رواية "تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة" (دار العين)، للمصري شادي لويس؛ في إطار اجتماعي واقعي، جانباً من حياة أسرة مسيحية مصرية في زمن مكثف تدور أحداثه في نحو يوم واحد على لسان السارد الذي كان طفلاً في فترة الثمانينيات. وتكشف الرواية بسبب طبيعة سردها الغني بالوصف الذي يبطئ من حركة السرد عن تفاصيل بسيطة جداً لتلك الأسرة ومشاكلها الاجتماعية وتفاعلها مع العالم المحيط بها؛ بداية من الجيران، فمحيط العمل، فالمجتمع ككل، ببنيته الثقافية الدينية والسياسية والنفسية.
وتبدأ أحداث الرواية بزيارة "رجائي" وزوجته "هيلانة" القادمين من الأقصر إلى أسرة الطفل السارد. ويحاول المؤلف أن ينقل تلك الأحداث بعين الطفل متضمنة تفاصيل تلك الزيارة وما تلاها من زيارات وسعادته دوماً بها، لأن رجائي يمنحه مبلغاً سخياً في كل مرة، بالإضافة إلى الحكي الذي يجمع الأسرتين، إلا أن هذا التناغم ينقطع حين ينادي "موريس" زوجته من على مائدة الطعام ويطلب منها أن تتبعه إلى المطبخ، وهناك يعتدي عليها بضرب مبرح يسمعه الضيوف والابن، لتعود الزوجة وآثار الضرب بادية عليها وتعتذر لهيلانة لأنها قدمت لها "أكل صيامي"، ولم تقدم لها من الطعام الذي يأكله "رجائي وموريس والطفل شريف". عند ذلك تبكي هيلانة عندما تعرف أنها هي كانت سبب الضرب، وتؤنب موريس على فعله، ثم تنصح "أم شريف" بأن تترك المنزل وألا تبقى معه، مؤكدة لها أن سبب مرضها العضال هو عنف زوجها.
وبالفعل تقوم "أم شريف" بجمع ملابسها وملابس ابنها في "كيس زبالة"، وتغادر المنزل رفقة ابنها الصغير، باحثة عن مأوى. تذهب إلى الكنيسة فلا تنصفها. تتنقل من مكان إلى مكان، حيث تتقاطع الأحداث، وترى الجثث في شوارع القاهرة دون أن تعرف سبباً للعنف المسلط ضد المتظاهرين، ما يضطرها إلى العودة إلى المنزل الذي خرجت منه.
العنف الأسري
وتناقش الرواية في كثير من تفاصيلها العنف في عدة مستويات؛ بداية من الأسرة، فنحن أمام الأم التي تتعرض للضرب المبرح دون أن تجد من يدفعه عنها، وأن يمنع تأثيره النفسي على ابنها. ثم نجد الأم نفسها تصب غضبها المكبوت على طفلها بأن تضربه بقسوة أيضاً. يمتد هذا العنف بأن يستحل موريس أموال زوجته من عملها ويأخذها لنفسه، وحين علم أنها حصلت على مكافأة إضافية ولم تعطه إياها توجه إلى محل عملها وضربها أمام زملائها، وأوصى الصراف بأنه كلما جاءت مكافأة عليه أن يبلغه بها، ليستجيب الأخير في تواطؤ ذكوري.
وكعادة المستضعف، فإن المرأة تلجأ إلى الحيلة أو ما يعرف بـ"الفهلوة" كي تأخذ بعض حقوقها دون أن تتعرض لغضب الجلاد، لذا تستعين بزميلاتها في العمل ليقنعن المدير بأن يمنحها مكافآتها باسم إحداهن حتى لا يستولي عليها زوجها بمساعدة الصراف. وتمتد هذه الآلية إلى تعاملها مع "الدولة" فتسرق "أم شريف" ملابس من محلات تابعة للقطاع العام، وتستولي على باريه قبعة المجندين الذين يحرسون الكنائس.
هذا العنف الذي يمارسه الرجال تجاه زوجاتهم ربما يرجع سببه إلى الظلم المجتمعي الذي يعانيه بعض الأقباط في مصر، إلا أن الرواية تصمت عن هذا السبب. ففي هذا المجتمع كل يقهر من هو أدنى منه مرتبة أو تحت مسؤوليته، فالجلاد يتحول إلى ضحية والضحية تتحول إلى جلاد. كل ينفس عن العنف الذي يمارس ضده. وإذا كانت المرأة تتعرض للعنف، فكذلك الكنسية التي تذهب إليها "أم شريف" للصلاة فتجد أنها تتعرض للحرق كلما جرى تجديدها.
مشكلة الطلاق
ومن القضايا التي تناقشها الرواية بصورة غير مباشرة قضية الطلاق في المسيحية، فالمرأة المضطهدة من قبل زوجها غير قادرة على الفرار من الجحيم الذي تعيش فيه. إن هربت من هذا العذاب إلى بيت أهلها تتم إعادتها إلى بيت زوجها، وإن ذهبت إلى الكنيسة لا تقف في صفها بدعوى أنه ليس لديها وقت كي تبدده في حل المشاحنات العائلية. فجوة هالة بين ما تعانيه المرأة في بيت زوجها وبين خطاب راعي الكنيسة الذي يحدثها عن الآلام الكبرى. تحدثه عن القدر الذي تقاسيه يوماً بيوم. عن تورم وجهها. عن خبطات رأسها في الحائط. إلا أن كل هذه العذابات لم تكن تعني له سوى أنها "دلع نسوان". هذه المشكلة تدفع الزوجة إلى تهديد زوجها بالانتحار تارة، وتقدم على فعله بأن سكبت على نفسها البنزين كي تتخلص من حياتها. وفي موقف آخر ادّعت أمام زوجها أنها ستتحول إلى الإسلام كي تتمكن من مفارقته، ما دفعه إلى الاتصال بأهلها، فأتوا على عجل، وانهالوا عليها بالضرب المبرح.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا كانت المرأة والطفل هما الأكثر تعرضاً للقهر والعنف في هذا المجتمع، فإن الرواية تلفت إلى فئة أخرى تتعرض للقمع متمثلة في جنود الشرطة الذين يراهم السارد جالسين أمام الكنائس ببنادقهم من أجل حمايتها. تكشف الرواية عن النظرة السلبية التي يتعرضون لها والنكات التي تطلق عليهم، وأنه لا يتم اختيارهم للانضمام إلى تلك الخدمة العسكرية إلا بعد التأكد من غبائهم الشديد لضمان طاعتهم العمياء. إلا أن البلد يفاجأ بانتفاضة هؤلاء في أحد أيام شهر فبراير (شباط) عام 1986م "هاج العساكر المغلوبون على أمرهم. هؤلاء الذين لا يعرف الواحد منهم يمينه من شماله. هؤلاء تحديداً دون غيرهم. الأنفار المدربون بالجوع والمهانة. هؤلاء الذين لم يكترث أحد بالسؤال عن أسمائهم، حتى من حرسوهم اكتفوا بالسخرية منهم. خرجوا كالجراد، حطموا أبواب المعسكرات، قفزوا من على أسوارها، سحقوا الضباط تحت بياداتهم التي تفوح بنتانة ساعات التذنيب الطويل، حملوا بنادقهم وكادوا يحرقون البلد، لولا تصدي الدبابات لهم"، ص180.
وفي الختام، فإن الرواية تتمتع بقدر كبير من العفوية، ما يمنحها قوة في إرسال ما تريد توصيله للمتلقي دون الوقوع في المباشرة الفجة، كما تكشف عما يملكه شادي لويس من قدرة على الحكي بجعل التفاصيل الحياتية البسيطة عملاً روائياً جاذباً قوي الحبكة.