيل لإعطائها أبعاداً رمزية، والتأكيد على أن المأساة تتكرر في غير مكان، وتحديداً في منطقة "التبانة"، ويلفت مفيد الذي ظهر أيضاً عبر صفحته على "فيسبوك" في فيديو توضيحي، إلى أن الصورة أدت خدمة كبيرة لشريحة مهمشة من الناس، وأوصلت صرختهم لأنهم يموتون بسبب عدم تمكنهم من الحصول على جرعة أوكسجين، كما سلطت الضوء على قضية الأب الذي كان يحمل ابنته ويصرخ بأنها تختنق.
ارتكب الشاب في رأي كثيرين خطأً كبيراً، فهو أثار حالة من السخط غير مسبوقة، كادت تفجر الأوضاع المتصدعة أصلاً، ولكن إذا ما أردنا وضع الصورة في سياقها العام، فقد ظهر في مساء اليوم السابق "أب يحمل ابنته عبر صفحة إعلامية على فيسبوك، وكان يشكو من اختناق ابنته بسبب عدم القدرة على الحصول على الأوكسيجين"، لأنه وبكل بساطة، دخلت المناطق الشعبية في طرابلس مرحلة الظلمة التامة، وتداول مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي صوراً لأطفال صغار، ينامون على الأرض والشرفات بسبب انقطاع التيار الكهربائي في موسم الحر.
وفي متابعة لمضمون الفيديو، فإن الأب الذي ظهر ليس من "التبانة"، وإنما من "منطقة المنكوبين"، كما أن الفتاة بصحة جيدة، ولم تفارق الحياة بفعل تأمين الكهرباء في أحد مساجد المنطقة. في موازاة ذلك، وعلى الرغم من حجم الخطأ الذي وقع فيه بعض مستخدمي الشبكات الإخبارية، فإن ما جرى عكس معاناة شريحة كبيرة من الناس، والتي تحتاج إلى تيار كهربائي متواصل في منازلها من أجل الحصول على العلاج. ناهيك عن صرخة نقيب المستشفيات الخاصة سليمان هارون لناحية قرب الكارثة في المستشفيات بسبب إطفاء مولدات الطاقة نتيجة نفاد مخزون مادة المازوت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الجيش يتدخل
عاشت طرابلس خوفاً جدياً من الوقوع في الفوضى الشاملة، ووقوع صدام مع الجيش بسبب حالة السخط من الدولة وما يمثلها. إلا أن المؤسسة العسكرية تمكنت لمرة جديدة من الإمساك بالوضع، فهي دفعت بتعزيزات إلى المناطق الشعبية، انسحبت من بعض النقاط الحساسة، ولم تدخل في صدام مباشر إلا في بعض الحالات المحددة، كالاحتكاك مع المارة في ساحة "الشهيد خضر المصري" داخل "التبانة"، وإطلاق النار في "ساحة الأسمر"، وليلاً، حصل صدام مع مجموعة من المحتجين في "شارع الضم والفرز"، حيث أصيب ثلاثة شبان بالرصاص المطاطي.
تحرك الجيش على خط مواز لتأمين الكهرباء عبر تزويد أصحاب مولدات الاشتراك بالمازوت لتشغيلها، وقبل ذلك، تسابق نواب المدينة للحديث عن تحركهم لإعادة التيار إلى المدينة، ومساء الأربعاء، وصلت الصهاريج إلى "التبانة" وبدأت التفريغ في خزانات المولدات، ولكن مشكلة أخرى حقيقية بدأت تطل، وهي التسعيرة الجديدة لاشتراك المولدات بعد انخفاض دعم مادة المازوت من قبل الحكومة، إذ أصبحت التسعيرة، في بعض الحالات، تتجاوز الحد الأدنى للأجور.
ويتحدث محمد زهرة مختار "التبانة" عن "حركة شبه طبيعية في شوارع التبانة"، وأن الأهالي بانتظار عودة التيار الكهربائي، بعد أن تدخل الجيش. يوقن العاملون على الأرض أن الحلول مؤقتة، وقد تصمد لأيام فقط، ذلك أن الأزمة عميقة جداً، ومعاناة الناس كبيرة، ويشير الشيخ زياد حبلص إلى أن "المواجهة ليست بين الجيش وأهالي التبانة، لأن هناك علاقة عميقة وعشرة بين الأهالي والجنود الميدانيين"، ولكن المأساة في مكان آخر، في الأمعاء الخاوية، في عدم قدرة الآباء على تأمين ربطة الخبز، إلى عدم وجود الحليب والدواء، ويقول حبلص، "لا يمكن للأهالي حتى تأمين الغذاء البديل للأطفال، لأن ثمن النشاء والسكر لم يعد في متناول العامة".
وبحسب دراسة نشرتها "اليونيسف"، فإن 30 في المئة من أطفال لبنان يبيتون بأمعاء خاوية، كما أن 77 في المئة من الأسر لا تملك ما يكفي من الغذاء أو من مال لشراء الغذاء، وأن 60 في المئة من الأسر تضطر لشراء الطعام عبر مراكمة الفواتير غير المدفوعة.
من جهته، نبه مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان من التعرض للجيش، وطلب الضرب بيد من حديد منعاً من الوصول إلى الأمن الذاتي الذي يرفضه الجميع، "مع حفظ حق المواطنين في التعبير السلمي عن أوجاعهم"، مؤكداً أن "الشعب اللبناني لا يستحق أن يُذل ويُهان من أجل تأمين قوت يومه".
أما اللواء أشرف ريفي فقد اتهم "سرايا المقاومة"، مجموعات مدعومة من "حزب الله"، بالتخطيط للاستيلاء على الساحة الطرابلسية، مؤكداً أن "طرابلس تجاوزت المحنة بالتنسيق مع الجيش وكثير من الغيورين على مصلحة المدينة".
التحركات مستمرة على الأرض
وعصر الخميس، شهدت شوارع "التبانة" تحركات في الشارع، إذ أقفل بعض الأهالي الطريق بأجسادهم وأجساد أطفالهم، احتجاجاً على الأوضاع المعيشية وعدم عودة التغذية الكافية للتيار الكهربائي. وتمهد الأجواء لحصول المزيد من التحركات مع استمرار "طابور البنزين"، والازدياد القياسي في سعر صفيحة البنزين، والمازوت.
ويستشعر المسؤولون في شمال لبنان خطورة السقوط في المحظور، وهذا ما حذر منه رئيس بلدية طرابلس رياض يمق، الذي يؤكد أن "تدخلاً منظماً من الدولة والمنظمات الدولية والإغاثية، يمكن أن يحول دون تكرار ما حصل"، مؤكداً أن "تداعيات انقطاع الكهرباء كارثية في الأحياء الشعبية، ويؤثر سلباً على نواحي الحياة كافة في ظل موسم الصيف"، مشيراً إلى أنه "كانت هناك نية للقيام بوقفة رمزية جامعة لكل أطياف المدينة لرفع الصوت"، ويشير يمق إلى "التواصل مع الجهات كافة من أجل المتابعة، واتخاذ خطوات فعلية من أجل تنظيم المطالب المشروعة في طرابلس"، متحدثاً عن "طرق سلمية تشبه المدينة من قبيل الإقفال المدروس للمؤسسات وبصورة دورية، من أجل إيصال المطالب إلى العالم".