من بين الدمار والدخان والأشلاء، تطل الشابة اليمنية سبأ جلاس بإضاءات إبداعية فنية ترجمتها بلمسات ريشتها التي عبرت ألوانها عن مأساة شعبها على هيئة صور إبداعية واقعية، تنأى بنفسها عن تعقيدات الخيال السريالي.
ومثلما كان للكلمة البدء في حمل قضايا الناس، ثمة عطاءات إبداعية أخرى تختزل آلاف الكلمات في مشاهد بصرية مترعة باللون والدهشة، وهو ما ترجمته صور لوحات التشكيلية سبأ.
وعلى الرغم من أن سبأ ذات الـ37 سنة، مارست هوايتها منذ بواكير طفولتها كشغف نشأ وترعرع معها عندما ملأت دفاتر المدرسة وحيطانها، فإن لهيب مأساة الحرب أشعل جذوة أصابعها الرفيعة حتى أسال منها ألواناً شتى من الدهشة على صدر لوحات، ترجمت ما يختلج في صدر الشابة التي تخرجت في قسم اللغة الفرنسية، فاصطدمت طموحاتها بواقع الحرب التي تنهش بلدها، لتسخر وقتها وجهدها للرسم، وهي الفرصة التي لم تكن تعلم أنها ستقدمها مبدعة فذة لأبناء بلدها والعالم.
الحرب إذ تلهب الخيال
هل يمكن للحرب أن تلهم أحدهم على الإبداع؟ عالم المبدعين يؤكد أن التاريخ خلد العديد من الأسماء التي شحذت أسنة الحروب خيالات مواهبهم في صور جمالية ملهمة، وهي التجربة التي تحكيها ابنة صنعاء، التي أكدت أن سعير الحرب أنضجت موهبتها التي ولدت معها منذ طفولتها، ونما اللون معها جنباً إلى جنب، فكلما اسودت الأيام في بلدها أو ادلهمت، انبرت له بألوانها الزاهية وواجهته بعنفوان خيالها، تزينه بطريقتها الخاصة حتى تغدو الأشياء من حولها عالماً من البهجة الفاتحة والقزاحيات المدهشة.
في لوحة لافتة لها تشكل التشكيلية اليمنية فتاة تمسك المكحلة التقليدية لتداري الأخاديد الغائرة التي شقتها براكين الدموع، وأدمى الفقد والسهاد بريق مقلتيها الحوراوين، كما تفسرها سبأ في حديثها.
ولفرط تأثرها من محيطها الموحش بالحروب والجوع، تجسد سبأ في لوحة أخرى، طفلاً كسيراً حظه أن رمت به الحرب في قوارع الوحشة ومجاهيل القادم المرعب، ولم يتبقَ له إلا لعبه المحطمة، ورسومات لأسرته تعلو ما تبقى من جدار شارعه المتصدع، تقول سبأ عن هذه اللوحة، "كأعماقه التي مرت عليها الحرب، علها تؤنس وحشته الرهيبة وسط الخوف والفجيعة".
لم تغفل التشكيلية اليمنية قضايا إنسانية أخرى يشترك في معاناتها جميع البشر، كمثل لوحات أخرى قالت إنها تعبر فيها عن مآسي الجرحى والأرامل والأيتام ومرضى السرطان والعنف الأسري وقطع شرايين الطرقات بين المدن، بفعل ما تخلفه الحروب وتداعياتها.
تقول سبأ، "الحرب هي التي ألهمتني أن أعكس معاناة شعبنا جراء تداعياتها المأساوية".
من دفتر الأيام
التشكيلية اليمنية المولعة بالخطوط والألوان، تحكي قصص البدايات والشغف الذي لازمها طويلاً حتى على مقاعد الدراسة، "منذ طفولتي أحب الرسم، وفي المرحلة الابتدائية كنت دائماً أرسم حتى في الامتحانات كنت أنهي الإجابات بسرعة كي أقلب الورقة، وأجلس أرسم حتى ينتهي الوقت، كذلك الحال في هوامش الكتب والدفاتر".
تواصل ضاحكة، "أحياناً، أذاكر دروسي بالرسم لكي أحفظ المعلومة". ولتتويج هذا الشغف بالتحصيل العلمي الأكاديمي، "كنت آمل الدخول في كلية الفنون الجميلة، لكنني اكتشفت أنه لا خيار لديّ في جامعة صنعاء سوى الأدب الفرنسي الذي تخرجت فيه بدرجة البكالوريوس".
أعمدة الدخان لوحة فنية
الدراسة والحياة لم تمنعا سبأ من مواصلة هوايتها، ولهذا "ظللت أرسم من وقت لآخر كهواية إلى أن اندلعت الحرب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من بين الخرائب والغبار المتصاعد، "حولت صور الدخان إلى لوحات فنية مستلهمة من تكويناته، وهي تجربة تأثرت بها بالصدفة بعد أن رأيت أعمال فنانين فلسطينيين مستوحاة من الدخان الذي خلفه قصف غزة".
الأمل والتسامح
وتضيف، "الانقطاع عن العمل بسبب الحرب منحني أفقاً أوسع سخرته للتحليق في فضاء الرسم، ومع طغيان صوت الحرب، كنت أحرص في المقابل على تجسيد صور التسامح والأمل في أعمالي".
انتشار عالمي
إبداعاتها المستوحاة من تشكيلات الدخان انتشرت انتشار النار في هشيم الحرب، وقدمتها للعالم، حتى "تفاجأت بردة فعل الناس التي تداولوها على نطاق واسع، ووصلت إلى دول لم أتوقع يوماً أن تصل لها مثل اليابان وأستراليا وتركيا وألمانيا وأميركا وغيرها".
هذه التجربة أخصبت خيالها في خلق مجالات أوسع في عالم الرسم كنافذة إضافية تطل بإبداعاتها على العالم، ولهذا "فكرت في أن أرسم أكثر وأجرب خامات فنية أخرى وأغادر دائرة الرسم لنفسي أو لمحيطي الصغير، فرسمت بالرصاص والألوان الخشبية والباستيل، وغرقت في الألوان الزيتية".
ظلت سبأ تواصل العوم في أعماق بحور الألوان الأخاذة كهواية تلازمها، وهنا لا تغفل أن تشيد بأسرتها التي قالت إن لها الفضل الكبير في دعم وإسناد مسيرتها الإبداعية، كما أشادت بأصدقائها ومتابعيها في مواقع التواصل الاجتماعي "الذين كانوا لي مشاعل مضيئة للعطاء والاستمرار والإلهام".
فلسفة الممارسة
لسبأ فلسفتها الخاصة في عالم الرسم تتمثل بالممارسة التي تعتبرها أحياناً في منزلة مقدمة على الموهبة كونها "تصقل قدرات الفنان وتفتق مخيلته، بالتالي تحسن من خطوطه وأسلوبه وفلسفته الخاصة".
الواقعية
تأثرت سبأ بأعمال عدد من الرسامين اليمنيين الذين قالت إنهم "فنانون استثنائيون لطالما ألهمونا بأعمالهم الخالدة، ومنهم الراحل عبدالجبار نعمان، وزكي اليافعي، وطلال النجار، وردفان المحمدي"، وهو ما يفسر اعتناقها مذهب المدرسة الواقعية المتجردة في أعمالها تأثراً بهم.
ألوان وموسيقى شتى
وفي غمرة طقوسها وأجوائها التي تعيشها إذ تهم بمداعبة ريشتها، تحرص سبأ على تهيئة أجواء ترجمة الألوان في لوحاتها من خلال الهدوء التام وسماع بعض الموسيقى.
فمثلما للرسم ألوان شتى، تستمع سبأ لمزيج موسيقي منوع، فهي تسمع "كل فن جميل، والكثير من الأغاني المحلية والعربية والأجنبية، ولا أتقيد بلون موسيقي أو غنائي معين، ولهذا فهناك مزج بين الألوان وعوالم الموسيقى واختلافاتها".
نجاح عابر للحدود
كان لا بد لنجاحها المتنامي داخلياً أن يقودها للبروز أكثر والتعبير عن مأساة شعبها خارجياً، فحضرت لمسات أناملها الفنية في عدد من المعارض الدولية، "شاركت ضمن معارض وفعاليات بعضها كانت مناهضة للحرب في معرض متنقل بأميركا اسمه Stories never told، وفعالية في فرنسا اسمها Un jouer pour le Yemen، وفي معرض آخر في مصر ضمن قافلة الفن اليمنية الثانية، بالإضافة إلى مشاركات أخرى في ألمانيا واسكتلندا والكويت".
بالغ الأثر
لم تُخفِ الفنانة الشابة حسرتها وهي تتحدث عن حضور فاعل لأعمالها دولياً، فيما لم تشهد إقامة أي معرض لها في بلدها بسبب "الحرب التي استنزفت كل صور الجمال والإبداع، وحلت مكانها صور الخراب والدمار".
ولكنها، بحسب قولها، تجد في إشادات الناس والمتابعين والمهتمين سواء في اليمن أو خارجها، بالغ الأنس والسلوى "بمجرد شعوري بمتابعة وإشادة أبناء بلدي أو أي بلد آخر وفهمهم لمعاناتنا التي ترجمتها بريشتي، شيء ليس قليلاً بالنسبة لي لطالما يمنحني سعادة واعتزازاً وطاقة إيجابية للعطاء الدائم".