تُعتبر منطقة "بروفانس-ألب-كوت دازور" (Provence-Alpes-Côte d’Azur) من أهم المناطق الإدارية المطلة على البحر الأبيض المتوسط في فرنسا. وقد لعبت دوراً كبيراً في الانتخابات الإقليمية الفرنسية. وشكّلت المكان الوحيد الذي تقدم فيه "التجمع الوطني"، حزب اليمين المتطرف الذي تتزعّمه مارين لوبان، في الدورة الأولى من الانتخابات يوم 20 يونيو (حزيران).
لا يمكن الاستناد إلى الانتخابات الإقليمية من أجل تكوين نظريات عامة حول الديمقراطية الغربية، لكن هناك ما يمكن أن تعلمنا إياه، خصوصاً في ما يتعلق بالتصويت لمصلحة اليمين المتطرف وضعف المشاركة في الانتخابات.
عادةً، تتأثر الانتخابات المحلية بالقضايا المحلية، إنما يمكن استخدامها من أجل الاقتصاص من الأحزاب الوطنية. وقد أدلى أقل من 35 في المئة من الفرنسيين بأصواتهم في انتخابات يوم الأحد 27 يونيو. ويسجّل ذلك كإخفاقٍ للنظام السياسي. يجب أن يكون صوت المجتمعات المحلية أقوى وإلا فقد تنجرف نحو التطرف أو تشعر بالتهميش. ويمكن أن تسهم دراسة الديناميات المحلية في فهم المخاوف الشعبية.
يسود التنوع العرقي في منطقة "بروفانس-ألب-كوت دازور"، إذ تشكّل مركزاً أساسياً للهجرة وتعود أصول عديد من مواطنيها إلى منطقة المتوسط، بما فيها إيطاليا والبرتغال وإسبانيا وشمال أفريقيا.
وتنبع عادة التصويت لليمين المتطرف هذه جزئياً من وجود من كانوا مستوطنين في البلدان التي استعمرتها فرنسا، خصوصاً أولئك الذين أتوا من الجزائر. ويؤدي ذلك إلى زيادة جاذبية الأحزاب الوطنية المناهضة للهجرة، التي تملك بعض الثقل في هذه المنطقة، حتى لو تراجع تأثيرها في أماكن أخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
منذ عشرين سنة تقريباً، تولت الحركة القومية التابعة للوبان بعض المجالس البلدية التي أصبحت حاضنات للسياسات المعادية للأجانب. وفي المحصلة، استطاعت سياسات الهوية أن تنمو في المنطقة، ولا مؤشر على أن زوالها قريب.
واستطراداً، لقد حدث شيء مماثل في إقليم "با دو كاليه"، حيث انتُخبت لوبان عضوة في المجلس البلدي يوم الأحد. وتتسم المنطقة بوجود البطالة وأعداد كبيرة من المهاجرين ممن يستعدون لعبور القناة الإنجليزية. في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في 2017، كانت هذه إحدى المناطق التي حصدت فيها لوبان غالبية الأصوات.
بشكل عام، لا يمكن اعتبار التصويت لمصلحة اليمين المتطرف توجّهاً جديداً في فرنسا. ففي 1983، انتُخب والد لوبان "مستشاراً للبلدية". وأطلق الشعار الشعبوي المعادي للأجانب "باريس للباريسيين". ومنذ ذلك الوقت، استطاعت "الجبهة الوطنية" (التي تغيّر اسمها الآن ليصبح "التجمّع الوطني")، أن تستمرّ في إحراز نتائج ملفتة في الانتخابات.
حتى اعتمدت الأحزاب الرئيسة في جميع أرجاء العالم الخطاب اليميني المتطرف حول الأمن والقيم والتقاليد أو الهجرة، فإن فرنسا تستمر في كونها مثلاً مثيراً للاهتمام. إذ نشط اليمين فيها ثقافياً وسياسياً خلال سنوات ما بين الحربين العالميتين. ويشير بعض الباحثين إلى أن عدة أفكار فاشية استعارها أو طورها موسوليني لاحقاً، نشأت في فرنسا أساساً. وابتداء من ثمانينيات القرن الماضي، أصبح جان ماري لوبان طيلة عقود من الزمن الزعيم الأهم في اليمين الأوروبي المتطرف الذي شهد تزايداً في شعبيته.
في المقابل، حتى في معقل اليمين المتطرف كـ""بروفانس-ألب-كوت دازور"، تواجه السياسات التقليدية مأزقاً. وبدل الإدلاء بأصوات احتجاجية ودعم إحدى الحركات المتطرفة أو الشعبوية، قرّر المواطنون الامتناع عن التصويت.
وعلى غرار ما حدث في بريطانيا، لاحظ المحافظون هذا اليمين المعادي للأجانب والغوغائي، وكيّفوا سياساتهم بالتناغم مع ذلك الاتجاه. فقد تطرّف حزب "لي ريبوبليكان" Les Républicains، (= "الجمهوريين") في بعض سياساته، فيما شدّد حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الوسطي، "لا ريبوبليك اون مارش" ("الجمهورية إلى الأمام!") La République En Marche مواقفه إزاء الإسلام والهوية الفرنسية، ما يولّد نقاط تشابه مع آراء اليمين المتطرف في سياق سعيه (حزب الرئيس ماكرون) إلى تعزيز شرعية خطابه السياسي.
وفي وقت سابق، بدا تييري مارياني، مرشح "التجمع الوطني" في "بروفانس-ألب-كوت دازور"، سياسياً معتدلاً من يمين الوسط، وتولّى منصباً رفيعاً في الحكومة. وفي 2019، أصبح عضواً من اليمين المتطرف في البرلمان الأوروبي. وفي 2018، أثناء استمراره عضواً في حزب "الجمهوريين"، فكّر في إبرام تحالف مع اليمين المتطرف، وزعم مارياني أن "الجبهة الوطنية قد تطوّرت، ومن الممكن إبرام اتفاق أو حصول تقارب".
وثمة ما يثير القلق الآن متمثلاً في طريقة حصول تطبيع وتشريع لليمين المتطرف إقليمياً ووطنياً ودولياً. تكمن مخاطر عدة في تطبيع الاتجاهات غير الديمقراطية أو المتطرفة، وليس أقلها ما حدث من اقتحام لمبنى الكونغرس في الولايات المتحدة. ويخبرنا التاريخ العالمي للتطرّف اليميني كيف عمل المحافظون خلال سنوات ما بين الحربين على "إيجاد شرعية" مماثلة لمصلحة القومية المتطرفة.
ويشكّل ذلك كله جزءاً من أزمة الديمقراطية الغربية والأحزاب السياسية. وقد عبّر ذلك الأمر عن نفسه في فرنسا عبر ارتفاع نسبة الامتناع عن التصويت في 20 يونيو.
في تطور متصل، تمثّل الفائز إجمالاً في حزب "الجمهوريين" اليميني الوسطي الذي أحرز ثلث الأصوات تقريباً. ومع أن هذه الانتخابات ليست سوى انتخابات إقليمية، فقد بات بإمكانهم مجابهة ماكرون في انتخاب الرئيس الفرنسي المقبل بعد عشرة أشهر.
بعبارات أخرى، إن الخاسر اليوم هو الديمقراطية الفرنسية. فقد امتنع 66 في المئة من الشعب هذه السنة عن الإدلاء بأصواتهم، فيما سجّلت مشاركة الشباب والطبقة العاملة في الانتخابات معدلات ضئيلة. ويسلط ذلك الضوء على وجود نسب كبيرة من عدم الاكتراث، حتى بين المتعاطفين مع "التجمع الوطني"، إضافة إلى التشكيك بأهمية التصويت نفسه.
تكبر خيبة الأمل من سياسات الأحزاب. وصحيح أن "كوفيد" فاقم الوضع سوءاً، غير أن ازدياد انعدام المساواة يؤدي دوراً فيه كذلك. يجب أن تشمل السياسة الجميع وأن تقدم حلولاً. يحتاج الناس إلى رؤى، فيما يجب أن تنشط الأحزاب داخل المجتمعات المحلية.
إذاً، لن تربح لوبان الانتخابات الرئاسية في العام 2022. في المقابل، قبل التفكير في الأصوات التي حصدها اليمين المتطرف، علينا التفكير في طريقة تضمن انخراط مزيد من المواطنين في الديمقراطية والسياسة.
© The Independent