قبل أيام، قال المبعوث الأميركي لليمن تيموثي لندركنغ، إن الولايات المتحدة تعترف بالحوثيين طرفاً شرعياً في العملية السياسية التي يعمل المجتمع الدولي على إعادة الحياة إليها. أيضاً الأسبوع الماضي صرّح وزير الخارجية اليمني أحمد بن مبارك من برلين بأن الحكومة اليمنية تعتبر الحوثيين طرفاً رئيساً في المعادلة اليمنية، مشترطاً اعترافهم بحقوق المواطنة المتساوية، وأضاف أنها تعتبر المجلس الانتقالي جزءاً من الشرعية بحكم مشاركته بخمسة وزراء في الحكومة التي تشكلت بموجب اتفاق الرياض الموقع في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019.
تصريح المبعوث الأميركي ليس مفاجأة، بل جاء متسقاً مع النهج الذي أعلنته الإدارة الجديدة أثناء وبعد الانتخابات الرئاسية، ثم دشنته بإلغاء قرار الإدارة السابقة القاضي بتصنيف جماعة الحوثيين تنظيماً إرهابياً. في الوقت نفسه، يمكن القول إن تصريح الوزير اليمني بخصوص "الجماعة" جاء في سياق التوجهات الإعلامية الرسمية التي تحاول مجاراة الموقف السياسي والإعلامي في العواصم الغربية الذي يتعامل مع الحوثيين كسلطة أمر واقع تسيطر على مساحات جغرافية كبيرة. يمكن القول إن موقف بن مبارك لا ينسجم مع أهداف الشرعية المعلنة في بدايات الحرب التي كان من أهدافها القضاء على الجماعة واستئصالها نهائياً، والتي من أجل إنجازها طلبت التدخل الخارجي لمساعدتها في تحقيقه.
واقع الحال أن الوضع الذي نشأ في اليمن بعد 2015 أخل بموازين القوى الداخلية، وجعل من القوتين اللتين نشأتا قبل وخلال الحرب منافساً قوياً وجاداً، وصار وجود الشرعية في مثلث الصراع الحالي هو الأضعف على الأرض، ولم يعد يسندها عملياً إلا استمرار الدعم الإقليمي وبخاصة السعودي، بينما صارتا تتعاملان كسلطتي أمر واقع في الرقعتين الجغرافيتين اللتين تتحكمان فيهما، وهذا وضع جعل المعادلة اليمنية أشد تعقيداً، وأضحت مخرجاتها غير مرتبطة بما تبقى للحكومة الشرعية من اعتراف دولي هزيل كطرف من أطراف الحرب.
حالياً لا توجد قوة حقيقية في الشمال تنازع جماعة الحوثيين السلطة إلا في أجزاء محددة في تعز والبيضاء وفي مأرب التي تدور حول تخومها حرب ضروس، دفعت فيها الجماعة بأرتال متتالية من المحاربين في مواجهة مقاومة شرسة من القوات داخل المدينة، ولولا الدعم الجوي السعودي لكانت المعركة أخذت منحى مختلفاً يغير خريطة المشهد السياسي في اليمن، وربما في المنطقة كلية.
وفي الوقت نفسه يزداد التوتر في الجنوب بين قوات المجلس الانتقالي والقوات الموالية للرئيس هادي، وبلغ حد المواجهة الدامية في أكثر من مناسبة، كما أن المجلس ما زال مستمراً في الاعتراض على ممارسة الحكومة كامل سلطاتها الدستورية، وهو في حال خصومة مع أقوى أحزاب الحكومة، حزب الإصلاح.
أنا هنا لا أضع مقارنة بين المجلس الانتقالي وجماعة أنصار الله الحوثية، لكن ما يجب أن يكون واضحاً هو أن المجلس له هدف محدد معلن لا يرتبط بنتيجة الحرب الدائرة، بينما يعلن الحوثيون التزامهم بوحدة الأرض اليمنية بحسب رؤاهم الخاصة لشكل اليمن المقبل، إذا ما تمكنوا من السيطرة على كامل رقعته الجغرافية. المشترك الوحيد الذي يجمعهما هو رفضهما المحاولات الخجولة للشرعية اعتبار سلطتها هي السائدة على مجمل الأراضي اليمنية شمالاً وجنوباً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تواجه الحكومة إشكالاً فاضحاً لضعفها السياسي والعسكري، فهي عاجزة عن مواجهة المنافسين الجادين لسلطتها، وغير قادرة على مقاومة الإجراءات التي يواليان اتخاذها في مناطق نفوذهما، فالمجلس الانتقالي يتعامل مع الأوضاع متخلياً عن الالتزامات التي وقع عليها في الرياض (5 نوفمبر 2019) مع الحكومة، ويصر على إدارة العاصمة المؤقتة عدن باعتباره كياناً مستقلاً مكتمل الشرعية، مستغلاً وجوده على الأرض والدعم المعنوي والمادي الواضح الذي يتلقاه من الإمارات، وشمالاً تعاني الحكومة على أكثر من جبهة عسكرية، ولولا الدعم الجوي السعودي لانهارت كل جبهاتها، كما لم تتمكن من الإدارة الكفؤة في المناطق التي تقع تحت يدها شمالاً وجنوباً.
يسيطر الاضطراب وتضارب المصالح وتقاسم النفوذ على المشهد في جنوب اليمن، وسببه أن البون شاسع بين قرارات المجلس ومقدراته الواقعية لفرضها، فممارسة السلطة على الأرض تحتاج إلى إمكانات مادية وإدارية لا يمتلكها، ولن يتمكن منها دون تفاهمات جنوبية – جنوبية، والبداية الانفتاح على خصومه ومعارضيه، والاقتناع بأنه لا يمثل كل الجنوبيين.
وقد أدرك المجلس الانتقالي، وإن متأخراً، حاجته إلى تفاهمات مع القوى اليمنية الجنوبية التي لا تنضوي تحت مظلته، وهي كثيرة وتعبر عن شريحة واسعة من الجنوبيين. هذه القوى يختلف بعضها مع توجهاته الآنية والبعيدة، وهو أمر يضع على المحك صدقيته وقدرته على فرض نفسه ممثلاً للقطاع الأوسع من أبناء الجنوب، كما أحسن باختيار مراد الحالمي كشخصية هادئة ومقبولة لقيادة عملية الحوار الداخلي.
في حين تتشبث الحكومة بمخرجات الحوار الوطني والمبادرة الخليجية والقرار (2216) باعتبارها خطوط الحياة الوحيدة بالنسبة إليها، فإنها غير مقبولة عند المجلس، فهي لا تقدم حلاً مقبولاً عنده، ولا تعرض المخارج التي تفي برغبته في الانفصال واستعادة الدولة التي كان يديرها الحزب الاشتراكي اليمني حتى 22 مايو (أيار) 1990، ومن هنا فإن "اتفاق الرياض" يحتاج إلى إعادة النظر في طريقة التعامل مع نصوصه التي يتجاوزها الواقع كل يوم، بسبب تباعد الأهداف بين طرفيه (الحكومة والمجلس الانتقالي)، خصوصاً أن غايتهما النهائية متناقضة تماماً، والحوثيون أيضاً لا يرون في المرجعيات أي مدخل لإنجاز أغراضهم.
ستبقى مفاوضات السلام المنشود في حال جمود حتى تستقر الأوضاع في جنوب اليمن، وهو أمر يبدو بعيد المنال بسبب الصراعات التي تعصف بطرفي اتفاق الرياض، وسيكون من الصعب تجاوزها لأن الثقة بينهما لم تترسخ إلى حد يسمح بتشكيل فريق واحد يذهب للبحث في وقف الحرب مع استمرار انهيار الخدمات والتحريض الإعلامي والتنافر السياسي والحروب الصغيرة.
من المؤسف أن عوامل الذهاب إلى مفاوضات إنهاء الحرب لم تتوافر، لأن كل أطرافها اليمنية ما زالت تؤمن بقدرتها على كسب مزيد من النفوذ على الأرض، ولم يصل أي منها إلى قناعة بأن المواطن العالق بينهم يتحمل وحيداً كامل أعبائه الإنسانية، ولن يتمكن أي مبعوث دولي أو إقليمي من استنهاض الحس الوطني والأخلاقي عند جماعات صارت غايتها الوحيدة استمرار مكاسبها المادية.