يقدّم الاكاديمي والمترجم البلجيكيّ كزافييه لوفان أنطولوجيا للشعر العربيّ، أرادها جمعًا وترجمة إلى الفرنسيّة لأعمال عدد من الشعراء والشاعرات العرب من السود، بعنوان "أنطولوجيا شعراء العرب السود". (Xavier Luffin, Poètes noirs d’Arabie, une anthologie VI°-XII°siècle, éditions de l’université de Bruxelles, 2021)
وقد اختار لوفان أن يجمع شعر هؤلاء الأعلام السود وينقله إلى الفرنسيّة، وخصّ بالذكر الشعراء الذين عاشوا بين القرنين السادس الميلاديّ والثاني عشر، أي بما يُعرف بشعراء الجاهليّة وصدر الإسلام والعصر الأمويّ والعصر الجاهليّ، وذلك في أنطولوجيا واحدة جديدة وفريدة من نوعها في الأدب العربيّ المترجم.
ويجعل لوفان لون البشرة القاسم المشترك الأوّل والأقوى في هذه الأنطولوجيا، فيخصّص مؤلّفه للشعراء السود دون غيرهم ويقول في مقابلة أجريناها معه عقب صدور أنطولوجيّته: "حرصتُ في كتابي على جمع نصوص لشعراء وشاعرات على حدّ سواء، يجمعهم لون البشرة الأسود، وقد قام باحث واحد في القرن العشرين بعمل شبيه بهذا الذي أقدّمه وهو عبده بدوي الذي وضع كتابًا بعنوان "الشعراء السود وخصائصهم في الشعر العربيّ" إنّما بالعربيّة، ليكون مؤلّفي هذا الأوّل من نوعه بالفرنسيّة من ناحية الجمع ومن ناحية الترجمة".
ويبرّر لوفان استعماله صفة "السود" في عنوان الأنطولوجيا قائلاً: "إنّ هؤلاء الشعراء صنّفوا أنفسهم بالسود في نصوصهم، وكثرٌ منهم ذكروا لون بشرتهم وتأثير هذا اللون على حياتهم في المجتمع. هناك شعراء كثر كمثل عنترة ونصيب وسُحيم تناولوا قضيّة العبوديّة التي عانوا منها بسبب لونهم وأصولهم. فالفكرة ليست جديدة تمامًا، حتّى إنّ هناك تصنيفًا في الأدب العربيّ هو "أغربة العرب" وهو جمع لشعراء سود تميّزوا بثورتهم على واقعهم الاجتماعيّ وعلى العنصريّة والحيف التي وقعوا تحتها. يختلف عدد "أغربة العرب" بحسب المؤرّخين فمنهم من يعتبرهم ثلاثة ومنهم من يعتبرهم سبعة وهم جميعهم مذكورون في هذه الأنطولوجيا إلى جانب آخرين تأثّر شعرهم بلون بشرتهم."
ويضيف لوفان حول اللون الأسود قائلاً: "يظهر في لسان العرب أنّ الأسود هو لون بشرة أهل البدو أيضًا كمثل الشاعر اللهبيّ. إذًا، وإن كان معظم الشعراء العرب السود من أصول أفريقيّة إلاّ أنّ منهم من هو من البدو الذين يتميّزون هم أيضًا ببشرة سوداء. فقد اشتهر البدو في التراث العربيّ بلونهم الأسود أو أقلّه بسمارهم الشديد، وبالتالي فاللون الأسود لا يعني أصولاً من أفريقيا حكرًا. لقد اختلف الأسود باختلاف العصور وباختلاف حركات الهجرة، وسمح لي تصنيف الشعراء السود بجمع شعرهم في بوتقة واحدة ذات صفة مشتركة".
الأدب العربيّ في الترجمة
اعتمد لوفان الترتيب التاريخيّ لشعراء هذه الأنطولوجيا، أي بحسب الأدوار الأدبيّة التاريخيّة، فتمّ تقسيم الشعراء بحسب العصور المتعارف عليها من الجاهليّة وصولاً إلى العصر العبّاسيّ، ثمّ حرص المؤلِّف على ذكر نبذة مقتضبة عن كلّ شاعر تلتها أبياته الشعريّة التي تمّ العثور عليها ونقلها إلى الفرنسيّة، وعندما دعت الحاجة، قدّم المؤلِّف شرحًا وافيًا للأبيات وقدّم تعليقًا عليها يحمل توضيحات لغويّة ومعجميّة وتاريخيّة.
وبرّر لوفان وجود هذه التوضيحات برغبته في جعل هذه الأنطولوجيا في متناول القرّاء جميعهم، المتخصّصين منهم وغير المتخصّصين، فقال: "ترافق النصوصَ تعليقاتٌ وتوضيحاتٌ ومعلوماتٌ عن الإطارين الزمانيّ والمكانيّ، فقد حاولت التوفيق بين مختلف أنواع القرّاء لئلاّ يتقلّص عدد المهتمّين بالكتاب ويصبح عددهم محدودًا. أردتُ أن أقدّم للقارئ مجموعة معلومات مفيدة قد تسهّل عليه القراءة مهما كان عمق معرفته باللغة العربيّة وأدبها وتراثها."
ويضيف لوفان متحدّثًا عن قارئ الأدب العربيّ في الغرب عمومًا: "عندما نتحدّث عن الأدب العربيّ نلقى اهتمامًا به لدى القرّاء الأجانب، قديمه وحديثه. عندما نرى قائمة العناوين المتوفّرة لدى دور النشر نجدها مثيرة للاهتمام، ما يعكس توقّفًا عند الأدب العربيّ وترجمته. تكمن المشكلة أحيانًا في أنّ الناشرين لا يتقنون اللغة العربيّة ليختاروا منها ما يجب أن يُترجم، فيعتمدون إمّا على خبرة المترجمين وإمّا على الجوائز وإمّا على ما يروج في الإعلام الثقافيّ، وبالتالي فهم لا يعرفون حقيقة المشهد الأدبيّ العربيّ. يشكّل هذا الأمر عقبة فعليّة غير موجودة في الآداب الأخرى كالأدب الإنكليزيّ مثلاً، بحيث يعرف الناشر جودة النصّ وقيمة الكاتب من دون الحاجة إلى وسيط. يبقى حاجز اللغة للأسف الحاجز الأساسيّ لنشر الكتب المترجمة عن العربيّة، لكنّ الاهتمام موجود."
وبالحديث عن المترجمين ودورهم في نقل الأعمال الأدبيّة العربيّة إلى لغات أخرى وبخاصّة الفرنسيّة يقول: "المترجم عمومًا لا يملك حرّيّة ترجمة ما يروقه وما يدخل ضمن ذائقته الشخصيّة فهو ينصاع لرغبات الناشر الأجنبيّ الذي يملك حسابات معيّنة. يفضّل الناشر ترجمة أعمال نالت حصّتها من الشهرة قبل أن تُنقل إلى الفرنسيّة. هذا المؤلّف مثلاً لم يكن من السهل إيجاد ناشر له، فقد تواصلت مع دور نشر متعدّدة لكنّ المؤلّف لم يلقَ صدى وحماسة، فقرّرت أن أنشر العمل في نهاية الأمر في دار نشر جامعة بروكسل التي أعمل فيها، فهذا عمل جامعيّ أكاديميّ أكثر من كونه ينتمي إلى الأدب الشعبويّ كالروايات أو النصوص الأدبيّة الأخرى".
المصادر والصعوبات
يذكر كزافييه لوفان في مؤلّفه مجموعة من المصادر والمراجع والمعاجم التي استعان بها ليجمع القصائد ويترجمها ويؤطّرها، هو الذي عمل على مؤلّفه هذا لسنوات متعدّدة فيقول: "كان التحدّي الأكبر هو في إيجاد نصوص الشعراء، فلم يكن سهلاً إيجاد المصادر والمراجع التي تحتوي على نصوصهم وبخاصّة في أوروبّا. هناك شعراء كان من السهل إيجاد نصوص لهم كعنترة بن شدّاد، لشهرتهم ولوجود دواوين لهم، إنّما ليست هذه حال جميع الشعراء المذكورين في مؤلّفي."
أمّا من أكثر الكتب إفادة في هذا المجال فهو مؤلّف الجاحظ " كتاب فخر السودان على البيضان"، فيؤكّد لوفان أنّه وجد فيه قصائد متعدّدة غير موجودة في مصادر أو مراجع عربيّة أخرى. كما أنّ هناك شعراء لم يجد لهم قصائد سوى لدى الجاحظ كمثل السُلَكَة أمّ السليك من العصر الجاهليّ. والسُلكة هي أمّ السليك الشاعر الصعلوك الذي ضُرِب فيه المثل لسرعته فكان يُقال "أعدى من السُليك بن سلكة" والذي لم تصلنا الكثير من القصائد له هو الآخر".
ويضيف لوفان: "صحيح أنّ هذا النوع من التصانيف ظلّ خجولاً وقليلاً في الأدب العربيّ وفي تراث النقد إلى حدٍّ ما، إنّما تمكّنت من الاستعانة بعدد من المصادر كمثل كتاب "تنوير الغبش في فضل السودان والحبش" لابن الجوزي (1116- 1201)؛ وكتاب "نزهة العمر في التفضيل بين البيض والسمر" لجلال الدين السيوطي (1445- 1505)؛ و"مفضّليّات المفضّل الضبّي" (ت. 780)؛ و"كتاب الشعر والشعراء" لابن قتيبة (ت. 889)؛ و"كتاب طبقات الشعراء" لابن المعتزّ (ت. 908)؛ وطبعًا "كتاب الأغاني" لأبي الفرج الأصفهانيّ (ت. 967)؛ ليبقى "لسان العرب" لابن المنظور (ت. 1311) المعجم الذي لا مفرّ من العودة إليه."
ومَن يملك اطّلاعًا على الشعر القديم يدرك إلى أيّ درجة يمكن أن تكون التحدّيات محبِطة وصعبة، فأفخاخ اللغة كثيرة، هذا من دون ذكر الغريب من المرادفات، والاستعمالات التي لم تعد مألوفة لدينا في عصرنا الحادي والعشرين. ولا يخشى لوفان من الإشارة إلى هذه الصعوبة في الترجمة فيقول: "من التحدّيات الأخرى أذكر طبعًا اللغة، من ناحية المعاني والمفردات التي كان يجب أن أوظّفها في سياقها التاريخيّ والاجتماعيّ والجغرافيّ. كانت خصائص اللغة واستعمالاتها في السنوات الغابرة مختلفة عمّا نستعمله في الأدب العربيّ اليوم، ما اضطرّني إلى الاستعانة بأصدقاء هم أيضًا من المتخصّصين. ويمكنني أن أؤكّد في هذا الإطار أنّ المتخصّصين أنفسهم اختلفوا في الآراء والتفاسير ولم يقدّموا دومًا إجابات قاطعة أو متشابهة. هذا الأمر هو خير دليل على صعوبة المهمّة وثراء اللغة، فليست الأمور دومًا بدهيّة. إنّ ترجمة كلمات معيّنة كانت مهمّة صعبة بمكان إنّما ما سهّلها وجود عدّة نسخ للقصيدة الواحدة، وبمقارنة النصوص تمكّنت من بلوغ المعاني. أذكر كذلك أنّ عددًا من الكلمات كان يحمل معاني غامضة أو ملتبسة فكانت مهمّة ترجمتها صعبة، وبخاصّة تلك الموجودة في نصوص شعراء العصر الجاهليّ. في أحيان كثيرة لم تؤدِّ ترجمة الكلمات المعنى المقصود، وبخاصّة لدى الشعراء الصعاليك الذين شكّلوا تحدّيًا كبيرًا بقصائدهم وكلماتهم ومعانيهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تأثير لون البشرة على الشعر
لا يستغرب متذوّق الشعر العربيّ اختيار لون البشرة كعنصر مشترك في أنطولوجيا لوفان، فلون البشرة أثّر في حياة هؤلاء الشعراء وظهر في شعرهم موضوعاتٍ وأسلوبًا. فمن الشعراء مَن وظّف أبياته لأغراض الفخر أو الهجاء، كما هي حال الحيقطان الشاعر والخطيب الذي عاش في العصر الأمويّ وتبادل الهجاء مع جرير بعد أن هجاه هذا الأخير للون بشرته. وقد برزت في شعر الحيقطان النزعة الشعوبيّة التي نتجت عن نزاع دبَّ بين السود والعرب في الإسلام بسبب نظرة الازدراء التي أخذ الفاتحون ينظرون بها إلى السود. راح العرب يترفّعون عن السود ولا يخالطونهم، فاغتاظ هؤلاء وراحوا ينبشون الماضي للإتيان بالأخبار وبالأشعار عن دور الحبش في جزيرة العرب قبل الإسلام، فظهرت هذه المفاخر في شعر الحيقطان وغيره من الشعراء الذين افتخروا بالحبش على العرب.
وهناك طبعًا عنترة بن شدّاد أحد أشهر شعراء ما قبل الإسلام الذي أحبّ ابنة عمّه عبلة بنت مالك أعظم الحبّ وأشدّه، ووضع في حبّها القصائد الكثيرة، فاشتهر بأبيات النسيب والفخر بفروسيّته وبطولاته، لكنّه عندما تقدّم إلى عمّه مالك ليخطبها، رفض هذا الأخير أن يزوّجه ابنته بسبب لونه، فكانت النتيجة المزيد من أبيات الفخر والنسيب والفروسيّة.
أمّا نصيب بن رباح (ت108ه) فتأثير لون بشرته على حياته وشعره كان شديدًا، فلمّا بدأ بقول الشعر لم ينسبه إلى نفسه بل إلى بعض شعراء ماضين ذائعي الصيت، لأنّه أدرك أنّ لون بشرته سيحول دون نيله الإعجاب الملائم، فلمّا لقي استحسانًا، خرج إلى مصر وبدأ ينشد الشعر هناك باسمه إلى أن بلغ عبد العزيز بن مروان. ويُقال إنّ نصيبًا أحبّ جارية وعرض عليها الزواج فأبته، فكتب لها شعرًا حول لونه، ومن أبياته: "فإن أكُ حالكًا فالمِسْكُ أحوى/ وما لِسوادِ جلدي منْ دواءِ. ومثلي في رجالِكم قليلٌ/ ومثلُكِ ليس يُعدمُ في النساء. فإنْ ترضَيْ فردّي قولَ راضٍ/ وإن تأبَيْ فنحن على السواءِ." وقيل إنّ المرأة عندما قرأت أبياته تزوّجته.
أمّا دنانير بنت كعبويّة الزنجي فقد طالها هي الأخرى السوء بسبب لون بشرتها وهو ما ظهر في شعرها. فلمّا كانت شديدة السواد طلّقها زوجها صبيحة عرسها قائلاً: "إنّ الدنانير تكون سودًا؟" فوضعت فيه قصيدة هجته وأشادت بلون بشرتها ونصاعة لون قلبها.
شعراء كثر من السود فخروا بلونهم وبطولاتهم وكرمهم وهجوا من تعدّى على عرقهم ولونهم، فكانوا بذلك بذور محاربة العبوديّة والعنصريّة التي ستترسّخ لقرون كثيرة عند العرب. إنّما أيضًا من ناحية أخرى يذكر لوفان أنّ هناك شعراء لم يذكروا أبدًا لون بشرتهم، كالسليك بن سلكة والشنفرة وهما من صعاليك العصر الجاهليّ.
ويشير لوفان في الحديث المُجرى معه إلى أنّه تمّ تناول لون البشرة بكلمات ومفردات كثيرة في اللغة العربيّة، وهذا ليس سوى دليل على غنى اللغة وقدرتها على احتواء المجاز والمعاني المتعدّدة. حتّى أنّ أسماء الشعراء احتوت دلائل على لونهم، ولا يمكن لناقد أو باحث أن يلمّ بالمعاني إن لم يكن مطّلعًا بل متعمّقًا بشؤون العرب القدماء. فسُحيم مثلاً الشاعر المخضرم الذي عُرف بغزله الصريح وتشبيبهه ببنات أسياده والذي مات قتلًا في زمن الخليفة عمر بن الخطاب، يعني اسمُه الأسود إنّما بصيغة التصغير، وسنيح بن رباح شار زنجي وهو شاعر من الفصحاء البلغاء، يعني اسمه "سنيح" الجبل الأسود الفارد الضخم الموجود في أرض بني عبس، أمّا "شير زنجي" فيعني أسد الزنج. وأبو دلامة كذلك، وهو شاعر ساخر عاش في العصر العباسيّ، لكنيته تفسيرات كثيرة. فذهب البعض إلى القول بأنّه لقّب كذلك نسبة لابنه الذي كان يدعى دلامة، بينما ذهب آخرون للقول بأنّ دلامة اسم جبل مطلّ على الحجون بأعلى مكة، ويقال إنّ هذا الجبل كان أسود ذا صخر أملس، وكان محلًا لوأد البنات في الجاهليّة، فكُني هذا الشاعر به لوجود شبه بينه وبين هذا الجبل. والقول الثاني هو الأصحّ.
"أنطولوجيا شعراء العرب السود" جمع جميل وترجمة أنيقة ومجهود محمود قام به المترجم البلجيكيّ كزافييه لوفان ليضيف إلى المكتبة العربيّة جوهرة جديدة وقيّمة بمكان، ويقدّم إلى القارئ الأجنبيّ شيئًا من روائع شعرنا العربيّ القديم المليء بالتحدّيات والكنوز.